غريب ملا زلال
“في دار المعلمين تعلمت بفضل أستاذي ممدوح النابلسي أن الفن ليس رسم طبيعة صامتة أو طبيعة أو وجه. الفن هو إعادة بناء العالم. إن اللوحة يجب أن تؤدي دورا في صياغة العلاقات بين البشر، في إعادة تثقيف العيون بالجميل”.
هذا ما يقوله #بشار العيسى# (1950) الفنان المفعم بالشروط الإنسانية بهيئاتها المختلفة، المنبثق من الحكايات الكبرى للجزيرة السورية، الحكايات التي كانت تقمع بكل سردياتها. الفنان الذي كان يتحدى الشروط التي كانت تنتجها معايير المدى القريب، فكان منخرطا في الوجع السياسي منذ طفولته.
يكفي أن نقول إنه نال نصيبه من الضرب وهو طفل لم يتجاوز سن الثالثة عشرة حين كان يحمل لافتة كُتب عليها شعار “عاشت الأخوة الكردية العربية” مشاركا في مظاهرات ضد الحراك العسكري عام 1963.
طريق إلى النفس
العيسى يرى أن الفن هو إعادة بناء العالم، الطريق الأسمى للبناء والعدل والأسلم والأنقى لخلق الإنسان العيسى يرى أن الفن هو إعادة بناء العالم، الطريق الأسمى للبناء والعدل والأسلم والأنقى لخلق الإنسان
بشار العيسى الذي تفتق وعيه في هذه السن المبكرة من الطبيعي أن يرى أن الفن هو إعادة بناء العالم، الطريق الأسمى للبناء والعدل، والأسلم والأنقى لخلق الإنسان. وهذه المقولة التي قالها في أحد لقاءاته تكاد تلخص فهمه للفن والحياة، وبالتالي للإنسان، فهو بلا شك ليس مخطئا في طرح هذه المقولة، بل هي الأصح على الإطلاق، وهو على الصواب التام، بل هي الحقيقة الباطنة والظاهرة والأمر الأهم في جعل الفن الركن الأول في إعادة بناء العالم وفق أغراض توصلنا إلى نفوسنا.
كل هذا سيجعلنا ندرك ذلك البناء ونفهمه بأشياء يمكن الاعتماد عليها وعلى مزاياها، أشياء نحن ملمون بطبيعتها ووظيفتها التي تؤديها بقصد أو بغير قصد، فالحكم الذاتي هنا يعززه الحكم الموضوعي.
والإلهام الذي يدفع الفنان نحو هذا البناء الجميل هو ذاته الذي يدفعه إلى خلق الإنسان بكامل مفرداته، بأخلاقه ومزاجه وذكائه وشخصيته. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف تأتى لبشار العيسى أن يستلهم هذا القدر المكثف من الأعمال المستوحاة من وجع الناس ومما يدور في خلدهم وتراثهم؟ فمقولته آنفة الذكر وعبر توسيعه لها تدفعه إلى ارتياد آفاق تخيلية بإيقاعات في المد والقطع والرفع والخفض. فهو غالبا ما ينبئنا بالشيء الذي نطمئن إليه، السبب الأهم الذي من أجله يوجد العمل الفني والسبب الأهم الذي جعل العمل الفني الدعامة الأولى في إعادة بناء العالم، في إعادة بناء الإنسان، له الأثر الفعال في ذلك. لهذا رأى العيسى فيه أداته في الحضور، وفي السير في الطريق القويم والطويل نحو طموحاته وتحقيقها، رأى فيه القدرة على الاحتجاج على تلك القواعد العامة الجامدة المجردة من كل روح.
بعبارة أخرى وجد فيه ما يساعده على الكشف عن الغرض الذي يمشي إليه، وعن قيمته المعرفية والجمالية وبالتالي البنائية. ولعل كل عمل من أعماله هو خطوة نحو الهدف المنشود، نحو الإنسان. هو خطوة تحتوي في ثناياها المفاتيح التي بها سيُفتح كل ما هو محكم من ناحيتي الحرية والمسؤولية، ستفتح كل الأسئلة التي يمكن استنباط عالم جديد منها ومن الأجوبة التي رسمت لها.
