*الباحث :محمد سيد رصاص
*المركز الكردي للدراسات
كان انقلاب يوليو/تموز 1908 على السلطان عبدالحميد ومن ثم عزله في أبريل/نيسان 1909من قبل القوميين الأتراك في جمعية الاتحاد والترقي بداية لانهيار بناء الدولة العثمانية، مادام أن الحاكمين في العاصمة العثمانية الآستانة، إسطنبول، فرضوا حكماً لقوميين أتراك على دولة كان سلطانها الذي يحمل لقب خليفة المسلمين يحاول معالجة تداعي دولته التي كانت تسمى «الرجل المريض» من خلال دواء «الجامعة الإسلامية» ليجمع الترك والعرب والكرد في تلك الدولة برباط جامع.
في العقد الثاني من القرن العشرين، ظهرت بدايات حركات قومية عند العرب والكرد بوجه حكم الاتحاديين. كان جنينها الأول هو دعوات اللامركزية الإدارية في جمعيات سرية عربية كانت ذروتها في المؤتمر العربي الذي عقد في باريس في يونيو/حزيران 1913 وكان وراءه حزب اللامركزية الذي مركزه القاهرة ويرأسه رفيق بيك العظم.
ولم يصدر عن المؤتمر الذي رأسه الشيخ الحمصي عبدالحميد الزهراوي دعوة للانفصال العربي عن الدولة العثمانية بل أن «يكون لأهل كل ولاية الكلمة العليا في إدارة شؤونهم الداخلية، ويكون لمجموع الأمة العثمانية سلطة عليا نيابية قائمة على النسبة الصحيحة لإدارة الشؤون العامة» (1) و«حكومة عثمانية لا تركية ولا عربية، حكومة يتساوى فيها جميع العثمانيين في الحقوق والواجبات، فلا يستأثر فريق بحق من الحقوق ولا يحرم فريق من حق من الحقوق لا بداعي الجنس ولا بداعي الدين، عربياً كان أو تركياً أو أرمنياً أو كردياً، مسلماً أو مسيحياً إسرائيلياً أو درزياً» (2)، بحسب ما تم ايجاز ما يراد من أهداف المؤتمر في كلمة نائب رئيس حزب اللامركزية إسكندر عمون.
ورغم ما أبداه الاتحاديون من إيحاءات وحتى اتفاقات مكتوبة مع مندوبين أرسلهم المؤتمر للآستانة مع استقبال لهم من السلطان محمد رشاد، فإن أجواء الاتحاديين في خريف 1913 تبدلت مع بوادر اقتراب الحرب العالمية الأولى واتجاههم للتحالف مع الألمان ضد الإنكليز والفرنسيين والروس.
وهو ما ترافق مع استيقاظ نزعة قومية تركية طورانية عند الاتحاديين، وكان من مظاهرها آنذاك تأسيس جمعية «ترك أوجاقي»، أي الموقد التركي، برعاية الاتحاديين في العاصمة العثمانية، وهي تحوي اتجاهات لضم أراض تابعة للقيصر الروسي ونزعات جنينية معادية للإسلام والعرب، حيث كانت هذه النزعة الطورانية قوية في الإدارة والجيش (3).
على الأرجح أن هزيمة العثمانيين في حربي البلقان في عامي 1912و1913وفقدان العثمانيين معظم أراضيهم الأوروبية ساهم في ولادة الطورانية عند الاتحاديين، وأيضاً قبلها هزيمتهم أمام الإيطاليين في حرب ليبيا عام 1912، حيث رأوا في التحالف مع الألمان والنمساويين ضد الروس فرصة لأخذ الأراضي الروسية في القفقاس وآسية الوسطى، حيث يسكن عرق تركي، كنوع من التعويض.
كانت الطورانية تعني استعصاء التفاهم العربي- التركي الذي سعى له اللا مركزيون العرب أو دعاة الإصلاح بين الأتراك ومنهم مقربون من السلطان، وكان هو نفسه في هذا الجو.
