الحلّ السياسيّ للأزمة السّوريّة… العقد الاجتماعيّ للفيدراليّة نموذجاً
عبد العزيز حمدوش
يعدُّ الدّستور المرجعيّة الأساسيّة التي تنظّم حركةَ المجتمعات، وتحدّدُ طبيعةَ النظامِ السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، وآليّةِ تداولِ الإدارةِ ومصادرِ التشريعِ القانونيّ، ويجبُ أن يستوعب باعتبارِه القانونَ الأساسيّ كلّ المكوّنات والفئاتِ القوميّةِ والدينيّةِ والسياسيّةِ والاجتماعيّة، وكلّ حالاتِ التنوّع الثقافيّ، من غيرِ تعزيزِ أو محاباةِ أحدِها على حسابِ إلغاءِ واستبعادِ آخرين، فيتماهى بذلك مع مصلحتِها وتوجّهاتِها، ويسوّقُ لمفردات الأغلبيّة والأقليّة، استناداً إلى حجم الكتلة العدديّة.
المهمّةُ الأساس للدستورِ هي توحيدُ الجماهيرِ بعنوانِ “الوطنيّة”، ويفقدُ شعارُ الوحدةِ الوطنيّةِ معناه وقيمتُه تماماً، عندما لا يقرُّ القانونُ الأساسيّ بوجودِ المكوّنات التي تؤلّفُ هذه الوحدة، ويقومُ على مبدأ الغلبةِ، فيصهرُ المكوّناتِ الأقلَّ عدداً في بوتقةِ (الأكثر)، ويفرضُ عليها قسراً ثقافةً ولغةً وتراثاً مختلفاً، وليصبحَ تقمّصُ مفرداتِ القوميّةِ الأخرى هو معيارُ الوطنيّةِ الأوحدِ، على ما ينطوي عليه ذلك من إنكارٍ للذّاتِ والخصوصيّةِ، كما هو حال الدول القوميّة.
الدّستورُ هو المرجعُ الأساسُ لفصلِ النزاعاتِ وحلِّ الخلافاتِ
الوطنيّةُ ليست مجرّدَ بطاقةٍ هُويّة تُمنحُ أو تُمنعُ وفقَ ظرفيّةٍ معيّنةٍ، استرضاءً أو حتّى استجداءً وخضوعاً والقبول بالتخلّي عن خصوصيّاتِ اللغةِ والتاريخِ والتراثِ والثقافةِ، لصالحِ مكوّنٍ آخرَ يُمارسُ الوِصايةَ على البلادِ والعِبادِ، بل لعلَّ التعبيرَ الأنسبَ للوطنيّة هو اجتماع إرادة الناس بالتعايش مع بعضِهم، وحالةِ السِّلمِ الأهليّ والتّشاركيّةِ في تفاصيلِ الحياةِ، وتحمّلِ المسؤوليّةِ، وفي السِّلمِ والحربِ، وتُمارسُ كلُّ المكوّناتِ تفاصيلَ ثقافتِها بحرّيّةٍ ودون وصايةٍ أو تضييقٍ عليها.
الوطنيّةُ تجسيدٌ لحالةِ الانتماءِ وتعبيرٌ وجدانيّ أخلاقيّ، وإيمانٌ بوحدةِ المصيرِ، وإذا كانت القوميّةُ تقومُ على أساسِ وحدةِ الدّمِ والنَّسبِ، فالوطنيّةُ هي وحدةُ الإرادةِ ومفهومٌ عابرٌ للقوميّات، وعلى أساسِ الوطنيّة يكونُ الدستورُ الإطارَ العامَّ الناظمَ لمُجملِ الحياةِ.
من الضروريّ أن يتمتّعَ الدستورُ بمرونةٍ كافيةٍ لاستيعابِ تطلّعاتِ الناسِ وطموحاتِهم، والتطوّراتِ الطارئةِ على حياتِهم بمقتضى مرورِ الزمن، ليستشرفَ آفاقَ المستقبلِ وألا يتخلّفَ عن مسارِ التطوّرِ الطبيعيّ للمجتمعِ، وعندئذٍ لا يعودُ محلَّ الإجماعِ ويصبحُ عائقاً للتطوّر.