هذا يساعد الفنان على عرض موضوعه في لونه وشكله، وعلى بلوغ المدى الذي هو رهين أدواته التي يستخدمها بالقواعد الخاصة به، لا بالقواعد التي قد تفرض عليه وفق صحة ما يمكن أن يعمل، وهذه حرية لا يمكن أن يستغني عنها أي فنان، فكيف إذا كان هذا الفنان بشار العيسى عاشق هذه الحرية والمدافع العنيد عنها، والمضحي بسنوات من عمره وريشته وألوانه وقلمه كي تكون.
خطوة نحو الهدف المنشود خطوة نحو الهدف المنشود
أكثر من نصف قرن وبشار العيسى يمضي إلى مشهده البصري ليرسمه، معتمدا على نظرته الخاصة التي هي نظرة أشد تحديا وأقل تقبلا لكل تقليد، فيتيح لنفسه تلك الطريقة التي يتواصل بها وبعناصر جلّها تكمن خارج التقليد مع ما يعزز تعاطفه المسبق لتناوله افتراضات موضوعية تقيم من خلالها المزيد من الأرضية المشتركة، من الفعل التواصلي كعماد لعمله الفني المنتج، على مدى نصف قرن أو أكثر يرسم العيسى لوحته التي لم ينته منها بعد، وكأن حاله يقول لنا إن الفنان الحقيقي لا يرسم على امتداد عمره غير لوحة واحدة غير مكتملة، بدءا من عمله الأول إلى عمله الذي بين يديه والذي لم ينجز بعد، ما هي إلا تفاصيل من لوحته الكبرى والوحيدة.
إنه يثبت لنا ذلك حين نراه يقول في أحد لقاءاته “بعد عشرات المعارض أكتشف أنني أرسم لوحة واحدة لا تنتهي حين أنتهي منها وإنما تتوالد في التي بعدها والتي تولد من التي قبلها. أكتشف أنني أعيد إنتاج المشهد عينه والشخوص ذاتهم إن وجدوا وآثارهم إن غابوا، بإضافة تفاصيل وحذف بعضها تتلون فضاءات بالأحمر والأصفر، وتعاد ثانية بالرمادي أو الأزرق، أو تذوب كلها في كثافة الأبيض، تخطط لها مسافات وخطوط ومشاهد بصرية برؤى مختلفة لكنها ذاتها”.
على هذا النحو يعتبر العيسى أن ما يدفعه إلى قول ذلك هو تحقيق قدر من السيطرة على هذا الوجه من أوجه الواقع، والذي بات محتوما إلى حد ما من ملامح الحياة البشرية، فلو لم تكن لديه مثل هذه المقدرة من الإبداع لما بقي على قيد الحياة. فالعمل المبدع هو روح الحياة، بل هو روح الفنان ذاته به يتبارى مع الوقائع بكل معاييرها.
ونتيجة لهذا الاحتدام العذب بينه وبين عمله الذي لم يكتمل بعد، والذي لن يكتمل على ما يبدو، سيبقى للمتلقي حيزه لملء الفراغات بألوانه وخطوطه، وكأن اللوحة باتت عملا تشاركيا بينهما، بين الفنان والمتلقي، عملا تشاركيا في الخلق وفي القراءة على حد سواء. نتيجة لهذا الاحتدام سيتم عكس حاجاتهما ومطالبهما وفق قدرتهما على التحرك وتغيير الاتجاه تبعا للطبيعة العابرة ولأهمية الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، فثمة لغة تجمعهم وتبدو مكتظة إلى درجة عدم وجود أية هوة بين ما يقولون وما يفعلون، بين ما يرسمون وما يقرأون.