مع نشوب الحرب العالمية الأولى في صيف 1914 ودخول الدولة العثمانية في الخريف بها، كان الانشقاق العربي- التركي أخذ مساراً سريعاً.
ومن إرهاصاته، مراسلات الشريف حسين مع البريطانيين في 1915 و1916 وإعدام قادة سياسيين وصحافيين عرب في 1916، ومن ثم «الثورة العربية الكبرى» التي أعلنها الشريف حسين على الدولة العثمانية في #10 -06- 1916# ، والتي كان لها مساهمة كبرى في هزيمة العثمانيين العسكرية بالحرب وإعلان استسلامهم في اتفاقية مودروس في #30-10- 1918# .
بدأ التاريخ السوري مع اتفاقية مودروس التي عنت عملياً تداعي الدولة العثمانية، من حيث أنه أعقبها محاولة تأسيس كيان سياسي سوري لدولة رأينا إعلانها مع تنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على سوريا في #08 -03- 1920# من قبل المؤتمر السوري العام الذي رأسه الشيخ الطرابلسي رشيد رضا.
وكانت الحدود المعلنة لهذه الدولة تشمل أراض تمتد من خط أضنة – الموصل حتى خط رفح – العقبة. ثم جاءت معركة ميسلون في يوليو/تموز من نفس العام ودخول الفرنسيين إلى دمشق في اليوم التالي، ما أنهى مملكة فيصل الذي ذهب إلى المنفى قبل أن يعينه البريطانيون ملكاً على العراق في العام التالي.
على ضوء هذه المقدمة، ومن أجل سرد التاريخ السوري يجب وضع الحقب التالية:
1- يوليو/تموز 1908 إلى يوليو/تموز 1920: الجنين السوري ثم الولادة وبعدها بأشهر موت المولود.
2- الانتداب الفرنسي 1920- 1946: في معاهدة سيفر التي عقدتها الدول المتحاربة مع الدولة العثمانية في أغسطس/آب 1920، تم تحديد الحدود التركية – السورية بخط يمتد من بلدة كاراتاش شرق مرسين ثم يتجه شرقاً على مسافة شمالية بثمانية كيلومترات من خط حديد برلين- بغداد على خط عنتاب- أورفة- ماردين، ومن ثم إلى نهر دجلة شمال نقطة التقاء نهر خابور- سو مع دجلة على بعد شمالي من جزيرة بوتان (ابن عمر) بعشرة كيلومترات، ومن ثم بخط مستقيم من بوتان حتى دخول دجلة في أراضي بلاد الرافدين (مادة 27، قسم 2، رقم 2 من المعاهدة).
في اتفاقية أنقرة في أكتوبر/تشرين الأول 1921 المنعقدة بين الفرنسيين وحكومة «الجمعية الوطنية» التي كان يهيمن عليها مصطفى كمال ضد الحكومة العثمانية في إسطنبول، رسمت الحدود الحالية بين سوريا وتركيا مع مقاطعة إسكندرونة «DESTRICT» ضمن الأراضي السورية مع وضعية خاصة لها إدارياً وثقافياً فيما يخص الناطقين باللغة التركية ( المادة 7).
ولكن فقدت سوريا بهذه الوضعية في الاتفاقية الجديدة 18ألف كيلومتر مربع من أراضيها من أراضيها المنصوص عنها في سيفر، وهو ما استمر في #معاهدة لوزان# في يوليو/تموز 1923 التي ثبتت حدود اتفاقية أنقرة.
وبحسب ميثاق عصبة الأمم التي أعطت فرنسا وضعية الانتداب على سوريا، لا يحق للدولة المنتدبة اقتطاع الأراضي أو تقسيمها، بل الانتداب هو مجرد إدارة للسكان والأرض، ولا تملك الدولة المنتدبة الوصاية والسيادة على الأرض والسكان.
