هذه الحرب ليست حربنا
سيهانوك ديبو
الشرق الأوسط مقبل على تطورات عميقة تصل إلى درجة طلوع روحه من الجسم الذي تبعثر أجساماً هشة وغضة؛ بعضها ستزول وتصبح أثر بعد عين وجديد منها يظهر ليصبح العين بعد الأثر، والفوضى التي ولجها العالم مُمَهّدٌ لها بدقة متناهية، تُستخدم من أجل تعميم هذه الفوضى أذرع تستند إلى مكامن الضعف الذي يعانيه الشرق الأوسط بطبيعتها المرضية منذ أكثر من ألف عام وهي بمجملها تندرج تحت أطر السلطوية وذهنية التصارع التي لم تستطع يوماً أن تمثل إرادة شعوبها بل عكست ذلك وحاولت كثيراً ونجحت كثيراً أن تنظر إليها بأنها مجرد جموع حشدية يجب السيطرة عليها وتسييّرها وفق ما يلزمها، وفي مقدمة هذه الأطر الصراع الشرق الأوسطي القديم الجديد؛ الشيعي السني، الذي يحتدم اليوم دون استشاطة كافية لبراكينها الخامدة منذ زمن، واللهب المتطايرة مصدره سبب وحيد تظهر فيه بأن ربيع الشعوب خطّاء آفّاق؛ وهذه العجالة -رغم تبييّتها- في تسنين وتشيّيع الصراع؛ قاطع طريق محترف في وجه استنبات الثورة المعلومة المستند إلى فكر نهضوي معلوم، وخيوط الصراع الأولية بيد الأجنبي.
هذا الصراع سيكون له تداعيات خطيرة قد تؤدي إلى حروب كارثية مصحوبة بحجم كبير من التدمير تظهر جليّة فيما يفعله حزب العدالة والتنمية وتحت لبوس السنية من حرب وقتل وتدمير تجاه الشعب الكردي في باكور؛ ألم يحمل أردوغان بيده المصحف الكريم وقال بهذا نعبد بينما الكرد يعبدون الزرادشتية؟ حملها عن قصد سلطوي مما يجعله يبحث على الدوام عن غطاء يختبئ تحته وقد وجد ضالته بالتحالف الإسلامي العسكري مقابل تمسكه ما يسمى بالمنطقة العازلة في الأرض السورية ضد مشروعية الإدارة الذاتية الديمقراطية ضد كرد سوريا وكردها؛ علماً بأن هذه الحرب بمجملها تنفخ فيها دول الحداثة الرأسمالية الموسومة بالأزمة الاقتصادية ويأتي هذا الصراع وفق مصلحتها وتكون بمثابة تصفية الحسابات في أرض بعيدة عنها.
الظاهرة الاجتماعية تحمل صفة المرونة على الدوام، وأن أكثرها تعقيداً وأكثرها إشكالية تتحول إلى منتهى البساطة؛ إذا ما أدركنا مبدأ قويماً يتناولها على الدوام؛ مُدرك لوجهته على طريق معرفي سياسي مفاده: إن المجتمع في بوتقة ما عبارة عن مجموعات تشكله، والأفراد بقدر ما يمتلكون الحقيقة متبوعين إلى قوة المجتمع، وهذا يحيلنا إلى الحل التعددي المُكامِل لقوة الوحدة، وأن القوموية داء الشرق الكبير؛ بدواء واحد يكمن في التعدد الموجود حقيقة في الأصول التي شكّلت الظاهرة الاجتماعية اليوم: الدولة، وأن الدولة الوطنية ليست سوى إدارات ذاتية تحقق كونفيدرالية الشعوب بعد أن تحل محل الدولة التي يتمسك بها السلطويون ويحوِّلوها إلى إله أرضي واجب العبادة.. واجب الرضوخ…واجب إبادة غيره لإظهاره. والشعوب الإيرانية أدركت أن ثورتها ضد الشاهنشاه كانت محقة، وتدرك أيضاً أنها سرقت تحت لبوس التشييّع كظاهرة اجتماعية محلية وأنها أدت نهايةً – اليوم- لبوس القوموية الفارسية، وأن النظام في إيران يمارس السمة التاريخية التي يتصفون بها: مكر العجم، يحاولون مزج بين الدولة التاريخية التي عرفوها قديماً وبين الحداثة، أي مزج بين الأصول وتغييب المشاكل القديمة فيها
والحديثة من أجل الغاية والتي عرفتها الشعوب الإيرانية تمام المعرفة، والاعتقاد هنا أنهم يدركون بجدوى طريق آخر لن يكون ضد الشيعة كظاهرة وليس كنظام إذْ أنه من الخطأ تصوير خلافه أنه مع السنة كظاهرة أخرى وليست كنظام أيضاً، والحق؛ هذا ما تفعله السعودية وتركيا اليوم وغيرهما من الأنظمة السلطوية القوموية، علماً أن السعودية وتركيا تتفقان في خطوتها الأولى وتختلفان بل تتخالفان في الخطوة الثانية؛ كلاهما يعلمان ذلك، إنها صراعات السلطويات القوموية بلبوس الدين والمذهبية والقومية.