والدستورُ هو المرجعُ الأساسُ لفصلِ النزاعاتِ وحلِّ الخلافاتِ بين المؤسّساتِ والأفرادِ، ومن الضّروريّ جدّاً أن يتضمّن أقصى درجةٍ لصونِ السيادةِ الوطنيّةِ، ويؤكّد قدسيّةَ الكيانِ الوطنيّ والدفاعَ عن وحدته أرضاً وشعباً، واستقلاليّة القرارِ الوطنيّ معياراً للعلاقاتِ مع الدولِ والكياناتِ السياسيّة الأخرى والدخول في التحالفاتِ.
وعندما يعجزُ الدستورُ عن استيعابِ تطلّعات كلِّ المكوّناتِ في الوطنِ أو يكون سبب غلبة فريقٍ على آخر، أو حلِّ الأزمات الطارئة، يصبح من الضّروريّ إجراءُ تغييرٍ دستوريّ كلّاً أو جزءاً، ولهذا فإنَّ ثوراتِ التحرّرِ الوطنيّ تصبُّ كلَّ منجزاتِها وثمرةَ نضالِها في متنِ نصِّ الدستورِ، لتجعلَ من الإنسانِ والترابِ الوطنيّ وميراثِ الشهداءِ قدسيّةً لا يجوزُ المساسُ بها.
ويمكن فهمُ سببِ رفضِ الشعوبِ الحرّةِ لنصوصِ الدساتيرِ التي يفرضُها الاحتلالُ والاستعمار، لأنّها لا تمثّلُ إرادتها ولا تخدمُ مصالحَها، وتسعى لتكريسِ سلطةِ الاحتلال وشرعنته، وكذلك سببُ محاولاتِ الأنظمةِ الاستبداديّةِ العملَ على تغييرِ الدستورِ وتفصيله وفقَ مقاس مصالحِها، وبما يضمنُ استمرارَ إحكامها على مقاليد السلطة وقيادة زمامها، كما تفعلُ حكومةُ العدالةِ والتنميةِ الفاشيّة في تركيّا، لتوسيع صلاحيّاتِ رئيس الجمهوريّة وتعطيلِ المؤسّسات الدّستوريّة.
هذه المبادئُ كانت مضمونَ العقدِ الاجتماعيّ للفيدراليّة الديمقراطيّة شمال سوريا، الذي جاء بعد دراسةِ مستفيضةٍ لأسبابِ الأزمةِ وتعمّقٍ في تاريخِ المنطقةِ، واستجابةً لضرورةِ المرحلة، واعتماد الفيدراليّة الديمقراطيّة نموذجاً للحلّ الشاملِ للأزمة السّوريّة.
العقدُ الاجتماعيّ للفيدراليّةِ استوفى كلَّ شروط الحلِّ السياسيّ والإداريّ
تعودُ أسبابُ الأزمة السّوريّة إلى عواملَ خارجيّةٍ تتمثّل بتدخّل دولٍ إقليميّةٍ ومن ورائها إراداتٌ دوليّةٌ تتضاربُ مصالحها وتتناقض سياسيّاً، وعوامل داخليّة ذاتيّة، على رأسها الفسادُ وضعفُ الأداءِ الحكوميّ وهيمنةِ المؤسّسات الأمنيّة، ومردّها كلّها إلى طبيعةِ النظامِ العامِّ وإطارِه القانونيّ، وكانت الحاجةُ ملحّةً لإجراءِ تغييرٍ دستوريّ يضعُ حدّاً لطغيان أحاديّة الثقافة واللغة والحزب في بلدٍ كان التنوّعُ والتعدّدُ قدرَه، وبعبارةٍ أخرى كان وصولُ حزبِ البعثِ إلى السلطةِ عام 1963 وتبنّي شعار الحزبِ القائدِ للدولةِ والمجتمعِ تكريساً للأحاديّة وإلغاءً لكثيرِ من تفاصيلِ الحياة، في حين كان للمكوّناتِ السّوريّةِ دورٌ بارزٌ في تاريخُ سوريّا، وخاصّةً في إنجازِ الاستقلالِ الوطنيّ، وسوريّا متحفُ التاريخِ تثبتُ الآثارُ فيها الوجودَ القديمَ لتلك المكوّناتِ.