في#01-09 1920# ، أعلن الفرنسيون ولادة دولة لبنان الكبير وفق حدود لبنان الحالي. وكان الانتداب البريطاني أعلن الانتداب على فلسطين في أبريل/نيسان 1920، فيما أعلن البريطانيون ولادة إمارة شرق الأردن للامير عبدالله بن الشريف حسين في مارس/آذار 1921، وم ثم عينوا أخيه فيصل ملكاً على العراق في أغسطس/آب 1921.
وفي 1923، تم الاتفاق البريطاني- الفرنسي على الحدود بين سوريا ولبنان وشرق الأردن وفلسطين.
في العشرينيات، أقام الفرنسيون أربع دول في سوريا الحالية: دمشق- حلب – جبل الدروز- جبال العلويين. وفي الثلاثينيات، فكروا بدولة أو كيان سياسي في منطقة الجزيرة يشبه في تركيبته لبنان.
في عام 1925، دمجوا دولتي دمشق وحلب.
وفي معاهدة 1936 التي عقدتها فرنسا مع «الكتلة الوطنية»، كان هناك اعتراف بالجغرافية السورية الحالية زائد لواء إسكندرونة بوصفها هي سوريا، مع فترة انتقالية ينتهي بها الانتداب الفرنسي وتصبح سوريا دولة مستقلة عضو في عصبة الأمم مع «تسهيلات برية وجوية وبحرية» تقدمها لفرنسا وقت الحرب، وأنه «لن يلحق أي تغيير بوضعية الإسكندرون» المنصوص عليه في اتفاقية أنقرة وفي معاهدة لوزان (4).
لم تلتزم باريس بمعاهدة 1936 من حيث موضوع الاستقلال السوري ولا من حيث موضوع الحفاظ على الوضعية السورية للواء إسكندرونة التي ثبتتها معاهدة 1936، بل سلخته وأعطته وفق عملية تدرجية إلى تركيا بين عامي 1937و1939، وفق رؤية فرنسية شاركتها أو لم تمانعها لندن في أن هذا السلخ للحم السوري يمكن أن يمنع تكرار تحالف الأتراك مع الألمان في الحرب العالمية الأولى في حرب جديدة مع أدولف هتلر كانت غيومها تتجمع بكثافة في النصف الثاني من الثلاثينيات.
ولكن هزيمة فرنسة واحتلال الألمان لها عام 1940، أنشأ وضعية سورية خاصة حيث باتت السيطرة على لبنان وسوريا بيد حكومة فيشي الفرنسية المتعاونة مع الألمان بزعامة المارشال بيتان، وهو ما قاد إلى غزو بريطاني من العراق وفلسطين لهما مع تعاون عسكري رمزي من قبل حكومة الجنرال ديغول المقيمة في لندن في يونيو/حزيران ويوليو/تموز 1941. عملياً، ومنذ يوليو/تموز 1941وحتى يوم الجلاء الفرنسي عن سوريا في #17-04- 1946#
كانت السيطرة البريطانية هي الأقوى في سوريا وكان الفرنسيون أضعف. والاستقلال السوري الفعلي الذي حصل يوم الجلاء كان أساساً نتيجة استغلال قادة سوريين، من أمثال سعد الله الجابري وشكري القوتلي وفارس الخوري، للتناقضات البريطانية – الفرنسية التي يمكن تلمسها في مذكرات الجنرال ديغول بوضوح وبالذات تجاه ما حدث يوم #29 -05-1945# أمام المجلس النيابي السوري والذي كان الانكسار الفرنسي فيه انكساراً أمام لندن، وهو ما قاد إلى الجلاء عملياً، حيث كان اجتماع الوطنية السورية النازعة للاستقلال مع رياح بريطانية عاملاً أساسياً في جلاء الفرنسيين.
3-الفترة السورية 1946-1958: في كتاب سوفياتي بعنوان «اقتصاد سورية الحديث» نجد التالي: «تراكم في سوريا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية حوالي 500 مليون ليرة سورية معظمها بالجنيهات الإسترلينية والفرنكات الفرنسية.. وكان المصدر الرئيسي لرؤوس الأموال التي أوجدت مشروعات جديدة أتى من الأرباح التجارية التي جمعها السوريون داخل البلاد وخارجها سنوات الحرب.. جاء معظمها من نفقات قوات الحلفاء في سوريا» (5). عبر هذا، ظهرت طبقة رأسمالية واضحة المعالم في الصناعة والتجارة والبنوك، وحتى اتجه بعضها نحو الرأسمالية الزراعية.
