البحر يغيّر طعم ألف نهر؛ فكيف نغيّر مستقبل تاريخنا؟
أقّل ما يُقال: كلام من شخص لم يتعرف يوماً على الديمقراطية
sسيهانوك ديبو
ملخص تنفيذي
قد يكون ابن خلدون محقاً في النتائج التي وصل لها من خلال عرضه المسهِب عن سبب/أسباب زوال الأمم وانحطاط الدول؛ أي حينما خصَّها بانتفاء (العصبيّة) أو ما يقابلها اليوم من أكثر المصطلحات تلبية لمفهوم عصبية ابن خلدون هو مفهوم (الانتماء). ولأن الكاتب المفكر هو ابن بيئته وفي الوقت نفسه ابن التاريخ السابق والحاضر في بيئته؛ فما البيئة الحالية سوى أسباب وظواهر متراكمة أدت إلى البيئة المجتمعية التي يعيشها ويفهمها المفكر كما حال ابن خلدون الذي رأى بأن الفهم الدائري للحضارات والدول بمثابة حتمية تبدأ بالتشكل لتصل إلى ذروة قوتها وتضمحل نهاية. مقارنته المعتمدة في هذه النتيجة الحتمية معتمد في دورة حياة الإنسان نفسه أو مجموع البشر الدائرين في مثل هكذا تصور يؤدي بهم إلى الموت بعد مرحلة قوة ومن قبلها كهولة ضعيفة أو ما سمّاها مرحلة انحطاط الأمم.
الفيلسوف أوجلان؛ بالرغم من أنه لا ينفي هذا الفهم تماماً ولكنه لا يعتبره الأدق تماماً، وهو إلى جانب ذلك لا يعتبر بأن فهم المجتمعات البشرية بجميع فتراتها الذهبية أمْ الظلماء يخضع لمثل هذا الفهم إضافة إلى أن عملية الفهم الدقيق لا يمكن أن يكون متبوعاً بأن التاريخ يمشي في خط مستقيم كما التفسير الماركسي له بمعنى أن التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية على أنها الحاسمة في تفسير التاريخ وفق المحرك الاقتصادي؛ بحسب الماركسية. فأوجلان يعتبر ممشى التاريخ مُصيَّرٌ بشكل إهليلجي أو حلزوني وفي حركة مستقيمة في الوقت نفسه؛ أمّا منحنيات الإهليلج فإن من يحددها بل ويخلقها إنما الحروب والثورات أو ربما هي الاختناقات المجتمعية التي تظهر في حياة الشعوب والمجتمعات وما تتعرض لها من بعض كتل الضد ومنعها عن الحرية؛ كما حال الأنظمة الاستبدادية المحلية الشرق أوسطية المرتبطة باستبداد الحوكمة العالمية. وقد تكون نفسها المنعطفات الحاسمة المقضيّة إلى التغيير، وهذه المنعطفات تعود بدورها إلى مسألتين حاسمتين هما قوة التنظيم المجتمعي وحقيقة القيادة الفكرية المرتبطة بالشعب والممثِلة لتطلعاته؛ إضافة إلى مسائل أقل حسماً منها المرتبطة بالسياسة الدولية وما يخص بمعاملاتها مع الملفات العالمية.
ضمن إشكالية الفهم هذه إلى أين تسير المنطقة؟
درجة عالية المخاطر
بغض النظر عن تقييم مؤسسة التصنيف الانتمائي –موديز- التي تصنف فيها تركيا ضمن قائمة الدول بدرجة عالية المخاطر وهي وفق هذا التصنيف دولة لا ينطبق عليها ظروف الاستثمار وبناء الخطط الاقتصادية ومكان غير مناسب للبحث فيها عن وجود الشركات العمالقة إضافة إلى المشاريع الإنمائية وغيرها من مسائل متعلقة بالسياحة؛ علماً أن سبب اصدار مثل هذا التقييم بسبب عدم وجود الأمن والاستقرار الكافيين والذي إليه يستند التقييم/ التصنيف. ربما أفضل وصف سياسي ينطبق على تركيا اليوم بأنها دولة مأزومة؛ وأزمتها لها العلاقة ببنتيها التي تبدو مزيجاً من القومية والدينية حملتهما من المرحلة العثمانية وبقيت بحماية كاملة تحت العباءات المتلونة التي كانت تحرص على أن تكون مختبئة. أما حوالي التسعين عام سابقة ودالة على عمرها الحدي فلم يكن سوى استنساخات لماضيها العثماني الذي بقي أمام الأنظر وعلامة فارقة في الحوكمات التركية وأنظمتها المتعاقبة.
