ألْتَحَطُّبُّ ألمُجتمعيّ
سيهانوك ديبو
تعتبر أسطورة غلغاميش بأنها ذات دلالات عظيمة لحضارة حدثت في الجزء الأعلى من ميزوبوتاميا ودارت رحاها حول عدة مواضيع أساسية أهمها اصرار ملك أور –غلغاميش- على البقاء خالداً؛ خاصة بعد فقدانه لصديقه أنكيدو، والأخير هدية الآلهة “أرورو” لسكان “أور” الذين لاقوا الويلات من ظلم ملكهم، وهو نفسه الذي وقع في فخ أعد له الملك –خصمه السابق؛ صديقه حتى لحظة موته- لفخ ” شامات” الجميلة خادمة الملك التي أغوت أنكيدو بمخطط من غلغاميش وجعلته يتوانى في حماية الغابة كمهمة أُسندِت إليه من قبل الآلهة ويفك صداقته مع الحيوانات ومع غابة الأرز وحارسها “خومبابا”، ومن ثم يعقد صداقة مع غلغاميش وينفذ له بالتشارك مهمتان أولاهما قتل حارس الغابة- صديقة السابق وعدوه اللاحق، وثانيهما معارضة إلهة الماء ” أنليل” التي غضبت من قتل الحارس وأيضاً من قتل “ثور الجنة” المسنود إليه وظيفة الإجهار على الملك وأنكيدو. وبحسب الأسطورة وعلى إثر الحادثتين؛ تعقد الآلهة اجتماعاً بطلب من ابنة كبير الآلهة “شمس”؛ الإلهة “عشتار” التي حقدت بدورها على غلغاميش بعد أن رفضها زوجة، فكان من كُلِّ بُدٍّ أن يُعاقب أنكيدو بالمرض والموت، وعلى تخفيف عقوبة غلغاميش إلى الحزن والجنون الجزئي بدلاً من موته- بعد تسوية خاصة بين الآلهة ؛ وهنا يعتقد البعض بأنها كانت أكثر شدة من الموت نفسه، أو ربما التهاون الحادث في حكمه يعود إلى طبيعة الملك “غلغاميش” نصف الإلهية.
نعتقد بأن الجذر التاريخي للنظام الاستبدادي ولرأس المال وكافة توحشاته المجتمعية وطغيان منطق ادارتها لمجتمعاتها من مبدأ الذكاء التحليلي، ابتدأ في أور، وملامح التفريخات المتتالية التي تموجدت تباعاً؛ مُظهِرة السلطوية والعنف بدأت في شخصية غلغاميش، ويمكن النظر إلى الأسطورة بمجملها بأنها بداية الجمهرة الثلاثية المسيئة (الملكية، الثروة، السلطة)، أما غابة الرز فأعتقد بأنها تشير إلى المجتمع الطبيعي والإيكولوجيا، أما الخيانة التي ارتكبها أنكيدو فهي الأولى (النوعية) في التاريخ البشري؛ و قد يكون المرتد النوعي الأول من المجتمع الطبيعي بعد بلائه المثمر ضد من كان يحاك ويُقام بحق الغابة وحيواناتها، ومن ثم انقلابه أو ردته والتي تظهر في دوره القوي بقتل حارس الأرز وفق ما تشير إليها الأسطورة، ومن جانب آخر فإن الدلالة على تعاطف الآلهة مع الملك؛ فقد استثمره الفلاسفة المؤمنين بالنمطية البرجوازية في تصويرهم الأجوف للعقد الاجتماعي كجزء من المهمة الإلهية المُسندَة إلى الملك نفسه ( توماس هوبز في كتابه ” لوثيان”). وبالرغم من القوة والذكاء الذي تميز بهما أنكيدو لكن بسبب عدم ثبات ذهنيته؛ نجده منقلباً إلى احضان المجتمع الوضعي الذي يعلو “زمنا” المجتمع الطبيعي. إن خيانة أنكيدو وارتداده يعكس حالات كثيرة من الواقع المعيوش في العالم المُأزّم وفي مقدمته الشرق الأوسط، وما يحدث في سوريا أيضاً، مقابل ذلك فإن الحديث عن أشياء تخالف هذه الذهنية يبدو جليّاً في حالة اصرار الارادة المجتمعية المتجاوز لهالات الأنكيدو ولا تلفت له ومن يشبهه ولمسانديهم، هذه الارادة كفيلة لإحداث عملية التحول والتغيير المرتقبة التي تبقى مصدر كل ثورة شعبية في وجه المستبد وفي وجه كل التأطيرات التنظيمية والفكرية وطوارئها التي تغذي ظاهرة الاستبداد وتحاول باستمرار لجم عجلة التاريخ.