كان التعبير السياسي لهذا التطور الاقتصادي- الاجتماعي في النصف الثاني من الأربعينيات بان في حزبين تبلورا وولدا من رحم «الكتلة الوطنية» هما الحزب الوطني، وتركز في دمشق، وحزب الشعب، وتركز في حلب.
كان الحزب الأول في ميوله يتجه نحو محور القاهرة – الرياض، فيما كان الثاني يتجه نحو الهاشميين في بلاد الرافدين حيث السوق الاقتصادية لتصريف المنتجات الصناعية وخاصة النسيجية التي تنتجها مدينة حلب. كما كان حزب الشعب يعكس شعوراً عند الصناعي والتجاري الحلبي بأن المكانة الاقتصادية المتفوقة لحلب لا تنعكس سياسياً في مراكز القرار السياسي الذي يهيمن عليه الدمشقيون في دمشق.
كان اضطراب فترة ما بين الجلاء وحصول الانقلاب العسكري الأول لرئيس الأركان حسني الزعيم في مارس/آذار 1949 ناتجاً من هذا الاستقطاب الدمشقي- الحلبي في انعكاساته الداخلية وفي ترجمته للصراع الإقليمي ما بين هاشميو بغداد مع الملك المصري فاروق وحليفه الملك عبد العزيز آل سعود. ثم أضيف لهذا الاضطراب الأداء غير الكفوء للجيش السوري في الحرب أمام إسرائيل بعد قيامها عام 1948.
يمكن أن يكون انقلاب الزعيم رد فعل على محاولة المدنيين تحميل العسكريين مسؤولية نتائج الحرب. ولكن في الأشهر الأربعة ونصف، ظهر أن الزعيم يتجه ضد بغداد. كما يتجه إلى تلبية طلبات أميركية مثل تمرير اتفاقية خط نفط «التابلاين» لشركة «أرامكو» الأميركية والآتي من السعودية عبر الأردن والأراضي السورية إلى الساحل اللبناني بعد أن عرقله المجلس النيابي السوري لأكثر من سنة في مطالبته بأن يكون مصب الخط في الساحل السوري. والأرجح أن الزعيم عندما كسر الاستعصاء السوري في التوقيع على اتفاقية الهدنة مع إسرائيل كان يلبي الكثير من المتطلبات الدولية.
في أغسطس/آب 1949، أطيح بالزعيم في انقلاب عسكري بقيادة سامي الحناوي، وجرت انتخابات بعد ثلاثة أشهر لانتخاب جمعية تأسيسية تكون بمثابة رحم دستور مع صلاحيات المجلس النيابي فاز فيها حزب الشعب وحلفائه بأغلبية المقاعد (63من أصل 114). وكادت سوريا أن تلامس حافة الاتحاد مع العراق عبر الطرق الدستورية، وهو ما قاد إلى انقلاب أديب الشيشكلي في ديسمبر/كانون الأول 1949 مدعوماً من القاهرة والرياض وربما من باريس التي كانت ترى مشروع الهلال الخصيب صناعة بريطانية.
في ليلة 28- 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1951، قام الشيشكلي بانقلابه الثاني بعد أن كان الجيش لسنتين يدير الكثير من الخيوط من وراء ستارة المدنيين في البرلمان والحكومة. ووفق دراسة نشرها دوغلاس ليتل في مجلة «ميدل إيست جورنال» المجلد 44، العدد 1، شتاء 1990، ص 51-75، بعنوان: «الحرب الباردة والعمل السري: الولايات المتحدة وسوريا 1945- 1958»، فإن انقلاب الشيشكلي الثاني كان بتشجيع أميركي لتأمين موافقة سوريا على خطة «قيادة الشرق الأوسط- MEC» التي قدمتها واشنطن ولندن وباريس وأنقرة قبل شهر ونصف (ص60)، والتي كان يعارضها رئيس الوزراء المطاح به وهو معروف الدواليبي. وهي دراسة اعتمد فيها ليتل على الوثائق السرية التي كشفت أواخر الثمانينيات في واشنطن.
