الورطة التّركيّة في الشمال السّوريّ
دلشاد مراد
خلال الأعوام الخمسة الماضية كانت أركان النظام الحاكم في تركيّا، وعلى رأسها أردوغان يدلون بتصريحاتٍ إعلاميّة شبه يوميّة، مفادها أنّهم يرفضون قيام أيّ كيان كرديّ في الشمال السّوريّ، وأنّهم سيتدخّلون عسكريّاً إذا لزم الأمر لكبح أيّ مكاسب للكرد في المنطقة.
ونتيجة جملة من التغييرات الجيوسياسيّة في الآونة الأخيرة في الشمال السّوريّ لصالح اتّحاد شعوب المنطقة “الكرد، العرب، السريان، التركمان….إلخ” ونجاح قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة بتحرير منطقة منبج من مرتزقة داعش تمهيداً لتحرير كامل ريف حلب الشماليّ من مرتزقة أردوغان، ووصول الاستعدادات لتطبيق المشروع الفيدراليّ الديمقراطيّ مراحله الأخيرة، أحسّ نظام أردوغان أنّ سحب البساط من تحت قدميه قد اقترب وبشكل نهائيّ، لذلك قام وعلى عجلٍ بعقد اتّفاقات مع الروس والتواصل مع الأمريكيين بغية الحصول على الضوء الأخضر لتنفيذ مشروعه التّوسّعيّ في الشمال السّوريّ.
ماهيّة المشروع التّركيّ
تضمّن المشروع التّركيّ حسب ما روّجته الأوساطُ الرسميّة التّركيّة في بداية الأمر إقامةَ ما يُسمّى “المنطقةُ الآمنة” في ريف حلب الشماليّ “في المنطقة الممتدّة من جرابلس حتّى إعزاز” وذلك بحجّةِ تحرير هذه المنطقة من داعش وتوطين اللاجئين السّوريّين فيها ومنع قيام كيان كرديّ، ولكنَّ الحقيقةَ أنَّ هذا المشروع ليس سوى ستارٍ للتدخّل التّركيّ المباشر في الشمال السّوريّ واحتلاله، ولطالما حلم به أصحاب القرار في تركيّا منذ عقود مضت، حتّى إنّ السّوريّين يعلمون ويدركون الأطماعَ التّركيّة في أراضيهم، ويتذكّرون التهديدات التّركيّة واعتبارها الشمال السّوريّ مجالاً حيويّاً لها خلال سنوات الخمسينيات من القرن الماضي، ويبدو أنّ الأتراكَ رأوا أنَّ أجواءَ الحربِ والصراعِ التي تشهدها الأرضُ السّوريّةُ هي الوقتُ الملائمُ لتحويلِ أحلامهم القديمةِ إلى واقعٍ يُعاش على الأرضِ، فكان لا بدّ لهم من حججٍ وذرائع لتمكينهم من احتلال الشمال السّوريّ.
ذرائعُ وأدواتُ الاحتلالِ
اعتمد الخطابُ التّركيّ كثيراً على الخطر الكرديّ المزعوم على وحدة تركيّا، وراح يُشيع بين الأوساطِ السّوريّة أنَّ الكردَ لديهم مشروعٌ انفصاليٌّ، وليكسب الوسطَ السّوريّ المُعارِضَ إلى جانبه ادّعى أنَّ تركيّا تقف إلى جانب الشعب السّوريّ في مواجهةِ “نظامِ بشار الأسد وإجرامه“، وأنّها ستقفُ معهم وإن لزم ذلك التّدخّلَ العسكريّ لمنعِ نظامِ الأسدِ من ارتكابِ المجازر بحقِّ الشّعبِ السّوريّ.
