طريق الخروج من الجحيم السوري
النسق السياسي التركي ما بين السلطوي والثوري
الدكتور مايكل ويليامز
إنها لمهمة مرعبة أن تكتب عن طريق السلام في سوريا التي نُتابع المشاهد المخيفة القادمة منها على شاشات محطاتنا التلفزيونية لسنوات، ونرى حكومات دول مختلفة لا ترحب بأولئك الهاربين من الحرب كلاجئين، ومنها حكومتنا التي تفعل كل ما بوسعها لاستبعادهم. بعد دخولها العام السادس الآن، يجب أن تتم دراسة الحرب السورية في إطار الفشل التراجيدي للربيع العربي، فجر الآمال الكاذب في المنطقة. إذا ما تركنا الإنجازات الهشة التي تحققت في تونس، الدولة الواقعة في شمال إفريقيا لا الشرق الأوسط، فإن آمال الإصلاح في المناطق الأخرى أفسحت المجال للأنظمة الوحشية في نواحي عديدة أكثر من سابقاتها، المشير عبد الفتاح السيسي في مصر مثال واضح على ذلك.
مشاهدتي الثانية هي انهيار سلطة الدولة في مساحات شاسعة عبر المنطقة، وأبرز الأمثلة على ذلك هي: ليبيا، سوريا، العراق واليمن. من الصعب تصور قدرة أي دولة منهم على حكم كافة المناطق داخل الحدود. ففي العراق التي تعرضت للغزو الأنجلو-أمريكي عام 2003، انتقل حكم صدام حسين الأوتوقراطي الوحشي إلى ثلاثة كيانات داخل الدولة – الأول هو حكومة حيدر العبادي الهشة في بغداد، والثاني هو الحكم الكردي في الشمال أما الثالث والأخير فهو تنظيم “الدولة الإسلامية” الذي لا يزال يسيطر على مناطق واسعة تضم الموصل، ثاني أكبر مدن العراق.
وبشكل أكثر توسعاً فإن العراق يمثل مشاهدتي الثالثة: نمو الطائفية الوحشية عبر المنطقة من خلال السنة والشيعة، ممثلين بالقطبين الرئيسيين المتحاربين (المملكة العربية السعودية وإيران). ما أسباب الحرب في اليمن؟ لماذا تدعم إيران منظمة حزب الله الغير-حكومية الأكثر تسلحا (بالأسلحة الثقيلة) حول العالم؟ في بداية الثمانينيات “قاوم” الحزب ضد التدخلات الإسرائيلية في جنوب لبنان، أما الآن فإنهم يحاربون ويقتلون إخوانهم العرب والمسلمين في سوريا وليس أعدائهم الصهاينة. في الحقيقة يعد الخط الأزرق بين إسرائيل ولبنان من أهدأ المناطق الحدودية في الشرق الأوسط.
مشاهدتين أخيريتين: انهيار مفاوضات السلام في الشرق الأوسط – لم تعد هنالك مفاوضات إسرائيلية – فلسطينية منذُ عامين وحتى الآن، أما الثانية فهي تآكل مبادئ العدالة وحقوق الإنسان على المستوى الدولي خلال السنوات العشر الماضية. لقد أصبحنا معتادين على أخذ هذه الأمور كمسلّمات حتى دون دراستها أو النظر إليها بتركيز، فعلى سبيل المثال، يعتبر مفهوم المحاكم الدولية ومبدأ مسؤولية الحماية (R2P) التزاما دوليا حدوث جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. ففي عام 1990، قادت الجرائم المرتكبة في كمبوديا إلى تشكيل محاكم خاصة إضافة إلى محكمة الجنايات الدولية في يوغسلافيا السابقة لمحاكمة مرتكبي الجرائم في كلا البلدين. وفي أعقاب هذه المحاكم الخاصة، تأسست المحكمة الجنائية الدولية عام 2002. ورغم الترحيب بذلك إلا أن كل المحاكمات والقضايا التي عُرضت عليها كانت من أفريقيا، بعضها قضايا خطيرة جداً ولكن تلك المحكمة ضعيفة أمام ما يحدث على الأرض السورية.