لم تعدل تلك الانقلابات العسكرية الأربعة العلاقات الاقتصادية- الاجتماعية، ولكنها نقلت مركز السلطة من الحزبين الكبيرين إلى الجيش (الزعيم وما بعد انقلاب الشيشكلي الثاني) أو جعلت الأخير يشارك المدنيين السلطة (الحناوي وما بعد انقلاب الشيشكلي الأول). بعد الانقلاب على الشيشكلي في الأسبوع الخير من فبراير/شباط 1954، لم تتغير اللوحة الاقتصادية- الاجتماعية، حيث الثقل الاقتصادي للتجار والصناعيين وأصحاب البنوك في المدينتين الكبيرتين مع تهميش الريف والبلدات الصغير وحتى المتوسطة. كما عاد الحزبان الكبيران ليتصدرا المشهد.
ولكن انقسامهما في عام 1955 بسبب تصادم بغداد نوري السعيد مع قاهرة عبد الناصر على مشروع «حلف بغداد» أتاح المجال لصعود اليسار العروبي والشيوعي، خاصة مع ميل الكفة الإقليمية لصالح عبد الناصر بعد حرب 1956. مع صعود اليسار العروبي، قوي الجيش مجدداً، خاصة مع بوادر صراع شيوعي مع البعثيين في خريف 1957.
وكان هناك الكثير من عوامل الدفع نحو الوحدة مع مصر عند عروبيين وحتى عند سياسيين في اليمين مثل فارس الخوري نتيجة الخوف من المد الشيوعي. واعترف الخوري لباتريل سيل، وهو على فراش الموت عام 1960، بأنه «رغم عدم موافقتي على قيام الوحدة، فإنني لم أعارضها علناً. وظننت في ذلك الوقت أنها الطريقة الوحيدة لصد زحف الشيوعية إلى البلاد» (6).
4- فترة 1958- 1970: قادت الوحدة السورية – المصرية إلى تغير الفئة الحاكمة التي كانت بين المدنيين في فترة 1946-1949 وفترة 1954-1958، وأيضاً في الجيش حيث لم تنقل السلطة المدنية لأيدي عبدالناصر فقط بل أعاد الأخير هندسة الجيش السوري أيضاً.
وكان من أبرز ما قام به عبدالناصر إعادة هندسة اللوحة الاقتصادية- الاجتماعية السورية عبر اجراءي الإصلاح الزراعي عام 1958 وتأميم البنوك والمصانع عام 1961، ما أنتج انقلاباً كاملاً في العلاقات الاقتصادية- الاجتماعية السورية لغير صالح الصناعيين والتجار وأصحاب البنوك في المدينتين الكبيرتين.
ودشنت فترة الوحدة السورية- المصرية بداية انحسار القوة السياسية- الاقتصادية- الاجتماعية- الإدارية- الثقافية لدمشق وحلب وبداية صعود قوة الريف في هذه المجالات الخمسة مع البلدات الصغيرة. لم يستطع حكم الانفصال بين سبتمبر/أيلول 1961 ومارس/آذار 1963 كسر هذه الموجة أو ردها، ليسقط ويتابع حكم حزب البعث هذه الموجة ويوصلها إلى ذرى أعلى، مع ظاهرة جديدة هي صعود الضباط الريفيين إلى مركز القرار السياسي.
5- فترة 1970-2011: تميزت فترة حكم الرئيس حافظ الأسد بأنها أنهت موجة الانقلابات العسكرية التي انطلق عام 1949، وأنها أنهت الصراعات الداخلية السلطوية التي عاشتها فترة 1963 حتى نوفمبر/تشرين الثاني 1970. اقتصادياً، استمر قطاع الدولة، المسمى بالقطاع العام، بالسيطرة على غالب مفاصل الحياة الاقتصادية الداخلية والخارجية.