حافظ البعثُ طيلةَ خمسةِ عقودٍ على خطابٍ قوميّ مرتفعِ السقفِ، تعبّرُ عنه شعاراتُه وأيديولوجيّتُهُ، وسخّرَ لأجلِها كلَّ المقدّراتِ الوطنيّةِ، رغم أنَّ الحوادث أثبتت في محطاتٍ كثيرةٍ عُقمَ النظامِ السياسيّ العربيّ، وأنّه كان سببَ كلِّ المآسي والبلايا التي حاقت بالسّوريّين، فوقعوا بين مطرقةِ الفسادِ وسندانِ “القوميّة”.
بعد ستِ سنوات من الأزمةِ والحرب التي تدورُ رحاها على كاملِ الجغرافيا الوطنيّة، وانسدادِ كلِّ أقنيةِ الحلِّ رغم كثرةِ المنصّاتِ والدعواتِ لحلٍّ سياسيّ، إلا أنّها كلّها لم تثمر عن حلٍّ ناجز يُوقف شلالَ الدمِ، ويُنهي معاناةَ السّوريّين، ويضعُ حدّاً لتشرّدِهم، لأنّها لم تُؤسّس على مرتكزاتٍ وطنيّةٍ، بل وفقَ ترتيبِ المصالحِ الخارجيّةِ. ويُذكرُ أنَّ تغييرِ الدستورِ كان أول المطالبِ الشعبيّةِ بدايةَ الأزمةِ، باعتباره قد تجاوزَ صلاحيّته الزمنيّة، ناهيك عن الوطنيّة.
العقد الاجتماعيّ للفيدراليّة لم يكن ترفاً سياسيّاً ثقافيّاً ومجرّد تنظير، بل هو استجابةٌ لكلِّ مقتضيات التاريخ والحاضر والمستقبل، ويستوعبُ طبيعة التنوّعِ في البلاد، فاستوفى بذلك كلَّ شروطِ الحلِّ السياسيّ والإداريّ. وفي تمسّك بوحدة البلاد أكّد في ديباجته أنّه يقوم على أساسٍ جغرافيّ وليس ديموغرافيّ.
مقترحُ الدستور الروسيّ استدراكٌ للحلِّ السياسيّ
إنَّ أيَّ حلٍّ يجبُ أن يمرَّ عبرَ محاربةِ الإرهابِ وتطهيرِ الأرضِ من دنسِه، ولكن ماذا عن الحلِّ السياسيّ؟ فالصراعُ المسلّحُ قد يُفضي إلى غلبة فريقٍ على آخر، إلا أنَّ هذه المعادلة لا تستقيم في الحلِّ السياسيّ، الذي يجب أن ينتهي إلى انتصار إرادة العيش المشترك وتثبيت دعائم السلم الأهليّ، إذ ليس من المقبول تدوير أسبابِ الأزمة، بل الانتقال من نظام اللون الواحدِ إلى التعدّديّة الديمقراطيّة، وعلى هذا الأساسِ تمَّ طرحُ الفيدراليّة الدّيمقراطيّة التي تقرُّ لكلِّ المكوّناتِ السّوريّة خصوصيّاتِها وتفتحُ آفاقاً رحبةً لمستقبلٍ أفضل لسوريّا. وإذا كانت إعادةُ إعمارِ ما دمّرته الحربُ وترميمُ المؤسّساتِ والمرافقِ أحدَ التحدّياتِ القادمةِ؛ فإنَّ صياغة نظامٍ سياسيّ لامركزيّ ديمقراطيّ هو التحدّي الأكبر والأهمّ.