ففي حين أن كل من سلوبودان ميلوشيفيتش وراتكو ملاديتش مُثِلا أمام المحاكم الدولية، هنالك توقعات قليلة بمقاضاة بشار الأسد رغم الفظائع التي ارتكبتها قواته. انطلاقاً من مبدأ مسؤولية الحماية (R2P)، نحن لا نقوم فقط بعدم بذل الجهود إطلاقاً لحماية الأبرياء داخل سوريا ولكننا أيضا نقف في وجه المئات الذين يهلكون ويموتون في البحر المتوسط، ونُغلق أبوابنا في وجه الآلاف من الرجال، النساء والأطفال الذين تشملهم معايير اتفاقية جنيف الخاصة باللجوء بكل وضوح (والموقعة عام 1951)، باستثناء جمهورية ألمانيا الاتحادية التي تبذل جهوداً فردية.
الحرب كما علّمنا إياها كلاوزفيتز « ليست مجرد عمل سياسي فحسب وإنما أيضاً أداة سياسية حقيقية». في مرحلة ما ستتغلب السياسات الحقيقية على العنف في سوريا واعتقد أننا في بداية هذه العملية. يجب علينا أن نتذكر أن محادثات باريس للسلام والتي أنهت الحرب الفيتنامية – الأمريكية طالت خمسة أعوام قبل توقيع الاتفاق عام 1973 بين ما كان يعرف ب شمال فيتنام والولايات المتحدة الأمريكية، وحدث ذلك في حرب رغم ضراوتها ووحشيتها إلا أنها كانت بين طرفين أساسيين.
أما في الحالة السورية فالوضع مُعقد بشكل أكبر من الحالة الفيتنامية حيث يوجد على الأقل أربعة أطراف محددة في الصراع – نظام بشار الأسد، المعارضة السورية الملتفة حول الجيش السوري الحر والائتلاف المعارض، الكرد وأخير ما يسمى الدولة الإسلامية والمعروفة ب “الخلافة”. المشهد السوري معقد أكثر بسبب طبيعة المعارضة المشتتة حيث أن أكثر المجموعات الناجحة هي تنظيم جبهة النصرة، فرع القاعدة العالمي في سوريا، المصنّفة على لائحة المنظمات الإرهابية من قبل الأمم المتحدة، ويذكر أن المجموعة غيرت أسمها في شهر تموز الفائت لتكون مقبولة بشكل أكبر.
“رغم ضعفها الاقتصادي، قلبت روسيا الطاولة على الغرب في الملف السوري”
تزداد تعقيدات الوضع السوري إذا ما نظرنا إلى تورط الأطراف الخارجية. حيث تقف روسيا، إيران وحزب الله إلى جانب النظام السوري، وهي ثلاثة أطراف عسكرية ملتزمة وفاعلة بقوة في الملف السوري، كما أنهم حالوا دون سقوط الأسد ولا يزالون يضمنون بقائه. على النقيض من ذلك، تلقت المعارضة السورية دعما أقل بكثير من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية. لم أشمل تركيا في تصنيف الدول الداعمة للمعارضة، والتي على الرغم من دعمها القوي للمتمردين في بادئ الأمر، إلا أنها وخلال الحرب تحولت إلى عدو لدود للكرد السوريين الممثلين بحزب الاتحاد الديمقراطي PYD، الحليف الأمريكي الرئيسي على الأرض السورية.
وكلفت حالة الاختلال في توازن القوى على الأرض ثمناً باهظاً في الأرواح. سيكون من الصعب استبعاد نظام الأسد من الحل المستقبلي وهذا لا يعني بالضرورة بقاء الأسد بنفسه كشخص. عادة ما تنتهي الحروب بطريقتين فقط – ليس من الضروري أن تكون كارل فون كلاوزفيتز* حتى تدرك ذلك – الأول هو عن طريق انتصار أحد الأطراف على الآخر والثاني عن طريق المفاوضات والتسوية بين أطراف الحرب. في الحالة السورية تجاوزنا مرحلة هزيمة أحد الأطراف على يد الطرف الآخر منذ زمن طويل إذا ما كان هذا الاحتمال موجوداً أصلا منذُ البداية في سوريا. فمن الملفت للنظر أنه حتى في بدايات الانتفاضة ضد النظام عام 2011، لم تقم أي شخصية عسكرية ذات نفوذ أو وحدة عسكرية كبيرة بالانشقاق من صفوف النظام. من جانبها، لم تتدخل روسيا فلاديمير بوتين لترى رفات الأسد في سوريا. على العكس تماما ورغم نقاط الضعف في اقتصادها والتي تفاقمت بفعل انخفاض أسعار النفط، إلا أنها قلبت الطاولات على الغرب في سوريا.
