تدويل القضية الكردية في العصر الحديث
صلاح الدين مسلم
لقد كان إصرار العثمانيين بعد الحرب العالميّة الأولى كبيراً على ألّا تدوّل القضيّة الكرديّة، وظلّ إصرارها على وصفها أنّها قضيّة داخليّة تستطيع الدولة التركيّة حلّها، وقد استطاع الاتحاد والترقّي من الوصول إلى معاهدة لوزان بعد سلسلة من انتصارات الدولة التركيّة الكماليّة على اليونان، فاستطاع الكماليون من خلال لوزان عام 1923 من تهميش القضيّة الكرديّة، بعد أن كانت معاهدة سيفر 1920 تقتضي حق تقرير مصير الشعوب غير التركيّة من تقرير مصيرها وخاصة الكرد والأرمن.
بعدها استطاعت الدولة التركيّة أن تجعل من نفسها الوصي التابع للهيمنة المركزيّة الرأسماليّة العالميّة على الشرق الأوسط، وبالتالي كان المقابل هو تهميش الكرد وتطبيق سياسة الإبادة والصهر بحقّ الشعب الكرديّ، وصار الشغل الشاغل للدولة التركيّة نسيان كلّ مشاكلها وصبّ كلّ طاقاتها لإبادة الكرد وطمس كلّ معالمها، بعد أن نجحت تلك السياسة الخبيثة بحقّ الأرمن، لكنّها عانت معاناة كبيرة في وأد القضيّة الكرديّة.
لقد استطاعت حركة التحرير الكردستانيّة أن تدوّل القضيّة الكرديّة بعد سلسلة من الانتصارات الثوريّة على الجيش التركيّ، وتوهّمت الدولة التركيّة أنّها قتلت تلك الحركة باعتقال السيّد عبد الله أوجلان في 1999، لكنّ عمليّة التحوّل الديمقراطيّ التي قادها القائد في معتقله في إمرالي، حتّى اكتمل مشروعه في الديمقراطيّة المجتمعيّة المناهضة للدولتيّة في 2010، وباتت ثمار هذا المشروع ناجعة في ثورة روج آفا.
لقد كان تدويل القضيّة الكرديّة في أوجه في مقاومة كوباني، فباتت صورة المرأة الكرديّة تملأ كلّ الواجهات العالميّة، واستطاعت المرأة المقاومة في كوباني أن توصل صوتها إلى أقاصي العالم، وصار مشروع الإدارة الذاتيّة يتردّد على جميع الأفواه، وصار الكرد يقترنون بالوجه المعادي للإرهاب العالميّ، إذّ لم يستطع أحد أن يصمد أمام مرتزقة داعش إلّا الكرد، فالكرد وحدهم استطاعوا أن يطردوا هذا الوحش الذي لم تصمد أمامه كل الجيوش الجرارة.
إنّ سلسلة الانتصارات العظيمة التي وصلت إليها قوّات سوريا الديمقراطيّة العسكريّة والفكريّة والثقافيّة التي وصلت إليها من خلال السيطرة على 20% من مساحة سوريا، وعلى اعتبار أن نصف مساحة سوريا بادية لا حياة فيها، فمن المقدور القول: إنّ (QSD) تسيطر على نصف سوريا، وكذلك استطاعت (QSD) أن تثبت للعالم أنّها تحتوي في طيّاتها على كافّة الشعوب التي تحتويها سوريا؛ من عرب وكرد وسريان وآشور وتركمان.. فبالتالي كانت هذه الحقيقة ترعب القيادة الشوفينيّة على سدّة الحكم التركيّة التي اختارت الحرب مساراً لها، وكلّ انتصار كان الإعلام التركيّ يبرز الكرد على الساحة.
استطاعت القضيّة الكرديّة من خلال إلقاء الضوء عليها عبر الإعلام التركي المعادي وبعض من الإعلام العربيّ التابع لهذا الإعلام، وباتوا يشوّهون الانتصارات الكرديّة ومكتسباتها من خلال التلفيقات التي لم تعد تقنع العالم، وبات العالم بأسره يدرك هذه الحقيقة، فهم بعدائهم الصريح للكرد المقاومين لداعش، يقعون في مصيدة كبرى لا يدركون فيها مدى حجم الكراهية العالميّة لعدائهم هذا، فقد بات واقعاً أنّ الكرد وحدهم هزموا داعش، وبات من العلانيّة بمكان أنّ الدولة التركيّة هي الوحيدة التي تدعم داعش، فلم تخرج طلقة واحدة من قبل الجيش التركيّ على داعش أو جبهة النصرة عندما كانوا يسيطر على المناطق التي حرّرتها (QSD)، لكن بعد أن انهزم أتباعه في تل رفعت وكرى سبي…، جنّ جنونه، فصارت مدفعياته تقصف المدنيين في عفرين.
لقد أضحى التياران واضحَين لا محالة؛ تيار الحلّ مقابل تيار اللاحلّ والعقم، تيار الحرب والدمار مقابل تيار السلم، فتيار الحرب والعقم غدا واضحاً في التصريحات الحاقدة التي تخرج من أفواه أعضاء الائتلاف وأعضاء القيادة التركيّة، حيث الكراهيّة والتلفيق والعداء والإقصاء والتزوير، وتيار السلم والأخوّة والتعايش في تصرّفات المقاتلين والشعوب المفتقرة إلى الحرّيّة، فعلى الرغم من الكذب الإعلاميّ الواضح باتت المنظّمات العالميّة تدرك هذه الحقيقة، وإن كان الإعلام يتغاضى.
إنّ الإعلام العربيّ والتركيّ والعالميّ الذي كان يغرّد خارج السرب الكرديّ، وكان لا يذكر الكرد إلّا في المناسبات، بات هذا الإعلام وإن كان معظمه مشوّهاً للحقائق، لكنّ بات القاصي والداني يدرك أنّ الكرد أصبحوا ورقة لا يمكن إهمالها على الإطلاق، فإمّا الإهمال وإعلان الحرب كما فعلت تركيا وداعش ومازالا، وإمّا السلام وهذا ما ينشده الكرد، وكلّ حركة وتصرّف للأتراك تجاه الكرد، يصبّ في صالح الكرد، على الرغم من التضحيات الكبيرة، فهذه التضحيّات الكبيرة كانت قدر الكرديّ ما قبل الثورة، فكان الكرديّ مشرّداً، يعمل في الفنادق في المتروبولات، يمسح الأحذيّة كما يعيّرهم بذلك الشوفينيّ عبد الرزّاق عيد وغيره من الشوفينيين العرب والترك، لكنّ الشعب الكرديّ لم يصلّ إلى هذا المستوى من المكتسبات الرائعة على مدى تاريخه، ولا يمكن حلّ أزمات الشرق الأوسط دون حلّ القضيّة الكرديّة التي غدت المفتاح لحلّ الشرق الأوسط، ومهما حاول الأعداء من طمس هذه الحقيقة، إذْ وصل العالم إلى هذا الاستنتاج، وباتت الشعوب تدرك هذا الحلّ، ولا يمكن منع أشعة الشمس بالغربال.[1]