موسكو التي تدخّلت عسكريّاً لمحاربةِ الإرهاب نتيجةَ مخاوفِها وحرصِها على أمنِها القوميّ ومصالحِها، استدركت ضرورةَ وضعِ دستورٍ جديدٍ لسوريّا ما بعد الحرب كأساسٍ قانونيّ للحلِّ السياسيّ، فقدّمت مسوّدةَ دستورٍ خلال اجتماعٍ ضمَّ أطرافاً من المعارضةِ السّوريّةِ، وردّت على امتعاضٍ البعضِ بأنَّ الدستورَ الذي قدّمته لا يشبه “دستور بول بريمر” الذي فرضه الاحتلال الأمريكيّ على العراقيين بعد إسقاط نظام صدام حسين 2003، بل هي مقترحاتٌ يمكن النظر فيها ومناقشتها بموجبِ القرارِ 2254 الذي نصّ على تشكيلِ “حكمٍ تمثيليّ غير طائفيّ” لصوغِ دستورٍ جديدٍ وإجراءِ انتخاباتٍ، وتشكيلُ لجانٍ مشتركةٍ لمناقشةِ هذا الدستورِ.
وردّت موسكو أنّها لا تحاولُ فرضَ شروطٍ للتسويةِ أو قانونٍ أساسيّ جديدٍ على السّوريين، وتنطلقُ من أنَّ الشعبَ السّوريّ يجب أن يحدّدَ مستقبلَه بنفسه، وتبذل كلّ ما في وسعها لتطبيق هذا الموقف، فالسّوريون وحدهم، قادرون على الحفاظ على وطنهم، دولةً موحّدةً ذاتِ سيادة، متعدّدةَ الإثنياتِ والطوائفِ”.
وإذا كانت مسوّدة الدّستور الرّوسيّ قد لحظت بعضاً من أهمّ الإشكالاتِ، واستدركتِ النقصَ في الدّستور الحاليّ، ولكن المقترح الروسيّ لم يرتقِ لمستوى الحلِّ النهائيّ ليشملُ كلَّ المسائل التي تلبّي الحاجة، لأنَّ الدستور المأمول يجب أن يكونَ خلاصةَ الحلِّ السياسيّ والمرجعيّة التي تتجاوزُ كلَّ أسبابِ الأزمةِ وتنزع فتيلها، وتكون محلَّ التوافقِ.
تأكيدُ الهُويّة التعدّديّة وإلغاءُ قوميّةِ الدولةِ
لم يأتِ المقترحُ الرّوسيُّ بجديدٍ، إذ حاول تثبيتَ مسائل في غايةِ الأهمّيّة، منها أنّ سوريّا لن تكون دولة قوميّة، وأن تُستخدمَ مصطلحاتٌ تشدّدُ على ضمانِ التنوّعِ في المجتمع السّوريّ، وبهذا تلمّسَ جزءاً مهمّاً من أسبابِ الأزمةِ، وجاء في البندِ الأول من المادّةِ الأولى لمسوّدةِ المشروعِ “تكون الجمهوريّةُ السّوريّة دولةً مستقلةً ذات سيادةٍ وديمقراطيّة، تعتمدُ على أولويّةِ القانونِ، ومساواةِ الجميعِ أمام القانون، والتضامنِ الاجتماعيّ، واحترامِ الحقوقِ والحرّيّاتِ، دون أيّ فرقٍ وامتيازٍ”.
وأشار البندُ الثالثُ من نفسِ المادّةِ، “بصفةِ التراثِ الوطنيّ، الذي يعزّزُ الوحدة الوطنيّة، يتمُّ ضمان التنوّع الثقافيّ للمجتمعِ السّوريّ”.
وفيما يتّصل بالنظام السياسيّ أبقى على النظامِ الجمهوريّ من دونِ اعتمادِ النظامِ البرلمانيّ، وأنَّ رئيسَ الجمهوريّةِ يلعبُ “دورَ الوسيطِ” بين السّلطاتِ المختلفةِ، لكنّه خفّف من صلاحيّاته لصالحِ إعطاءِ بعض الصلاحيّاتِ التنفيذيّةِ لرئيسِ الوزراءِ والمحكمةِ الدستوريّة العليا، وضمانِ عدم تدخّلِ الجيشِ والقوّاتِ المسلّحةِ بالعملِ السياسيّ، وأبقت المسوّدة الروسيّة على مدّةِ ولاية رئيسِ الجمهوريّةِ والمحدّدة بسبعِ سنواتٍ، مع إمكانيّةِ الانتخابِ لولايةٍ ثانيةٍ فقط.