استطاعت تركيّا احتواء أشخاص كثر وتنظيماتٍ سوريّة ودعمتهم ماليّاً مقابل تنفيذ توجّهاتها على الأرضِ السّوريّةِ. وعمل نظام أردوغان على المتاجرة باللاجئين السّوريّين للحصولِ على الأموالِ الطائلةِ من الأوروبيين، حتّى إنَّ حكومة أردوغان قد صرّحت أنَّ لديها نوايا لمنحِ اللاجئين السّوريّين الجِنسيّةَ التّركيّة “أي تتريكهم“، وذلك بغيةَ الاستفادةِ منهم والمتاجرةِ بهم في الانتخاباتِ البرلمانيّة والرئاسيّة لتحقيق مصالح أردوغان الشخصيّة، وهذا دليلٌ بحدِّ ذاتِهِ على كذبِ نظام أردوغان في ادّعائه أنّ المنطقة الآمنة في الشمال السّوريّ ستكونُ بهدفِ توطينِ اللاجئين السّوريّين، إلا في حالِ تفكير هذا النظام أن يضمَّ ريفَ حلبَ الشماليّ إلى تركيّا على أن يغيِّر ديمغرافيّته – وهذا ما يقوم به بالفعل – ويوطِّنُ اللاجئين السّوريّين فيه ومن ثمَّ يقوم بمنحهم الجِنسيّة التّركيّة وتتريكهم مع مرور الزمن.
وإضافة إلى عدمِ تنفيذ أردوغان لأيّ من وعودِه تجاه حمايةِ السّوريّين، بل على العكس من ذلك فقد جرت الاتّصالات السريّة بين نظامي أردوغان والأسد وكشفت عن زياراتٍ عديدةٍ قام بها رئيسُ الاستخباراتِ التّركيّة فيدان هاكان خلال الأشهرِ الأخيرةِ إلى دمشقَ للتنسيق بين الطرفين وإمكانيّةِ إعادةِ العلاقات السابقة بينهما، فإنَّ فصائل وقوىً سياسيّة كثيرة بقيت تعمل وتتحرّك حسب التوجّهاتِ التّركيّةِ الأردوغانيةِ كونها هي من ترعاهم وتموّلهم، وهذا ما استفاد منه أردوغان، ليستخدمهم بالفعل كطُعمٍ في تنفيذِ المطامعِ التّركيّةِ في الشمال السّوريّ، وما الفصائلُ المشاركةُ في قوّاتِ ما يُسمّى “درع الفراتِ” إلا انعكاس لوقوعِ تلك الفصائل تحتَ التأثيرِ التّركيّ المباشرِ، وبالتالي أصبحوا عمليّاً مرتزقةً تحتَ الطلبِ لنظامِ أردوغان الذي يفعل بهم ويحرّكهم كيفما يشاء، أي إنّهم أصبحوا فئة ضَالّة ومعزولة لا يمثّلون الشعبَ السّوريَّ ولا يعبّرون عنه إطلاقاً.
وقبل إنشاء ما يُسمّى “درع الفرات“، حاول أردوغان من خلال مرتزقةِ النصرةِ وداعشَ تنفيذَ مخططِه في احتلالِ مناطق روج آفا والشمالِ السّوريّ، لكن شعوبَ المنطقةِ ومن خلال قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة أفشلوا هذا المخطط، ومع الاستعدادات الميدانيّة لتحريرِ جرابلس والباب والذي يعني هزيمة مرتزقة داعش والمخطط التّركيّ معاً، أسرع أردوغان للالتفافِ على مكتسباتِ شعوب روج آفا – شمال سوريّا، وعقد اتّفاقاتٍ مع الروس والأمريكيين لمنحِهِ الضوء الأخضر للتدخّل العسكريّ المباشر واحتلال الشمال السّوريّ.
الصراع الإقليميّ والدوليّ في الشمال السّوريّ
يُعدُّ الشمال السّوريّ منطقة تجاذباتٍ معقّدةٍ في حساباتِ الدول الإقليميّة والدوليّة، فهي نقطة تقاطع مصيريّة لنفوذِ ومصالحِ جميعِ الأطرافِ الخارجيّة والداخليّةِ المتصارعةِ على الأرضِ السّوريّةِ.
فما يهمُّ الروس حالياً هو إنهاءُ أيّ وجودٍ للفصائلِ المعارضةِ في مدينةِ حلبَ، كونها تريدُ أن تكونَ هذه المدينة الإستراتيجيّة بيدِ نظامِ بشار الأسد تمهيداً لإطلاق يدِ الأخير في جميعِ أرجاءِ البلاد، أيّ كلّما تمدّد نفوذُ الأسدِ يتمدّدُ نفوذُها أيضاً، على عكس الأمريكيين الذين يتنافسون مع روسيّا لفرضِ نفوذِهم على أكبرِ قدرٍ ممكنٍ من الأرضِ السّوريّةِ.