والاشتراكية المشيّدة التي حاولت تقديم نفسها بأنها الحل لم تكن في نتيجتها إلا تمثيلاً للرأسمالية البيروقراطية ضد الرأسمالية الليبرالية، والبنى الاجتماعية التي تم تنشئتها لم تكن نصيبها سوى الانحلال ومن ثم الهزيمة، ولأنها –وسيلة ونتيجة- كانت كذلك فخسرت سلطتها أم سلطة الرأسمالية الليبرالية.
إذا أمعنّا النظر في كينونات هذه الأرض البيئية نراها على أشدها من إتيّان للحل، وكأنها الحل الكلي نفسه المُعِدِّ بإسهاب في حيثيات نشوئها، إذاً لا يمكن النظر إلى هذه الصراعات بأنها فقط الموجودة، حال ذلك حال الديالكتيك الصائر في الفكرة ونقيضها والمفضي إلى الطباق (الحل المتقدم). وإذا كان الحل ليس في أية جهة من جهات الصراع السني الشيعي وغير متعلقة بالنتائج التي لن تفضي إلاّ إلى وجودهما مرة أخرى، إنها الحال نفسه في مرحلة الصراع على السلطة ما بعد مرحلة الإسلام المحمدي مروراً بجالديران 1516 (صورة متكاملة مستنسخة) وصولاً إلى اليوم. وإذا كان حديث الصراع وضوحاً فإن حديث الحل يقابله في الوضوح أيضاً ويزيد عليه بجرعات الأمل ذي المصدر الذي ملّ من هذه التكرارات المدمرة، الحل كما حال الديالكتيك متمثل بالطريق الثالث المتمثل بدوره أنه ليس مع طرفي الصراع إنما مع الثالث الأشمل، ويبقى الحل موصوفاً في مجمله عبر نظرية مؤسسة خلافية مع مدراس التنميط والأمم النمطية، الأمة العربية على خطأ لأنها متقوقعة كما حال الأمة التركية والأمة الفارسية ودعاة الأمة الكردية؛ الوشائج المتداخلة التي خلقت هذه الأمم لا تقبل مثل هذا النشوء الأحادي؛ وإن صير؛ فعلى حساب إبادة أمم أخرى موجودة، والأمة الإسلامية والأمة المسيحية والأمة اليهودية يجب رفضها على الدوام لسببين رئيسين وأخرى ثانوية:
– الأمم القومية جاءت كحالة مخففة عن فشل سلطة الكنيسة في أوربا، وعملية الرجوع إليها يعني قلب للتاريخ رأساً على عقب، وبالرغم من أنه كان بمثابة حلاً سريعاً وعاجلاً لحالة المرض التي سبقته في أوربا والغرب؛ فإنه غريب عن الشرق ولا يمكن الأخذ به.
-الأمم الدينية تفضي وفق عوامل السلطة إلى الطرقية والعقدية؛ فإذا كان في الإسلام مجموعة من الطرق ومجموعة من الطوائف، وإذا كان في المسيحية مجموعة من الطوائف ومجموعة مما يخصصها كدين، وكذلك المفهوم حيال اليهودية، فيعني بأن الصراع ينتقل فوراً ودون إذن مسبق إلى التصارع فيما بين الملة الواحدة كما حالنا الحالي تحديداً؛ فكيف إذا تم امتزاج الدين بالقومية وامتزاج القوموية بالطائفية؛ تفسير لا أخلاقي لأحوالنا الحالية والمستقبلية في العموم.
يكمن الحل في الأمة الديمقراطية التي تظهر على طرف مقابل من هذه الصراعات التدميرية وتظهر بمظهر البناء المجتمعي الكلي –خاصة- في الشرق الأوسط وخاصة إن هدف الأمة الديمقراطية هو تحقيق الشرق الأوسط الديمقراطي، والنضال من أجل ذلك هو واجب إنساني
قبل أي شيء. والأمة الديمقراطية بوصفها تعريفاً يعبر عن العصرانية الديمقراطية، وأن قبولها لا يعني دحض الاشتراكية ولا قبولها بشكل دوغمائي مقولب، بل يسهب في تحليلها كتجربة قوية حدثت ولها صلب قويم مناهض لحقيقة الحداثة الرأسمالية وفق مشروعها التي تمثل جوهر الحداثة الديمقراطية. والأمة الديمقراطية بوصفها لا نمطية تؤلف بين مجموع الثقافات في الشرق الأوسط إنْ كانت قومية أم دينية أم ظواهر اجتماعية أم وقائع اجتماعية، والجميع يقبل بالجميع والجميع مع الجميع. وما من نظرية اجتماعية غير نظرية الأمة الديمقراطية تستطيع توحيد صفوف المجتمعية وإحيائها نحو هدف الكون المطلق: الحرية.
بناء على ما تقدم فإن الحرب التي نعيشها اليوم؛ الحرب والصراع الطائفي؛ ليست حربنا وهي ليست حرب أيّاً من الديمقراطيين.[1]