والثانية أنَّ سوريّا لن تكونَ دولةً دينيّة وامتداداً للتيّاراتِ المتشدّدة التي تُسقِطُ الآخرين بتهمِ التكفيرِ، والفقهُ الإسلاميّ لم يعد مصدراً للتشريع، وأُلغي البندُ المتعلّقُ بأن يكونَ دينُ رئيسِ الجمهوريّة هو الإسلام، وبذلك أكّد “دستور موسكو” علمانيّة نظامِ الدولةِ السّوريّة، في محاولةٍ لقطعَ الطريقِ أمام المتشدّدين من الوصولِ إلى الحكمِ، وترجمةٍ غير مباشرةٍ للمخاوفِ الروسيّةِ التي كانت أحد أسباب التدخّل العسكريّ في سوريّا، وذهبت أطرافٌ معارضة للإشارةِ إلى ذلك بالقولِ “دستورٌ سوريّ بلا هُويّةٍ عربيّة ولا إسلاميّةٍ”، وينبثق اعتراض البعض من كون الدّستور المقترح لم يؤكّد قوميّة الدولة السّوريّة، من خلال إسقاط توصيف العروبة من الاسم والاكتفاء ب”الجمهوريّة السّوريّة”، رغم أنّ دولاً عربيّةً من مكوّن واحد لم تثبت ذلك في اسمها واُكتفي بتسميتها إمارة أو مملكة أو جمهوريّة.
المسوّدة الروسيّة ألغت لفظ الجلالة من القسمِ، الذي يؤدّيه رئيس الجمهوريّة، أو بقيّة السلطات لدى تولّي منصب ما، وأصبحَ القسمُ بكلمةِ “أقسمُ”، عوضاً من (أقسم بالله)، ونصّه كالتالي “أقسم أن ألتزم بدستورِ البلاد وقوانينها، وأن أحترمَ وأحميَ حقوقَ وحرّيّاتِ الإنسان والمواطنِ، وأن أدافعَ عن سيادةِ الوطنِ واستقلالِه وسلامةِ أرضِه، وأن أتصرّفَ دائماً وفقٌاً لمصالح الشعبِ”، وبذلك تمَّ تجاوزُ الإطارين القوميّ والدينيّ وما ينطويان على إلغاءٍ وإقصاءٍ، واحتكارٍ لكيانِ للدولةِ بمؤسّساتها.
العقد الاجتماعيّ للفيدراليّة الديمقراطيّة جسّد الرّيادةِ في طرح حلٍّ متكاملٍ
مسوّدةُ الدّستور الروسيّة اقتربت إلى حدٍّ ما من مضمونِ العقدِ الاجتماعيّ للفيدراليّة الديمقراطيّة التي تمَّ إعلانها في شمال سوريّا على أن تعمَّ كاملَ سوريّا، والتي لم تؤكّد وحدةَ الأرضِ السّوريّةِ وحسب، بل وحدةَ إرادةِ السّوريين ومفرداتِ العيش المشتركِ والتوافقِ، وأنّهم وحدهم المخوّلون بإدارةِ شؤونِ بلدهم والتمتِّع بخيراتِه. وهذه المقاربة الروسيّة أكّدت أنَّ أي صيغة حلٍّ تقع على ضفّة الفيدراليّة والديمقراطيّة، فيما الآخرون على الضفة الأخرى حيث الحرب.
