هيولا الحداثة
دلبرين فارس
للوهلة الأولى وبالنظرة الظاهرية لنتاجات الحداثة هي التقدم التقني والعلمي، وتغييرٌ في الشكل والأسلوب لأنماط الحياة، لكن يبدوا واضحاً إن لأصل ولوقع الحداثة وفعاليتها القوية في التأثير بحركة الإنسان وبمفاصل المعيشة اليومية على كوكبنا، وحتى في أصغر أجزاء الزمان والمكان منها اوجدت واقعاً مؤثراً جداً وضاغطاً ليس فقط على ماديات الحياة واشيائها واحتياجاتها اليومية، بل وصل حتى إلى التأثير السحري في الثقافة الإنسانية وفي عقلية الإنسان وفكره وخصوصاً الإنسان الشرقي الذي يعد نفسه مؤسس الحضارات.
أوجد هذا التحديث للواقع العالمي المتحدث المتمدن خاصةً في أنظمة القرن العشرين، وفي كل لحظة حالة من الانسلاخ الحضاري والخرق الكبير في الجدار الفكري والثقافي للإنسان، حتى أصبح كآلة ومكنة و دابة مسيَّرة جاهزة لتقبل وتنفيذ كل ما يملى عليه دون ترددٍ أو تفكيرٍ أو مقاومة، لقد وصل البعض لحدٍ انسلخ من آدميته التي تدفعه في أن يكون حراً ومعترضاً وناقداً، حيث فقد الثقة بنفسه وبتقويمه وبقدسيته من بين كل المخلوقات الأخرى تماماً.
اليوم وللأسف نرى واقعاً ممسوخاً ومشوهاً للإنسان، يريد البعض به ديمومة جشعه وغطرسته، وهذا بلا أدنى شك يعطينا بشكلٍ واضحٍ مدى الانحدار المخزي والسقوط المتهاوي لمفرزات الحداثة على الصعيد الإنساني، وبالرغم من أهمية هذا المفهوم (الحداثة) على الصعيد العلمي والتقني والأدبي والفني والفلسفي، وشيوعه في الفكر المعاصر، إلا إن التباساته ولما ينطوي عليه من تشعباتٍ لأبعادٍ ومدلولاتٍ حول الوجود الإنساني كمخلوقٍ أخلاقيٍ عاقلٍ قيّمٍ حُر، يدحر كل نتاجاتها في الأصعدة المذكورة.
السؤال هنا لماذا أهان البعض العقل والقيم الإنسانية وأدرجها في أسواق الحداثة بثمنٍ بخس، وألَّفَ عقلية القطيع حتى أدمن الاستسلام والخنوع والذل، فلا ثقافة إلا ثقافة القطيع ولا فكر إلا فكر القطيع ولا عقلية إلا عقلية القطيع..!
نعم اليوم ليس هناك أزمةٌ في العقول بقدر ما هنالك بيعٌ للنفوس.
نعم يجب أن يعترف البعض أولاً بأنهم يعانون من مشكلات التحايل والتغابن في تعريف الثقافة والحضارة والحرية…. وفق منظور الحداثة، والغوص في فوضى الأفكار والأزمات المزمنة في النهضة الحضارية أو ما يسمى بعصر الحداثة، وأن قضايا إنسانية جوهرية أصبحت تعالجُ بالحروب وبالكوارث البشرية، ورهنٌ في موازينها (الحل الوحيد لمعالجة القضايا الإنسانية)، فارقٌ كبيرٌ بين أن تتحول حضارة ما عن مركز الصدارة إلى الخضوع المخزي للنماذج النمطية المحدثة، حيث ثقافة الغباء وشعور النقص والتقزيم والتحقير للذات على مستوى الأفراد والجماعات، وهذا ينبئ بمدى الضعف الذي توصل إليه الشعوب، بحيث أصبحوا غير قادرين على ظهور أي ردة فعل لكل ما حصل ويحصل لهم، غالبيتهم ركنوا واستسلموا لواقعهم المخزي، ركعوا للإله المتغطرس المتحكم بهم من خلال جهازه السلطوي المسير الخاشع، لم يعد يهمهم مسائل مرتبطة بوجودهم الإنساني كالحرية والكرامة والشرف، لابل لم يعد لمدلولات ومصطلحات القيم الإنسانية وجوداً في قاموسهم العقلي والفكري، وحتى في ثقافتهم التي هي بطبيعة الحال تمثل المحصلة للتراكم الفكري لحضارتهم، هم يزاولون الخداع والنفاق والرذيلة حتى أصبحوا خارج نطاق كل ما يتعلق بالفضيلة.
