عن الجذر المعرفي والسياسي للأزمة السورية؛ وعن الحلول. (ا من 2)
تحرير قرية كفر أنطوان جنوبي مطار منغ
سيهانوك ديبو
أقل من شهر وتكمل الأزمة السورية عامها الخامس، وحينما تكون رؤيا الشك حيال ذلك قائمة ومؤكدة بأن اليوم الأول من الحراك لا يصلح بأن يكون اليوم الأول للأزمة السورية؛ تظهر الحقيقة المعرفية –هنا- كمرجعية أخلاقية وسياسية واجتماعية لكل حراك ثوري يُفَنِّد ذلك بمفادٍ: مع أن الحراك الثوري الرفضي السوري كان في منتهي الأحقية؛ لكنه في الوقت نفسه؛ ظهر بمنتهى الرغباتية أيضاً، ويفتقد الحراك الثوري العام ومن خلفه الجهات السياسية التي تبنته المقاربة التي تفضي في الاشتباك المباشر مع النظام الاستبدادي؛ بل واستبدلوه بمشابكة مع توغلاته الشعبية واصطفافاته الجبرية، وشابكوا تلك المشابكة مع أنفسهم، والأدخنة المترافقة المتصاعدة مع حدة المشابكة لم تكن دليل نيران الثورة المأمولة إنما جمرات متقدة لعشرات السنين بحطب المذهبية والتهميش لغالبية مكونات المجتمع السوري والتي أشعلها المستبد فيما بعد وبعيداً عنه، والنظام شابك مصيره –بدوره- مع الخارجي وأصبح منفذاً لجنون الأجندات وهيجان الرغبات.
من الإنصاف القصيّ لو قلنا بأن الأزمة في سوريا هي أزمة فكر ومعرفة تتعلق بظهور وتسلط الأفكار المشطوبة المسطحة والمعطوبة التي حملها النظام الاستبدادي كي يحلو له الجلوس على صدر الشعب السوري؛ من جهة، ومن جهة أخرى بالأفكار التي حملتها غالبية الأحزاب المعارضة وكياناتها وشخوصها؛ أفكار قلقة تم سحلها نتيجة اللوك المستدام الذي ألّم بها، ووفق هذه الأفكار الظاهرة (المعروفة) كان الصراع بينها في أدنى مستوى، وهذا هو التفسير المتفائل لها، خاصة؛ أن حامليها بانوا كَكُتل عدمية متصارعة. وفي بداية الأزمة السورية سادت الخطابات بدلاً من الأفكار، وساد الارتجال بدل من الموقف، وساد التفاعل الفجائي بدلاً من الرؤى والمنهجية والاستراتيجية، فحصل ما حصل، وأصبحت المبادرة في أغلبها مسنودة للخارجي عوضاً عن السوري المتقوقع –عنوة- في سديم التقسيم والنكوص الفئوي والحبو العقدي، والخارجي مجبول بملفات هائلة من الدوغما السياسية والمصالح ذات الأصل الاقتصادي والتصارع الجغرافي والقيمي بينها؛ وكلها متحركة في فضاء الهيمنة والحوكمة العالمية، فتحولت سوريا إلى أكبر خزان جغرافي لتضارب المصالح الدولية والإقليمية والمحلية، مما استدعى بعض ناعتيها بأنها حرب عالمية ثالثة في جغرافية يحرص المصارعين فيها أن لا تتمدد إلى خارجها؛ مع السماح لبعض الشطحات في القفزات البهلوانية التي تؤكد بدورها حرص المتناقضين على إبقاء قواعد اللعبة في الجغرافية السورية. وهذا كله يرجع بدوره إلى الفقر المدقع الذي نال نواة أو نويّات التغيير المجتمعي السوري، ومن المؤكد أن أسباب هذا الفقر يرجع بدوره إلى غياب نوعي جمعي للروافع السورية التي من المأمول بأنها كانت تنظر مثل هذه الجلبة السوسيوسياسية التي أحدثها انتفاض الشعب السوري في آذار 2011؛ تنظر وتنتظر هذه الجلبة، لكنهم، ظهروا تباعاً بأن غالبيتهم لم يكونوا سوى المجبولين بالأفكار وليسوا الجالبين لها، وقد لا نصيب هنا بخصوص مثل هذا التشميل؛ ولو كنا كذلك؛ فلماذا وقع أعلى ممثلي الرؤية الدستورية في الائتلاف – تلك الوقعة الشاملة المشمولة لمن يحالفهم- مفضلاً ما تسمى بالدولة الإسلامية في العراق والشام على نقيضها المصطنع؟ ولماذا يجهر أحد سجناء النظام الاستبدادي السابقين بدفاعه المشوش عن جبهة النصرة بأنها غير إرهابية؛ مع العلم بأنه كان رمزاً –ذات يوم مُغبّر- عن اليسار السوري؟ ولو كنا مخطئين؛ فلماذا هذه المعاداة القصوى لأصل الكرد ووجودهم على ترابهم؛ هم مهاجرو اليمن في نظر البعض؛ وفي نظر البعض الآخر بحال الأقليات المهاجرة من شمال أفريقيا إلى فرنسا، رحالة وجهتهم الصدفة للسكون في سوريا في نظر آخرين؟