التاريخ ربما هو مجموعة من البناءات غير المنسجمة مع بعضها وبعض هذه البناءات غير منسجمة مع التاريخ نفسه. والبناء التركي بناء غير منسجم مع نفسه (الشعوب الموجودة في تركيا) بالأساس وعلى عداء مع البناءات التي تشبهها (بناءات الدول القومية أو الجغرافيات المستقطعة بعد خرائط سايكس بيكو)؛ وأخير على عداء كلي مع التاريخ وحركيته. لذا من الصعوبة في مكان ما أن نتوقع حلاً ديمقراطياً للقضايا في تركيا وعلى رأس هذه القضايا القضية الكردية؛ فأي حل ديمقراطي يفضي بالضرورة على قطيعة مع تلك البناءات وهذا ما لا يمكن التكهن به على الأقل في الوقت الحالي.
تركيا والرقة؛ تركيا والموصل
الوجود العسكري التركي سواء في سوريا أو العراق ليس سوى قوة احتلال معروفة دوافعها وأهدافها بالنسبة للقاصي والداني وتتمثل بتوسعة جغرافيتها وفق ذهنيتها الاستعمارية القديمة الجديدة في إحياء العثمانية.
الحملة الدولية وإن فاقت مشاركة 63 دولة ضد داعش في الموصل؛ أو في الرقة بالنسبة للتحالف الدولي الذي يقوده الولايات المتحدة الأمريكية؛ فإن دون مشاركة وحدات حماية الشعب والمرأة وعموم فصائل قوات سوريا الديمقراطية لن يكون السوري أمام عملية تحرير حقيقية للرقة، وهذا الأمر يتعلق بالقوى الكردية التي دون مشاركتها لا يمكن الحديث عن تحرير للموصل. وإذا ما قُدِّر أن تشارك تركيا في (التحريرين) فستكون ناقصة وقلقة ودون نتائج حقيقية.
القنصل التركي في الموصل بالإضافة إلى بعض سياسييّ العراق يعتبرون عرّابي داعش إلى الموصل 06-2014، وبهم كان مرور داعش واحتلاله للموصل أسهل؛ يُضاف إلى ذلك الانهزامية التي بدا عليها فصائل الجيش العراقي المسؤولة عن حماية الموصل.
تركيا وبعض الأنظمة الاستبدادية في المنطقة تعتبر المسؤولة عن احتلال داعش وظهوره بهذه الوحشية في الرقة من خلال الدعم الهائل المقدم له من الأراضي التركية عبر منبج قبل تحريرها على يد مجلس منبج العسكري أحد فصائل قوات سوريا الديمقراطية؛ يُضاف إليهم التيار القوموي الإسلاموي في الائتلاف والذي احتاج إلى خمس سنوات من عمر الأزمة السورية وحوالي نصف مليون قتيل سوري ولم يستطع من خلالها كي ينفصل عن جبهة النصرة/ فتح الشام!
تصرف تركيا في جرابلس هو احتلال لا يشوبه شائبة بالرغم من الصمت العربي والإقليمي والدولي لذلك؛ وما جعلته حقيقة دامغة ما حدث من خلال عملية الاستلام والتسليم الفاضحة بينها وداعش؛ ولن تختلف كثيراً أوضاع الموصل أو الرقة إذا ما نجحت أن تكون مشاركة في التحريرين أو في أحدهما؛ سيّما أنها أكدت نيتها من خلال رسالة اردوغان إلى العبادي يبين فيها أن تكون لتركيا حصة في الموصل ما بعد تحريرها؛ ربما لم يستطع العراق حينها الجواب كما حال الجواب الحالي؛ أو ربما في الرفض الشديد للمشاركة التركية مطلب كبير من تركيا نفسها. ووجود تركيا في أي مكان من سوريا يعني ترجمة رؤاها الذهنية في الاحتلالات والهيمنة بما في ذلك الوجود التداعيات المستقبلية منها العسكرية والثقافية.
من الخطأ الكبير أن يسهم في تحرير الموصل أو الرقة نظام استبدادي ما؛ مثل تركيا؛ هذا يؤدي إلى تعميق في استبدادها وفق المفاضلة المستمرة لها: ما بين نظامها وما بين وجود التنظيمات الإرهابية، وهذا يعني بالحرف نجاح تهديدها للمجتمع وللشعب؛ بعد التخاتل المستمر؛ لاحقاً؛ بأنها من أضعفت وحجمّت دولة الفكر التفكيري/ داعش، وهذا يعني بالأخير استمرار المشكلة إلى عقود أخرى بمفاد عدم استقرار وأمن الشرق الأوسط؛ وهذا بحد ذاته مطلب أنظمة الحوكمة العالمية وما تطلبه بالضبط من شعوب الشرق الأوسط وكيفما تنظر إليه: سابقاً واليوم.