وتمَّ تغيير اسم “مجلسِ الشعب” إلى “جمعيّة الشعب”، وأسند إليه اختصاصات ومُنح صلاحيّات أكبر وأشمل، ومنها إقرار مسائل الحرب والسلام، وتنحية رئيس الجمهوريّة، وتعيين أعضاء المحكمة الدّستوريّة العليا، وحاكم المصرف السّوريّ المركزيّ وإقالتهم، ولم تُشر المسوّدة إلى حقّ رئيس الجمهوريّة بحلّ مجلس الشعب (جمعيّة الشعب)، وتعيين نائب له، خلافاً للدّستور الحالي.
وفيما يتصلّ بتأكيد اللامركزيّة منح العقد الاجتماعيّ للفيدراليّة صلاحيّاتٍ أوسع للأقاليمِ باتّخاذِ القراراتِ، ونصّتِ المادةُ 54: “تقومُ أقاليمُ الإدارةِ الذاتيّةِ الديمقراطيّة بتنظيمِ نفسِها وإدارةِ شؤونِها وفقَ أسسِ الإدارةِ الذاتيّةِ الديمقراطيّةِ في المجالاتِ السياسيّةِ والاقتصاديّةِ والاجتماعيّةِ والأمنِ الداخليّ والصحّة والتعليم والدفاع والثقافة… وينظّم كلّ إقليم نفسَه وفق أسسِ الاكتفاءِ الذاتيّ في القطّاع الاقتصاديّ”.
المسوّدة الروسيّة اقتربت من هذا المعنى فاستبدلت الإدارة المحليّة ب “جمعيّة المناطق” وتضمُّ ممثّلي المناطق وأعطتها صلاحيّات تشريعيّة، في صيغةٍ أوسع للإدارةِ المحليّة والتسيير الذاتيّ، والتخفيفِ من الإدارة المركزيّة.
ويشير المقترحُ الروسيّ إلى إمكانيّةِ قيامِ حكمٍ ذاتيّ كرديّ، واعتبارِ اللغتين العربيّة والكرديّة متساويتين، وجاء في البندِ الثاني من المادة الرابعة “تستخدمُ أجهزةُ الحكمِ الذاتيّ الثقافيّ الكرديّ ومنظّماته، اللغتين العربيّة والكرديّة، لغتين متساويتين”.
وجاء في البند الثاني من المادّةِ التاسعةِ لمسوّدةِ المشروعِ “أراضي سوريّا غير قابلة للتفريط، ولا يجوز تغييرُ حدودِ الدولةِ، إلا عن طريقِ الاستفتاءِ العام، الذي يتمُّ تنظيمُه بين كافة مواطني سوريّا، وعلى أساسِ إرادةِ الشعبِ السّوريّ”.
عسكريّاً، أبقى مشروعُ الدّستورِ الرّوسيّ قيادةِ الجيش والقوّات المسلّحة في قبضة رئيس الجمهوريّة، على أن يبلّغ جمعيّتي الشعب والمناطق، بقراراتِ السلم والحربِ، ويحقُّ له “إعلان التعبئةِ العامّةِ، بعد موافقة جمعيّة المناطق عليها، ويحتاج أيضاً موافقة جمعيّة المناطق لإعلان حالة الطوارئ”، ومن أجل توحيد الجيش السّوريّ فإنّه يمكن قبول ما أسمته “التنظيمات المسلّحة” إلى جانبه.
نقاطٌ مشتركةٌ بين المسوّدةِ الروسيّةِ والعقدِ الاجتماعيّ للفيدراليّة الديمقراطيّة، منها عدمُ فرض قوميّةٍ أو دينٍ محدّدٍ.
ولكن يبقى للعقدِ الاجتماعيّ الذي طرحه المجلسُ التأسيسيّ للفيدراليّة وتمّتِ المصادقةُ عليه مؤخّراً ميّزةٌ لا تعدلها أيّةُ صيغةٍ أخرى مطروحة، وهي أنّها صناعةٌ سوريّةٌ بامتياز، تجسّد حالةَ الريادةِ في طرح حلٍّ متكاملٍ رُوعيت فيه خصوصيّات السّوريّين ومصالحُهم وتراثُهم وتاريخُهم كأولويّةٍ أساسيّةٍ ولم تأتِ عبرَ إملاءاتٍ أو شروطٍ مفروضةٍ.[1]