الجلبة السورية حدثت؛ لكن؛ فرسانها الحقيقيين سقطوا أو أسقطوا في الجولة الأولى، وبعد كل هذه الجولات المُحَمْحِمة؛ ولأنهم لم يكونوا بعيدين جداً؛ حيث أنهم لم يكونوا قريبين جداً؛ ما تزال الفرصة لضخ المفاصل الفكرية في الهيئة الرخوة للثورة السورية، ويتقدم الثورة ثوارها. والفوضى التي تعيشها سوريا والفوضى المرتدة يمكن أن تكون ظروف مناسبة للعودة. لكن يجب بداية الإجابة المعلنة على هذه الرؤى، بل الإفادة المعلنة لمفاصل الفكر الأساسية للأزمة السورية؛ ونعتقدها:
الأزمة السورية تتعقد كلما تم (تكويم) الوطن السوري والنظر إليه بأنها كومة تستقيم أحوالها من خلال مركز أوحد، مثل هذا الفهم الأجوف الأوتوزيمي هو مثال التطويع واستهلال التسلط والتحول مرة أخرى إلى الاستبداد، والأصح هنا بأن يتم إحداث قطيعة ابستيمولوجية مع هذا الفهم الضار والاقتناع بأن أصل أي وحدة يمكن في اتحادها، وأن سوريا المستقبل حتى تبقى واحدة لا بد من اتحاد طوعي بين أجزائها (مكوناتها القومية والعقائدية والثقافية)، وهذا الفهم الجديد الجديِّ هو حل دائم يحل محل التشظي القيمي والحضاري للمجتمع السوري؛ علماً بأنه فهمٌ يستمد كينونته من الأصول الأولى للحضارة البشرية في مجتمع (الكِلّان) أول ظهور عاقل للإنسان الاجتماعي في بلاد الميزوبوتاميا، ومعمول به الآن لأكثر من 40% من البشرية في ألفيتها الثالثة. والاتحاد السوري المأمول سيكون العامل الأساس الذي تتحرك وفقه الإرادة المجتمعية السورية لتحقيق مصيرها بإرادتها الحرة الفاعلة، وتطوي صفحات سوداء تم استقدامها وصناعتها في أماكن بعيدة عن البيئة المجتمعية في سوريا؛ وها هو الشعب السوري يدفع أثمانها دماً وعنفاً وتدميراً وهجرة.
كما أن الأزمة السورية تستعر كلما ابتعدنا عن أسس وأصول الدولة الوطنية (دولة المواطنة)؛ من حيث أنها تُصنع صناعة وطنية ولا يمكن زج المجتمع السوري في اصطناع كينوني (الدولة المتسلطة) تنتقل إلى الاستبداد ولن يبقى حينها لِ(المواطنة) سوى إسمها، وستتحول إلى عنصر غريب لا ينتمي إلاّ إلى آليات العجز التي تحيط به وتحاصره وتجعله في موت سريري متواصل، ودولة المواطنة حتى تكون لا بد من مشاريع تحققها وتحقق أعلى مراحلها المعنونة بالانتماء، وحينها تتحول الهوية الوطنية (مجموع من الهويات المحلية المتآلفة طوعاً) إلى الجامعة المانعة لأي انزياح؛ هذه بدون أدنى شك الفكرة الرئيسية للإدارة الذاتية الديمقراطية كمضمون شرقي للأزمات الشرقية وكمضمون وصيغة مثلى لأي إطار اتحادي يلملم الوطن السوري؛ كما لمواطني الشرق الأوسط الذين يعانون الهيمنتين: العليا الدولية والسفلى المحلية. وحينما يتم الحديث عن الحل الاتحادي السوري بصيغة مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية فلا بد من الحديث عن نتائجها في عامها الثالث في شمال الوطن السوري في روج آفا، وهذه النتائج يمكن الاستدلال عليها من خلال تمثيل هذا المشروع لِكُنْهِ معادلة التحول الديمقراطي في سوريا؛ المتمثلة بمحاربة الإرهاب وتحقيق التغيير السياسي، وكلا جزأي المعادلة بات ملمحها سهلاً حين النظر إلى هذا المشروع. وعليه فإن إدارات ذاتية متحققة في الوطن السوري تؤدي بالضرورة إلى وطن تشاركي ومجتمع ديمقراطي، والنتيجة التي أقرها الايرلنديون قبل أقل من عامين – رغم الدماء التاريخية بين بريطانيا وإيرلندا- ستكون المتوخاة أيضاً في العهد الديمقراطي السوري الجديد المضموم والمضمون في عقده الاجتماعي الجديد.