البحر والنهر؛ مستقبل المنطقة
المثل الصيني المشهور يقول لا يغير ألف نهر طعم بحر. إذاً؛ هل يصح القول أيضاً أن البحر يغيّر طعم ألف نهر؟
ليس من الصعب الاقتناع عملياً ونظرياً بأن أزمات الشرق الأوسط ومنها القضية الكردية تعود في جذورها كي تكون أزمة معرفية؛ أمّا ما يتبعها من مسائل سياسية واقتصادية وبعمومها المجتمعي قد تكون انعكاسات مباشرة وقصيّة في الترابط لهذه الأزمة.
كَثُرَتْ الأنهار الفكرية في عموم مناطق الشرق الأوسط –بعضها تستحق الوقوف عندها- حاولت منذ تشكيلها البحث عن الحل؛ لكن؛ لم يكتب لها النجاح وبقيت بمثابة النهر الذي لا يغير طعم الأزمة والتي تحولت بدورها إلى بحر أسود. وأسباب الفشل تبدو بأنها متعلقة بِ «أداة لا معنى لها في يد التاريخ»؛ أي الرفد بعيد عن مجرى التاريخ، والأطروحات وعلاوة على أنها لا تنسجم مع حركية التاريخ؛ إنما تعاديه أيضاً، وهذا هو المتعلق بعدم قدرة هذه المحاولات/ التجارب/ الروافد/ الأنهار أن تنظر إلى خمسة آلاف عام تنظر لنا نحن اليوم –أحفادهم- الواقفين في أعلى أهرامات التاريخ، ربما فشلت تلك الأنهار لأنها لم تستطع مُبارحة تحركات الساسة ومسك العصى من منتصفها؛ هذا مبدأ قويم لا بد من الأخذ به حينما نكون متسلحين بالفكرة الجديدة أو المشروع الجديد طالما كان الهدف نحو العهد الجديد. علاوة أن الأفكار يجب أن تكون (متطرفة) في الطرح؛ أي؛ تبدو جديدة وقطعية في القطيعة مع الأنهار/ الطروحات التي فشلت. ربما إذا كنا كذلك يعني أننا أحرار يُكتب لنا الفوز في أية لحظة تأريخية.
يقول ليو تولستوي في إحدى أعظم أعمال الرواية؛ الحرب والسلام «إن المؤرخ الذي يدرس الدور التاريخي الذي قام به شخص في تحقيق هدف واحد من الأهداف، يقع على أبطال. أما الفنان الذي يدرس أفعال فرد من الأفراد في كل ظروف الحياة، فإنه لا يمكنه، ولا يجب عليه، ان يرى أبطالاً وإنما هو يرى بشراً».
أوجلان؛ الفيلسوف المفكر؛ يطرح نظرية الأمة الديمقراطية؛ أمة تقطع بقطعيّة ملحوظة كل الصلات مع الأفكار الفاشلة أو التي فشلت. وتبدو طبيعة الطرح دون أية ليونة أو مرونة في بيان الحلول وإظهار المشاكل وأسباب الأزمة. ويغيّر على طول الخط مسائل المفهوم والنظرية، ويجب هنا على دارسيه وطلابه حين القراءة أن يتخلوا عن المفاهيم القديمة حين قراءة النظرية الجديدة. من حيث أن النظريات الجديدة يلزمها دائما مصطلحات ومفاهيم خاصة بها وتكون بمثابة استدلالات النظرية وركائزها. مفهوم السلام كأنبل المفاهيم والمطلب التاريخي لحركات الحرية والأس الظاهري لجميع الفلسفات – على سبيل المثال- في النظريات المعرفية ليست واحدة، وأسلوب استحصالها أو طرق الوصول إليها ليس واحداً حتى في الأديان السماوية.
يمكن تعريف الأمة الديمقراطية بأن ممانعتها والاصرار على تغييّبها وإطلاق النار عليها من المشاريع الفئوية هو أصل الحرب؛ وأن تحقيقها هو أصل السلام. وإذا ما كان يهمنا السلام المجتمعي والاستقرار في الشرق الأوسط وكذلك أمنه –ينطبق على السوريين- فمن المهم جداً أن نتخلص من البحار السوداء التي شكلتّها الأنهار القاصرة (المالحة)، ويكون تناول نظرية الأمة الديمقراطية وفق مصطلحاتها ومفاهيمها المتعلقة بها سبباً كافياً أن نعلم لِما قاله تولستوي: إن موت 500 ألف شخصاً لا يمكن أن تكون إرادة شخص ما إنما سبباً له. هذا لا يتعلق فقط بالمرحلة النابليونية من 1801 إلى 1810؛ إنما سوريا اليوم ينطبق عليها هذه الرواية وقولها. وإن حاجتنا اليوم إلى مفهوم معرفي يجلب الحل الديمقراطي يعني اكتشافنا وتأسيسنا سويّة وبشكل سويٍّ لبحر أبيض مسالم لن يغيّر طعمه ألف نهر.[1]