أنموذج ناجح
إن الحياة التشكيلية السورية في السبعينات من القرن الماضي كانت لها ما يميزها مقارنة بالعقود الأخرى، سواء أكانت في غناها بالاتجاهات والتجارب أم في مجموعة من الأفكار التي تتيح لها أن تتمازج أو تتنافذ واحدة مع الأخرى دون أي اختزال لسيرورتها، ووجدت شيئا فشيئا حتى كادت تكون الزناد الذي يقدح ما تنطوي عليه من تغييرات إلى أن صارت تلفت الانتباه باستخدام أبجديات جديدة، سواء كان ذلك في المناخ والألوان أو في التقنيات.
وكانت لهذه المرحلة الممتدة تاريخيا على عقدين أسماؤها التي استطاع كل منها أن يأخذ حيزه من المشهد وأن يؤثر فيه، نذكر: فاتح المدرس (1922 – 1999)، لؤي كيالي (1934 – 1978)، ممدوح قشلان (1929 – 2022)، أسعد عرابي (1941)، منذر كم نقش (1935 – 2019)، غياث الأخرس (1937)، نعيم إسماعيل (1930 – 1979)، نشأت الزعبي (1939)، سامي برهان (1929 – 2021)، غسان السباعي (1939 – 2015)، عبدالقادر أرناؤوط (1928 – 2004)، نذير نبعة (1938 – 2016)، خزيمة علواني (1934).
وبين هذا البحر الهائج سطع بشار العيسى إلى جانب توأمه عمر حمدي -مالفا- (1951 – 2015)، فلا نكاد نذكر أحدهما حتى يحضر الآخر تلقائيا، كتوأمين في الانتماء إلى المكان وفي تلقي الصدمة من دمشق وفنانيها. في المرة الأولى حين سافر كل منهما إليها على أمل تقديم تجربتهما، توأمين في المعاناة والاغتراب، تجربتين غنيتين استطاعتا أن تكونا أنموذجا ناجحا ومشرفا لنا في أرجاء المعمورة، استطاع كل منهما أن يحتل حيزه الذي يليق به، ولا يمكن القفز فوقهما. فشاب ترعرع في الجزيرة السورية بعيدا عن العاصمة المركز الصاخب للفن والفنانين ويحرز بينهم مكانة تعتبر بحد ذاتها جزما مبررا على الحضور والنجاح، بيد أن الوقت كان ميالا على نحو ما إلى الأهمية التي تسبغها العلاقات بين الوقائع التي تتكلم من تلقاء ذاتها.
يكفي أن ندع أخاه حسين العيسى يروي لنا ما رواه لعامر أحمد في مادة حملت عنوان “بشار العيسى وحكاية اللوحة الأم” ونشرها في أواخر عام 2008، حتى ندرك التحدي الكبير الذي كان يحمله بشار كي يكون. يقول حسين وهو يروي حكاية دخول لوحات بشار العيسى أول مرة إلى دمشق “مازال ذلك الانكسار والتمزق يملآن حلق بشار حين رفض البواب أن يدخل لوحاته المغبرة إلى الصالة الأنيقة إلا بعد صراخ وجلبة أطل بعدها موظف أنيق، كان فنانا أنيقا من فناني العاصمة، وسألناه ماذا تريد ومن تكون، وعلى مضض قبل بدخول لوحاته. منذ ذلك اليوم لم تقم أية صداقة بين لوحاته وفناني العاصمة ومسؤوليها”.
قصة فنية بدأت ولم تنته قصة فنية بدأت ولم تنته
تلك هي القصة، تلك هي بدايتها وقد تكون هي المنعطف بذاته. ويدخل العيسى مغامرة الرحلة الصعبة وكأنها صحراوية. يظهر في أوقات الشدة، يجمع أعماله ليحل ضيفا على تجمع ما. وبحدس مجهول يحاكي المكان وقبائله، يبحث عن كائنات بشرية خالصة كان قد بعثرها على فضاءاته، كان يعرف أن تلك الكائنات تهمس بتمائم السحرة، وهو على يقين بأنه كسارد للمشهد سيحسم الأمر، وبأن الأرض ستحمله من أرض إلى أرض حتى يعود صبيا شقيا، يستيقظ في الصباح ليجد نفسه وحيدا في العراء فيستبدل قصة الخلق بقصته التي بدأت ولم تنته.