واللقاء الذي سبق إطلاق عمليّة درع الفرات بين أردوغان وبوتين يشير إلى توصّلِ الطرفين إلى اتّفاقِ “موافقةٍ روسيّةٍ على خططِ أردوغان في الشمال السّوريّ مقابل سحب تركيّا يدها من حلب واستقبال الفصائل التي يطردها النظام من ريف دمشق والضغطِ على الفصائلِ التابعةِ لها للانسحابِ من حلب“، وهذا ما يحصلُ على أرضِ الواقع، فالفصائل التي تدرّبُها تركيّا وتموّلُها ليست إلا فصائل مطرودة من ضواحي دمشق، وبالتالي فإنَّ تركيّا تتخذُ منهم هنا حصان طروادة لعمليّة تدمير الثورة السّوريّة وإنهائها في الداخل السّوريّ لصالح تحريك تلك الفصائل في مناطق أخرى وتوجيهها تركيّاً من أجل خلق فتنة بين الشعوب والمكوّناتِ السّوريّةِ ولاسيّما في الشمالِ السّوريّ وإحراقها في أتونِ الصراعِ السّوريّ.
وفي الوقت الذي تدعمُ الولايات المتّحدة فيه قوّاتِ سوريا الدّيمقراطيّةِ عسكريّاً، أعطتِ الضوءَ الأخضرَ لتركيّا لإطلاقِ عمليّة درع الفرات في الشمال السّوريّ، حتّى إنَّ وزيرَ الدفاعِ الأمريكيّ في زيارته الأخيرة لأنقرة امتنع عن الردّ على أسئلة الصحفيين حول موقف بلاده من العمليّات العسكريّة في مناطق الشهباء.
إنَّ الموقفَ الأمريكيّ الداعمَ لتركيّا في احتلالها لسوريّا يعودُ إلى إرضاءِ الأمريكيين لتركيّا للحؤولِ دون وقوعها في النفوذ الروسيّ تماماً، لاسيّما وأنَّ روسيّا وتركيّا وقّعتا اتّفاقياتٍ اقتصاديّةً في الآونة الأخيرة.
إيرانُ التي تدعمُ فعليّاً نظامَ بشار الأسد في الحربِ السّوريّةِ ويُشاركُ عشراتُ الآلافِ من عناصرِها في مناطقِ الصراعِ داخلَ سوريا ترفضُ أيَّ دورٍ للفصائلِ المدعومةِ من تركيّا في حلب، لكنّها تلتزمُ الصَّمتَ حيالَ الاحتلالِ التّركيّ لمناطقِ جرابلس وإعزاز “ريف حلب الشماليّ“، وهذا الأمرُ عائدٌ إلى الذهنيّة الاستبداديّةِ والإجراميّةِ ذاتها لملالي طهران، إذ إنَّ الأخيرةَ ترفضُ أيَّ مكتسباتٍ لشعوبِ المنطقةِ، فهي تقمعُ الشعوبَ العربيّة والكرديّة والبلوشيّة على أراضيها وتهضم حقوقهم، ولذا فإنّه ليس من مصلحة هؤلاء الملالي حصول شعوب روج آفا – شمال سوريّا على حرّيّتهم.
أما دولُ الخليج ولاسيّما العربيّة السعوديّة وقطر، فلا همَّ لهما سوى درءِ الخطر الإيرانيّ عن منطقتهم وأنظمتهم، ولذلك فإنّهما تقومان بدعم السياسةِ التّركيّةِ التّوسّعيّةِ في الشرق الأوسط، دون أيّ اعتبارٍ أو إدراكٍ لخطرِ الاحتلالِ التّركيّ للأرضِ السّوريّةِ وعلى مستقبلِ شعوبِ المنطقةِ.