ولكن فتح العهد الجديد كوة اقتصادية، كانت تتوسع تدريجياً، للتجار والصناعيين، خاصة الدمشقيين، قبل أن تُفتح نافذة كبرى لهم مع المرسوم رقم 10 عام 1991، وهو ما جعل سوريا تدخل عملياً في مرحلة صعود اقتصاد السوق على حساب رأسمالية الدولة، حتى بان هذا واضحاً في مرحلة ما بعد عام 2004 عندما تم التشريع للبنوك الخاصة والدخول في مرحلة صريحة من اقتصاد السوق وابتعاد الدولة عن التكفل بوظائف اقتصادية- اجتماعية بالتدريج، ولكن على طراز لا يترافق فيها اقتصاد السوق مع الديمقراطية السياسية.
في فترة 2004-2011، صعدت القوة الاقتصادية الحلبية بتشجيع من السلطة، بالترافق مع القوة الاقتصادية الدمشقية. ومن اغتنى من أفراد السلطة السياسية أو من أقاربهم أو من القريبين منهم، شكّل مع الرأسمالية الحلبية- الدمشقية القوام الرئيسي لطبقة رأسمالية جديدة مثل التي تشكلت في فترة 1939-1945 أثناء الحرب العالمية الثانية. ولم تكن سوريا استثناءً عن الاتحاد السوفياتي أو مصر الناصرية عندما كانت رأسمالية الدولة ممراً اجبارياً إلى اقتصاد السوق.
بين 1970-2011، لعبت سوريا لأول مرة في تاريخها أدواراً إقليمية لم تقتصر على لبنان 1976-2005، بل كان لدمشق أوراقاً مؤثرة في الداخل العراقي المضطرب في فترة حكم البكر وصدام ثم في فترة 2003-2007. وكان لدمشق تأثيرات قوية في صراعات منظمة التحرير الفلسطينية.
وفي الصراع العربي- الإسرائيلي امتلكت دمشق ورقة أنه «إذا كان لا حرب بدون مصر فإن لا سلام من دون سوريا»، وهي ورقة اتضحت كثيراً بعد اتفاقيات كامب دافيد عام 1978.
كانت بداية انحسار الدور الإقليمي السوري مع الانسحاب العسكري من لبنان عام 2005 والذي أتى كترجمة في بلاد الأرز لتصادم دمشق مع واشنطن تجاه العراق المحتل عام 2003. وهو ما ترافق فيما بعد مع صعود إيران وتركيا في عموم المنطقة.
6- فترة الأزمة السورية 2011-2024: كان الانفجار السوري الداخلي في درعا في مارس/آذار 2011 متركزاً في مناطق ريفية مع بلدات صغيرة أو متوسطة، وهو ما ترافق مع تدهور القطاع الزراعي بين 2004-2011 بسبب الجفاف وارتفاع أسعار المازوت والأسمدة الزراعية. لم يكن الحراك السوري الاجتماعي شاملاً لدمشق وحلب. أدت عدم قدرة السوريين على التسوية الداخلية في بحر عام 2011 إلى أقلمة الأزمة السورية ومن ثم تدويلها. على الأرجح أن أزمة 2011 ستدفع السوريين إلى سن عقد اجتماعي جديد غير الذي كان قائماً منذ أبريل/نيسان 1946.
(1) زين نورالدين زين: «نشوء القومية العربية»، دار النهار، بيروت 1979،ص 100.
(2) المرجع السابق، ص101.
(3) نفس المرجع، ص 107-108.
(4) ستيفن لونغريغ: «تاريخ سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي»، دار الحقيقة، بيروت 1978، ص 280-281.
(5) ف. ب . فيكتوروف: «اقتصاد سورية الحديثة»، دار البعث، دمشق 1970، ص 24.
(6) باتريك سيل: «الصراع على سوريا»، دار الأنوار، بيروت 1968، ص 423.[1]