من هنا تُقاسُ منزلة كل حضارة ومقدار تقدمها من خلال معايير محددة وبالمقارنة مع الحضارات الأخرى، فهناك آلياتٌ للبقاء والفناء، ولعل أهم هذه المقومات والآليات: وجود القيم التي ترتبط بالتكوين الذاتي والاجتماعي للإنسان، وترتبط أيضا بالحضارة وبالمنجزات العقلية والأدبية والفنية، وما تنطوي عليه من مُثُلَ عليا شكلت قاعدة الثقافة الرصينة والتي لا تنحت مهما كانت قوة أمواج الحداثة، فهناك إذاً علاقة ارتباطٍ وثيقٍ بين القيم الثقافية الموروثة و بين مدى التأثر بمغريات الحداثة وتداعياتها، فغياب القيم من أهم أسباب انهيار الحضارات، وكل من وضعوا مقومات بناء ومكونات الحضارة لم يغفلوا عن القيم الأخلاقية الإنسانية كعاملٍ أساسيٍ لقيام الحضارات، ولعل ما وضعه المؤرخ “ويل ديورانت” (الانهيار الأخلاقي) في مقدمة عوامل سقوط الحضارة في كتابه (قصة الحضارة)، هو أحد القرائن التي تشير إلى أن قيمة أي حضارة ووجودها وديمومتها كديمومة الشمس تقاس بمدى ما انتجته هذه الحضارة من أخلاقٍ وقيمٍ إنسانية، حيث يرى ديورانت: أن الحضارات العظيمة لا تنهزم إلا عندما تدمر نفسها من داخلها، وأن الأسباب الأساسية لانهيار بعض الحضارات هو مدى الانحلال الأخلاقي التي وصلت إليه تلك الحضارة و صراع فئاته، و الاستبداد الذي يعاني منه.
حيث تتضارب الآراء والمواقف وتهتز القيم وتظهر الانتهازية وتتعالى المصالح الشخصية فوق المصلحة العامة، ويتأثر الكثير من أبناء الشعب البسيط بنخب متهاوية والتي تبدو في حالة تأرجح.
إن الواقع السياسي والاجتماعي في الأزمة الجارية كشف الستار على قضايا اجتماعية عميقة، كما كُشِف عن وجوه وحقيقة أوهام لمن يدعون الحضارة، تلك النخب المحدثة والمعدلة وراثياً أُخْضِعوا لامتحانٍ أنعكس فيها حقيقتهم الزائفة، جعلنا نعيد التفكير في قيمتها ونسلط الضوء على التباسها على الصعد السياسية والمجتمعية والفكرية.
فلا يمكن لأي نظامٍ سياسيٍ وإداري يقول بالحضارة أن يقوم إلا من خلال الاعتماد على مجموعةٍ من القيم والمبادئ الإنسانية المتفق عليها كونياً مثل الصدق والمساواة والحرية، لأن الحلول المؤقتة المرقعة للأزمات الإنسانية المصيرية دليلٌ على مدى ضعف وذبذبة مصداقية الحداثة وآلياتها، مقارنة مع آمال الشعوب فما نتج عن ما يسمى بثورات الربيع العربي من انهياراتٍ أخلاقية وبالتالي حضارية، اسدل الستار عن فظائع الأنظمة وجور الحكام ومدى سخافة حكمهم، حيث وصل الحد ببعضهم إلى الجنون العقلي وحالات التأليه، رغم إن عصر التأليه وتمجيد الذات (الحاكم) قد ولى منذ عصور.
إن الاستبداد السياسي وتصنيف المجتمع على أسس طبقية، وقيام الأنظمة على الأفراد المتنفذين لا على المؤسسات المجتمعية الحقيقية، وما عاشته الشعوب في الشرق الأوسط “الإسلامي” ، أفرز مؤسسات متهالكة فاسدة، أفرغت المفاهيم والأفكار والممارسات الفاعلة المتعلقة بالقيم الإنسانية من حقائقها ودلالاتها، وجابهت المقاومة الفكرية والاجتماعية والسياسية بكل أساليبها الاستبدادية.
إذن لا حل للقضايا العالقة والأزمات المشتعلة، ما لم يرتق الشعوب بفكرهم إلى مرحلةٍ يستعيد فيها القيم الإنسانية عافيتها إلى الوجود، ويستفيقوا من السبات الطويل المفروض عليهم، وتدحض زيف النخب وتكون هي الأساس في البناء والتحرر والتعايش.
هكذا ستنتج المجتمعات ومهما كان انتشار رقعة الكتلة الخبيثة التي اوجدتها سلبيات الحداثة المفرطة في جسدها بذوراً أخلاقيةً وقيماً جمالية نجدها في ثقافته الأصيلة، وبقدر ما تكون هذه الثقافة متجذرة ومحمية، فإن حلول البناء والخلاص من الكوارث والقمع والاستبداد تكون أقرب، بحيث تصبح القوانين المحددة للحل هي نفسها التي يخضع لها نشاط وتعايش المجتمع وفق سويةٍ إنسانية واحدة.[1]