لا نخطئ حين القول بأن أصل المشكلة التي بَذَرتْ في غابة الأرز وأينعت اليوم في عدة أماكن عالمية ومنها الشرق الأوسط وبكل أزماته ومنها الأزمة في سوريا، وبدون شك بعد تحوّل هذه المشكلة إلى أزمة، أصل المشكلة متعلق بالتحطب المجتمعي الذي يصيب جذور وفروع المجتمعية؛ أشبه بيباس الأشجار بعد سحب كل ماء ويخضور وحياة من نَسَغِها، فالمجتمع ليس سوى أشجار، والديمقراطية التي تُظهِرها الطبيعة عن طريق ألوانها وأنواعها ومصادرها؛ بل من خلال الألوان المرتأية المختلفة لكل شجرة على حدى في دورتها السنوية؛ هي دلائل التطور والتغيير والثبات في الوقت نفسه. وإذا كان قطع الماء عن غرسة لمدة معينة تكفي لتحطبها، فإن التحطب المجتمعي سببه الأوليّ والنهائي هو غياب الديمقراطية وبسبب تأثير هذا الغياب على كل مؤسسات المجتمع، وقتها يغدو المجتمع على أنه مجموعة من رزم الحطب وأول صاعقة أو شرارة داخلية أو خارجية يكفل باضطرام نار هوجاء لا تستطيع الجهود الرومنسية إطفائها، والتحطب المجتمعي في سوريا له عدة أشكال رئيسية؛ أهمها: التشظي المجتمعي وظهور النويّات العقدية في المجتمع كواقعة لا كظاهرة؛ وتجليه الصريح من خلال سيطرة المذهبية السياسية بعد الدينية في تحديد سلوك الأفراد والجماعات، غياب دولة المواطنة على يد سلطة النظام الاستبدادي وظهوره كحالة تشدق وتمرين لدى غالبية صنوف المعارضة أو المتعارضة الاستبدادية؛ غياب دولة المواطنة وطغيان دولة القهر المجتمعي وتحويل الدولة الوطنية بمفهومها الحضاري الذي يتألف من مجموعة هائلة من المؤسسات إلى دولة سلطوية وإله هابط من السماء يجب عبادته وتطويع مجموع المؤسسات إلى مراكز أمنية موفورة بالتقارير الأمنية؛ يحولونا بالضرورة إلى واقعة الانتخابات البرلمانية في تركيا الدالة بعمق على مثل هذه الحالة المعتلة، كما يظهر التحطب المجتمعي بخفوت الطبقة التنويرية كحامل مراكم للتغيير وغياب كامل لمؤسسات المجتمع المدني؛ لقد حلت السجون محلها وفي سوريا وحدها يتم الحديث عن أكثر من ثلاثين من فروع الأمن بعضها معلومة للمجتمع وأغلبيتها لا يعلمها سوى سكان (قصر) الشعب، وكل شيء أسود يتم؛ يكون بإسم الشعب، وأعلى مراحل التحطب تبدو حينما يحل محل مؤسسات المجتمع المدني آلاف مؤلفة من الجوامع المرفهة والكنائس، إنه أشبه بالارتشاء المجتمعي؛ في موازاة ضخ المزيد من الأمراض الاجتماعية: الرشوة والفساد والتخلع الأخلاقي والالتواء التربوي والمحسوبية….الخ إلى جانب بناء مضطرد في (دور) العبادة، والتقاطر الشعبوي إليها يكون في أزهى حالاته وأكثره جمعاً وحشداً. ويبدو أن المرتادين غابت عنهم بأن العبادة لا تحتاج إلى دور بالضرورة، وأن الله لا يحتاج إلى التذكير به في تلك الأمكنة وإنما ذكره عملاً ومحبة، وأن يوم الجمعة الإسلامي –مثالاً- ليس معد للعبادة والراحة فقط؛ والآية القرآنية تقول صراحة: إذا نودي إلى صلاة يوم الجمعة فذروا البيع…) أي أن العمل قائم والتوقف به هو المسموح، والبقاء فيه ممنوع والعودة إليه هو الأصل، وهنا فالتحطب المجتمعي يكمن في الدعوة القطعية إلى الجهاد دون الاجتهاد.