إذا كان الهدف من الحرية -بالعموم والخصوص- تحقيق العيش الكريم بكل ما تعنيه هذه الكلمة من آفاق وتحضيرات مجتمعية معقدة ومؤدية لها؛ حتى الانتقال إلى المجتمع السياسي بشقيه المدني الحضاري والنهضوي المؤثِر؛ فإن الحرية تصبح لحظة رومانسية؛ قلقة؛ غير مستقرة؛ مهددة بالنحر؛ وأخيراً بالحَجْمِ، وقد تؤدي إلى الدمار بشكل لا أدري؛ إذا بقيت دون وسائل أمنٍ مجتمعية تحميها. فالمتتبع لمراحل التاريخ يلحظ مثل هذا المسار الحتمي وهذه النتيجة المُعَلَّلة؛ وإذا كانت المسألة تجانب ذلك في نظر البعض المختلفين؛ فلماذا انتقل الإنسان من المجتمع الطبيعي إلى الاجتماع الوضعي؟ ولماذا يحاول دائماً الرجوع -مرة أخرى- إلى المجتمع الطبيعي الحر؛ لكن؛ بإرادة وذهنية ثائرة. فَقوة الحرية من قوة العقل الجمعي الذي يقررها؛ من حيث أن العقل الجمعي يتضمن ثالوثاً لا يمكن فكفكته أو تناول أحده دون أُخرَيَيه: الأمن؛ العقد الاجتماعي(قوة الحرية)؛ النهضة. وكل من يخالف هذا الثالوث يجد نفسه مخالفاً لِ: جون لوك، جان جاك روسو، ابن خلدون، أوجلان …وغيرهم. أما اصرار البعض المختلف على التنفس (وليس العيش) باعتباطية؛ فيعني الهدم بعينه، فمثل هذا التنفس ليس دليلُ الاختلاف إنما تأكيد الخلاف. إذْ طالما كان الحديث عن نموذج وشكل للفرد: نموذج الفرد الندي الذي يختزل فيه أُنسية الفرد بأُنسية الجماعة، وفيها يكمن أن الفرد الذاتي والحر والمثالي والمسؤول والمنتمي إلى قضايا مجتمعه يستطيع أن يكوِّن مجتمعا كاملا، ويمكن تجميل ذلك في صيغ عمل ثلاثة:
– “اعمل دائما بحيث يكون في استطاعتك أن تجعل من قاعدة فعلك قانونا كليا للطبيعة”
– “اعمل دائما بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص الآخرين كغاية لا كمجرد وسيلة”
– “اعمل دائما بحيث تكون إرادتك باعتبارك كائنا ناطقا هي الإرادة المشرعة الكلية”
الإنسان الكلي المتموجد وفق هذه القواعد (قوانين ثابتة)؛ يعتبر بمثابة الاستدلال على مبدأ العدالة الاجتماعية في العقد الاجتماعي، والعدالة تتكون عندما تكون لاحقة للفعل المجتمعي المنعقد عليه ومن أجله تم واجتمع واتفق وعقد “مبدأ أو قانون الحرية” و ”طاعة القانون الذي يعيّنه الإنسان لنفسه”.
أما شكل الفرد (المتفرد)؛ فإنه ينطلق من نفسه بداية ونهاية لينطلق إليه المجتمع، نيل سعادته غير مرتبطة بالضرورة بسعادة المجتمع، ومثل هذا الشكل يؤكد على استعباد واستبعاد الإنسان وبكل أسف من خلال إدخال يده طوعاً بالقيود، والتجميلات دائماً موجودة؛ هناك من يُلَوِّنُ أصفاده باللون الزهري كي يقنع نفسه بأنه حر. إنه مجرد فم متحركة يمضغ ويلوك ويشتهي ويشبع ثم يجوع.
و(الصراع) الدبلوماسي السوري الذي نشهده حالياً لا يُبَشّر بالنهاية بالرغم من الكمية الكبيرة الجديدة من ضخ الأمل، إنه المخاض العسير حتى بلوغ النهاية، وتبقى العجلة الفكرية في سوريا غير متوقفة ويبقى الصراع مستمر، إنه ديالكتيك النور والظلام.[1]