على الجانب الآخر، ورغم أهمية المساعدة المقدمة من الدول الغربية لقوى المعارضة السورية إلا أنها لم تكن في حال من الأحوال مماثلة لتلك المقدمة من روسيا للنظام السوري. هنالك سببين رئيسيين لذلك: الأول هو شبح غزو العراق وخسائره الفادحة التي لا تزال ملازمة لتلك الدول. الثاني هو أنه وعلى الرغم من بشاعة أفعال النظام السوري إلا أن النظرة السائدة في كل من واشنطن، لندن وباريس هي أنه لا يمثل خطراً مباشراً على الغرب. على النقيض من ذلك، فإن تنظيم “داعش” يمثل خطراً واضحاً. ولهذا السبب تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتنفيذ ضربات جوية ضد تنظيم “داعش” في سوريا إلى جانب دعم فرنسي وبريطاني محدود.
روسيا من جانبها تقود حرباً جوية في سوريا إلى جانب قوات النظام ، أما القوة الجوية الخارجية الثالثة في المجال السوري هي إسرائيل التي نفذت ضربات جوية كثيرة ضد قوافل إمدادات حزب الله التي تمر عبر سوريا إلى لبنان، حيث مواقع الحزب العسكرية. الحالة المعقدة جداً للعنف داخل سوريا إلى جانب ازدياد قوة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وظهور الفاعل الرابع في الحرب السورية ممثلاً بتنظيم “داعش” أدى وبشكل فعال إلى ما يشبه رمي حبل النجاة لنظام بشار الأسد. وأدت الاتفاقية الروسية – الأمريكية في 09 العام الجاري والداعية إلى وقف إطلاق النار وتأسيس مركز قيادة عمليات مشتركة لضرب تنظيم “داعش” وتنظيم جبهة النصرة، إلى تعزيز الانطباع بأن النظام وحلفائه نجحوا إلى حد كبير وأن موقفهم قوي في الحرب السورية.
في ضوء هذا المشهد المعقد، يحارب زميلي السابق، ستيفان دي مستورا ببسالة لإبقاء عملية السلام حيّةً في محادثات جنيف، كما وتعمل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين على مساعدة مئات الآلاف الهاربين من الجحيم السوري، إضافة إلى وكالات أخرى تكافح لتقديم المساعدة داخل سوريا وخارجها على حد سواء. وفي نفس الوقت هنالك تكرار لموقف الأمم المتحدة البائس في ثلاثينيات القرن المنصرم، ومجلس الأمن الدولي الذي يعتبر أعلى جهة سياسية تابعة لها، فيما يخص تحقيق أي تقدم ملموس على طريق السلام في سوريا. وتبدو هيئات العدالة وحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة مشلولة في أقل تقدير. وباءت محاولة نقل الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية بالفشل بسبب المعارضة الروسية والصينية لمشروع القرار في مجلس الأمن الدولي. رغم جميع أوجه القصور، أُنشِئت مناطق آمنة خلال فترة حروب البوسنة في تسعينيات القرن الفائت. أما في سوريا لا توجد أي منطقة آمنة كما يؤكد لنا القصف المرعب الذي تتعرض له مدينة حلب.
لذلك علينا التوجه إلى روسيا للتوصل إلى تسوية للحرب السورية. الولايات المتحدة والغرب لوحدهما لا يستطيعان إنهائها. إضافة إلى ذلك فإنه لا يمكن الاستغناء عن روسيا ونظام الأسد في القتال ضد تنظيم “داعش”. ولا يزال دعم الأقليات لنظام الأسد، من غير العلويين، مستمراً وبقوة وبشكل أكثر تحديداً من قبل المسيحيين والدروز وهو الأمر الذي يحتاج إلى شرح. ففي أعقاب الغزو الأنجلو أمريكي للعراق عام 2003 والذي قضى على ديكتاتورية صدام حسن، تدهورت حالة الأقليات داخل العراق بشكل كبير. ففي عام 2003 كان عدد السكان المسيحيين يبلغ مليون ونصف في العراق، أما الآن فالعدد بالكاد يصل إلى 300 ألف نَسَمة. وكان للهجرة الجماعية لمسيحيي العراق تأثيراً عميقاً على الأقليات المتبقية في العالم العربي وبشكل خاص في سوريا. أتذكر ملاقاتي لأعداد كبيرة جداً من مسيحيي العراق في ضواحي العاصمة السورية دمشق خلال زيارتي لها عام 2008، تزامناً مع استمرار تدفق عشرات الآلاف شهريا إلى سوريا. يوضح لنا المصير الذي لاقاه مسيحيو العراق عقب الغزو الأمريكي والإطاحة بنظام صدام سبب استمرار دعم الأقليات للنظام السوري.