ثمة شخصية في الفنان ترافقه من حقيقة إلى أخرى، شخصية استثنائية قريبة من الوحي، تعلن عنه وعن خضوعه للعشق النائم فيه، لتحدث المعجزة بأبجديته هو فيضمن خلاصه، ويمضي في طريق غربته الأبدية دون أن يتحقق النذر، ودون أن تزف البشارة، ويدخل العيسى مغامرة الاغتراب القسري، يجد نفسه داخلها رغما عنه جريحا يتخبط بين أزقتها، تهيمن عليه معالم مجهولة، يخرج الموت من بين ملفاته، دون أن تثبط عزيمته، أو تعطله عن السير نحو الحياة في مواجهة مباشرة، لا يسمح للأفكار المحبطة بأن تصادر منه عبق الحلم.
صحيح أنه يمضي بأنفاسه وصخبها وتياراتها المتقاطعة ويمسك دموعه ما استطاع إلى ذلك سبيلا وهو يدخل متاهة الرحلة القسرية، متاهة اللجوء والاغتراب. ففي عام 1980 غادر سوريا مجبرا باتجاه بيروت، ولكن في حصار بيروت عام 1982، حاله كحال معظم المثقفين، ركب سفينة الرحيل لتستقر به في باريس، حيث يعيش إلى الآن.
يعتبر بحق من أهم الرموز التشكيلية السورية، منذ سبعينات القرن الماضي إلى الآن، رغم أن الهم السياسي كان يشغله كثيرا ولا يزال يشغله، وأبعده ولو جزئيا عن الحراك الفني، وربما هذا هو سبب أننا لم نر له عملا يهز هذا الحراك منذ زمن. وبالرغم من ذلك فإن ما زرعه بات شامخا ومثمرا على امتداد العقود، وما أنتجه غدا حالة منها ينهل الكثير من الفنانين التشكيليين الشباب، فإذا كان يزاوج بين العيسى الفنان والعيسى السياسي، وفي خضم حماسه لذلك فإنه في هذا التزاوج وفي هذه المحاكاة يحاول أن يلخص السجال الدائر في دواخله، في جوهره بأن ذلك منفذه الوحيد للوصول إلى حقيقة الواقع، بمشاعره وتأكيداته يتعدى الأساس الذي عليه يبنى كل وجه من وجوه الحياة.
بشار العيسى يعتبر من أهم الرموز التشكيلية السورية منذ سبعينات القرن الماضي، رغم أن الهم السياسي يشغله كثيرا
هو لا يعيد إنتاج الواقع بوصفه أسئلة تبحث عن إجابات بل بوصفه ثمرة للجمال وما تتوق نفسه إليه. ولهذا جاءت رؤيته غير مقيدة تهتم بالحقائق وتأبه لها، وهذا ما يدفعه إلى رسم مشهده الفني لا بوصفه أفكارا مبعثرة تدفع منتجه إلى تشييء الذات بإلحاح، بل بوصفه قطعة من الحياة ترمي جل مفرداته في الجزء العلوي من العمل الفني أو ما يمكن أن نسميه الأفق ويدفع بعدسة تكبيره على بقعة منها يقدمها في الجزء المتبقي من العمل بكل تفاصيلها.
والعلاقة بين الجزء والكل تستمد وجودها من العلاقة بين المفردات، فثمة لغة عند العيسى هي خارج اللغات المعروفة، متموضعة عميقا وتعمل كعمل قوانين الطبيعة وهي تناشده حين يتخذها أن تكون أشكاله متغيرة بوصفها نتاجا للغته الخاصة، كما تحتفي بقدوم هذا النوع الجديد من الخلق. وما يلفت فيها أيضا غياب الثبات عن معنى الأشياء، وبذلك يتجاوز النزعات المدرسية، مكتفيا بالانحياز إلى الذات وجعلها غير عاجزة عن تحريك الركود بغية الحفاظ على ذاتها بكل خصوصيتها والإبقاء عليها.[1]