هل تورّطت تركيّا في الشمالِ السّوريّ؟
على الرغمِ من إطلاقِ القوى الدوليّةِ المُهيمنة “روسيّا وأمريكا” يدَ تركيّا في الشمال السّوريّ، إلا أنّها على درايةٍ بأنَّ شعوبَ المنطقة لن تسمح لتركيّا بتحقيقِ أحلامِها التّوسّعيّةِ في سوريّا، وأنّها ستقاومُ الاحتلالَ التّركيَّ بكلِّ السُّبلِ المتاحة، وأنّها لن تسمح لها بالبقاءِ على الأرضِ السّوريّةِ، ولذلك فهناك تساؤلات عن النيّةِ الحقيقيّةِ للقوى الدوليّةِ المُهيمنة من جرّاء إطلاقِ يدِ أردوغان في سوريّا.
وبالنظرِ إلى السياقِ التاريخيّ للقوى والإمبراطوريّات المُهيمنة، فإنّنا ندرك سعي تلك القوى إلى ضرب الشعوب ببعضها البعض، عملاً بمبدأ “فرَّق تسد” بغية إضعاف الشعوب والسيطرة عليها تحقيقاً لمصالِحها ومدِّ نفوذِها على أرجاءِ المعمورةِ كافة.
وأردوغان الذي يسعى ويهرولُ ويغامرُ نحو تنفيذِ مشروعِ توسّعيّ خياليّ سيكونُ مصيره كباقي من سبقه، فهو لا يدرك أنّه قد أصبح بيدقاً بيدِ الروس والأمريكيين لخلقِ فتنةٍ وصراعٍ عرقيّ في الشمال السّوريّ.
دورُ شعوبِ المنطقةِ في مواجهةِ الاحتلالِ التّركيّ
تدركُ شعوبُ روج آفا – شمال سوريّا الخطرَ التّركيّ ولاسيّما أنَّ الأتراكَ العثمانيين قد احتلّوا المنطقةَ لمدّةِ أربعةِ قرونٍ، ونشروا خلالها الجهل والأميّة وكانت الأوضاع الاقتصاديّةِ والاجتماعيّةِ والسياسيّةِ سيّئة جدّاً، ولذلك فإنَّ تلك الشعوب ترفضُ أيّ وجود للأتراك في الشمال السّوريّ، وقد أبدى أهالي ريف حلب الشماليّ من المكوّنِ العربيّ تأييدهم وترحيبهم بقوّاتِ سوريّا الدّيمقراطيّةِ التي تمثّل مكوّنات وشعوب المنطقة، وقد ظهر للعيان الرفضُ الواسعُ للمكوّناتِ والشعوبِ لأيّ احتلالٍ تركيّ للمنطقةِ من خلال المسيراتِ الاحتجاجيّة المتواصلةِ في مدنِ وأريافِ مناطق الشهباء وروج آفا.
إنَّ فعّاليّة شعوب ومكوّنات روج آفا – شمال سوريّا في درءِ خطرِ الاحتلالِ التّركيّ يكمنُ في الاستمرارِ بتوحيدِ الخطابِ والمواقف تجاه التحدّيات الجديدة، والتعبئةِ العامّةِ على كلِّ الصُّعدِ عسكريّاً واقتصاديّاً، وعدمِ المُراهنةِ على تأييدِ القِوى الدوليّة المُهيمنة…إلخ. كما أنَّ على شعوبِ ومكوّناتِ روج آفا – شمال سوريّا الإسراع باستعداداتِها للإعلانِ عن المشروعِ الفيدراليّ الديمقراطيّ باعتبارِه البديل الحقيقيّ للاستبداد والفوضى الحاصلة في سوريّا، كما أنَّه الحلَّ الوحيدَ لقضايا الشعوبِ والمكوّناتِ السّوريّةِ.
أما الأطرافُ المحليّةُ التي تلتزمُ الحيادَ تجاه الاحتلالِ التّركيّ للشمالِ السّوريّ أو تؤيّده، فإنّها ستُحاسبُ من قبل شعوب روج آفا على موقفها اللا وطنيّ واللا أخلاقيّ، فالواجب الوطنيّ يدعو الجميعَ للمشاركةِ في عبءِ المقاومةِ والانضمامِ إلى حملاتِ التحريرِ لما فيه من مصلحةٍ مشتركةٍ لكلِّ شعوبِ روج آفا والشمالِ السّوريّ.[1]