ولنفس السبب دخل العديد من مسيحيي لبنان من مؤيدي ميشيل عون والتيار الوطني الحر، في تحالف مع حزب الله ونظام الأسد ويُؤمنون بشدة أن مستقبلهم يعتمد على سوريا عِلمانية. ففي أي نظام يأتي ما بعد الأسد، ستحظى مسألة حماية الأقليات بأهمية بالغة. يجب علينا أن نفعل ما هو أفضل مما فعلناه في العراق. وهذا ما يتطلب قراراً من المجتمع الدولي وهو الأمر الذي لم نراه لسنوات. ما الطريق إذن لتحقيق التقدم؟ التقدم المفاجئ الذي حصل في شهر شباط 2016 كان تشكيل مجموعة الدعم الدولية لسوريا على هامش مؤتمر الأمن في ميونخ الألمانية ISSG، والتي تضم الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي إضافة إلى إيطاليا، تركيا، اليابان، إيران ودول عربية رئيسية مثل مصر، المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، قطر، العراق ولبنان جنباً إلى جنب مع المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية. استغرق الأمر خمسة أعوام ومئات الآلاف من الأرواح للوصول إلى هذه النقطة. اعتقد أن التاريخ سينتقد المجتمع الدولي بشدة بسبب عدم قدرته على الاتفاق للوصول إلى موقف مشترك لإنهاء الحرب بالاعتماد على المبادئ السليمة.
علينا أن نبني انطلاقا من هذه التطورات. من وجهة نظري يجب أن يكون هنالك مكتب دائم يطابق مستويات هذه الحرب كما يجب تكثيف البحث عن حل شامل. كخطوة أولى أود أن اقترح فتح مكتب سكرتارية صغير للمجموعة الدولية لدعم سوريا في جنيف السويسرية. قد تكون أولى الخطوات هي كتابة ميثاق لحماية الأعداد الضخمة من الأقليات السورية بالاعتماد على أفضل الخبرات الدولية. الخطوة الثانية ربما تكون بالعمل على إكمال ما نفذه عبدالله الدردري مسبقاً لدى اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب أسيا التابعة للأمم المتحدة في فرع بيروت حول مشروع إعادة الأعمار في مرحلة ما بعد الحرب. هذا العمل يجب أن يتم ربطه مع المساعي التي يبذلها صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي.
ثالثاً يجب أن تقوم مجموعة الدعم الدولية بعقد اجتماعات شهرية على مستوى المسؤولين الرسميين، وبذلك تكون المناقشات منظّمة وتكون سياساتهم المشتركة متفق عليها. أما رابعاً فيجب على مكتب جنيف تقديم تقرير عن الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن. خامساً هنالك حاجة كبيرة للمزيد من المشاركة مع روسيا بحيث تصبح هي الراعي الحقيقي للانتقال السياسي في سوريا بدلاً من تخريب ذلك. ففي حين يتفوق الرئيس فلاديمير بوتين على نظيره الأمريكي في الملف السوري إلا أن روسيا لا تريد البقاء في الحرب السورية إلى أجلٍ غير مسمى.
حالما تتحقق هذه الخطوات الخمس، عندها يمكن تصوّر الخطوة السادسة: الضغط على نظام الأسد من قبل الدول الخمسة الدائمة العضوية في مجلس الأمن لإيقاف كافة النشاطات العسكرية الجوية مع تهديده بإقامة منطقة خالية من الطيران في حال لم يقبل النظام بذلك. بدون هذه الخطوات ليس هنالك أي نهاية لجحيم الحرب السوري في الأفق القريب.
• المنسق السابق الخاص للأمم المتحدة في لبنان
• كارل فون كلاوزفيتز: مؤرخ عسكري ألماني من أصل روسي له مؤلفات أشهرها (من الحرب)
ترجمة: المركز الكردي للدراسات[1]