التشويه والتشويش مطلوبان بإلحاح حتى الوصول إلى حالة الحطبية أو كما نسميها هنا؛ التحطب المجتمعي. وإذا ما أقريّنا بأن الجموع الثائرة المنتفضة ضد سلطة النظام الاستبدادي في سوريا كانت على حق بالمطلق؛ خاصة؛ أنها تأتَتْ بأولى المهمات العظيمة والمتمثلة بهدم جدران الخوف المؤطرة من قبل النظام الاستبدادي؛ لكن؛ يبدو أن الغبار الذي نجم عن التحطم حال دون رؤية واضحة للخطوة الأخرى، ويبدو أن أصحاب (النظارات) السوداء والملونة؛ من النظام ومن المعارضة التي تشبه النظام، استغلت منظر الغبار الكثيف وتقدمت خطوتين -على
الأقل- وبدعم الماورائيين: النظام الاستبدادي من قبل حلفائه والمعارضة الاستبدادية من قبل داعميها الإقليميين والدوليين، والذي حصل؛ يتم ملاحظته الآن في أن تقسيم ثان طرأ على الشعب؛ بطريقة أشبه بالضياع الأدري ومن ثم الالتجاء إلى أقرب مكان بعد انحسار الغبار.
مروجيّ نهاية الأيديولوجيا هم أيديولوجيين ممتهنين محترفين؛ كمثل الملحد الذي ينفي طبيعة الله ليس سوى مؤمن؛ لكن؛ بطريقة عكسية؛ أي مركوب بالنفاق والفسوق. والترويج الذي ظهر ولمدة ربع قرن أو أقل على موت الأيديولوجيا وفي الوقت نفسه مع استمرار لبعض نمطياتها الخائبة؛ كان سبباً مهماً في الستاتيك الذي ظهر عليه غالبية الشعب السوري، وكان السبب الذي ظهر عند غالبية الكرد وبالحالة الديناميكية النشطة؛ بسبب تحركهم وفق أيديولوجية كلية والمتمثلة بأيديولوجية الأمة الديمقراطية، الأمة المرنة، الأمة المتآلفة، وقد بدت سرعة تنظيمهم لمجتمعهم بأنها فرصة يجب اقتناصها؛ فأسسوا مع مكونات روج آفا مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية، ومن المهم أن ننوه بأن هذه التجربة أظهرت للمرة الأولى بأن الكرد لم يكونوا خال الجعاب كما كل المرات، ولم ينتظروا من غيرهم أن يُحَكِّمَهم على تجربة مستوردة جاهزة، وهذا المشروع لا يشبه –مثلاً- تجربة جمهورية مهاباد، من حيث أن نسبة مساهمتهم في تأسيسها كانت غير كافية للثبات وللاستمرار؛ بعكس مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية فإنها تأسست وظهرت بطبيعة وطنية محلية ومن كل المكونات؛ بل أنها بدت على عكس رغبة الآخر/ الآخرين، وتم النظر إليه – من قبل غالبية المتحطبين- على أنه في أحسن الأحوال وقتيٌّ زمنيٌّ زائل. واليوم تتحول هذه الإدارة إلى نموذج أصلح للأزمة السورية كلها، وتنتظر من عمقيها؛ الوطني السوري والقومي الكردستاني؛ حوارات وتعديلات وتصويبات، وهذا يلزمه ثائرين تنويريين مغامرين؛ على طريقة مغامرة العقل الأولى التي لم يختصر حدوثها على فترة معينة دون كل الفترات التي ترسم التاريخ.
على عكس حالة التحطب الكيميائي العضوي؛ فإن التحطب المجتمعي لا يعني بالضرورة أنه الدال على الموت والنهاية، وكم من شجرة نالها اليباس، بل كم من شجرة تم قطعها؛ ومرة أخرى يلاحظ الحياة والنمو في مطرح من مطارحها؛ وهذه هي حقيقة الكون المدرك لذاته بذكاء خارق كما يقول أوجلان. والمجتمعات لا تموت وإنما يصيبها حالة كبيرة من اللجم، وتتحرك هذه المجتمعات مرة أخرى من خلال مشاريعها النهضوية، وسوريا مثال ليس بالأخير على حالة التحطب، إنما مثال نوعي –إذا أراد السوريين- للنهوض، أما النظام الاستبدادي وغالبية صنوف المعارضة الاستبدادية؛ بالإضافة إلى التنظيمات الإرهابية الطارئة؛ ليست؛ سوى وقائع عدمية متصارعة سيؤدي اليباس المستشري في أديمها والنابت بين ظهرانيها إلى كنسها مجتمعة من قبل القوى التنويرية الأخيرة، وكما كل الحالات: البقاء لن يكون إلا للأفضل والبقاء حتميٌّ للأخدم مجتمعياً.[1]