محمد سيد رصاص
في نوفمبر/تشرين الثاني 1912، عقدت اللجنة المركزية لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي (البلشفي) جلسة في مدينة كراكوف الواقعة ضمن الجزء البولندي الخاضع للنمسا بعد تقسيم عام 1772 الثلاثي لبولندا بين روسيا وبروسيا والنمسا. بعد الجلسة، استفرد فلاديمير لينين بجوزيف ستالين، الوافد الجديد لعضوية اللجنة المركزية، وكانت غايته من الجلسة ليس فقط أن يتعرف على شخص ستالين، بل وأن يسمع منه، وهو الجورجي، خصائص وتفاصيل المشاكل القومية في منطقة القفقاس (القوقاز) التي تضم خليطاً متنوعاً من القوميات والأديان وأحياناً حالة تركيبية منهما، مثل الجورجيون والأرمن المسيحيون والآذربيجانيون والداغستان والشيشان المسلمون. لفت نظر لينين سعة اطلاع محدثه، فاقترح عليه أن يذهب لفيينا، حيث سيساعده عضو الحزب نيقولاي بوخارين المتقن للغة الألمانية في تأمين المراجع وترجمتها من أجل إعداد دراسة عن المسألة القومية تنشر في مجلة الحزب النظرية «بروسفيشينيا» (الشعاع)، وهو ما أنجزه ستالين في الشهر الأول من العام. ثم نشرت الدراسة في عددي مارس/آذار ومايو/أيار، بعد تنقيح لينين لها. وكان ستالين اعتقل في فبراير/شباط في سانت بطرسبرغ بعد عودته بقليل إلى روسيا (1).
في دراسة ستالين، المعنونة باللغة العربية «الماركسية والقضية القومية» (كراس 119صفحة)، نجد تعريفاً للأمة سيطر على فكر الحركة الشيوعية العالمية طوال القرن العشرين هو التالي: «الأمة (1) جامعة من الناس ثابتة (2) تألفت تاريخياً ونشأت (3) على أساس جامعة اللغة (4) والأرض (5) والحياة الاقتصادية (6) والخصائص النفسية التي تبرز في جامعة الثقافة» (2). ثم يضيف ستالين أن «أي دليل من الدلائل المذكورة آنفاً غير كاف لتحديد مفهوم الأمة إذا أخذ ذلك الدليل على حدة. أضف إلى ذلك أن انعدام وجود أي دليل من هذه الدلائل كاف لكي تكف الأمة عن كونها أمة» (3). وبالتالي «إذاً الأمة هي ترابط جميع السمات» (4). وهو يشرح «الخصائص النفسية.. وهم يسمونها بعبارة أخرى الطابع القومي.. الذي يبرز في ثقافة تشمل الأمة.. الطابع القومي ليس من المعطيات الثابتة دائماً بل إنه يتغير مع ظروف الحياة» (5). ثم يحدد ستالين الإطار التاريخي للأمة: «الأمة ليست مفهوماً تاريخياً مجرداً، بل هي مفهوم تاريخي في عصر معين هو عصر الرأسمالية الناهضة. إن مجرى تصفية الأنظمة الإقطاعية ونمو الرأسمالية هو في الوقت نفسه مجرى يتآلف خلاله الناس في أمم» (6).
في تعريف ستالين للأمة هناك متابعة للتمييز الذي أقامة كارل ماركس (ومعه فريدريك إنجلز) بين مصطلح الأمة «nation» ومصطلح القومية «nationality» حيث «يستعمل ماركس وإنجلز المصطلح الأول للإشارة إلى شعب دولة ذات سيادة، بينما يستعمل المصطلح الثاني للإشارة إلى (الشعوب اللاتاريخية) التي تملك لغة وخلفية مشتركة دون دولة» (7).
من الواضح هنا أوروبية تعريف ستالين، ومعه رأيي ماركس وإنجلز. وهذا التعريف يبقى ملتبساً وربما، وهذا هو المرجّح، غير مطابق للوقائع ومفارق لها عندما ننتقل للعالم غير الأوروبي.
ولكن في النمسا الأوروبية، وجد ماركسيون لم يتابعوا ماركس في موضوع القومية رؤية جديدة، حيث قدم الحزب الاشتراكي الديمقراطي النمساوي في برنامجه عام 1899، وهو الذي يعمل في الإمبراطورية النمساوية – المجرية ذات الخليط القومي الذي يضم أيضاً تشيك وبولنديون وسلوفاك وسلوفينيون وكروات وصرب. وتقول هذه الرؤية إن «الحل النهائي لمسألة القومية واللغة في النمسا على قاعدة العقل والمساواة يتم من خلال النظر إليها بوصفها مطلب ثقافي.. يجب تحويل النمسا إلى اتحاد فيدرالي للقوميات.. أراضي التاج النمساوي التاريخية يجب تحويلها إلى هيئات لحكم ذاتي، حيث يكون التشريع والإدارة في أيدي المجالس القومية المنتخبة.. كل منطقة لواحدة من القوميات أو لنفس القومية يجب أن تشكل مع المناطق الأخرى اتحاداً مميزاً من الناحية القومية.. نحن لانعترف بأي امتياز قومي. ومن هذا المنطلق، نرفض الدعوة إلى أن تكون هناك لغة رسمية للدولة» (8).
عملياً، عنى هذا الحل النمساوي «الاستقلال الذاتي القومي في مجالي الإدارة والثقافة»، أي حق تقرير المصير في هذين المجالين، ولكن من دون السياسة التي تعني حق الانفصال.
في عام 1907، صدر في فيينا كتاب لماركسي نمساوي يدعى أوتو باور بعنوان «مسألة القوميات والاشتراكية الديمقراطية». وكان اهتمام باور «منصبّاً على مسألة كيف يمكن لعدة قوميات في الإمبراطورية النمساوية-الهنغارية أن تنال حقوقها دون أن تصل إلى حد الانفصال الكامل» (9). واقترح باور تصنيف السكان بحسب الهوية القومية بغض النظر عن مكان الاقامة، وأن تشكل القوميات داخل كل مقاطعة تتمتع بالاستقلال الذاتي مجالس شعبية منفصلة لإدارة المدارس ولتقديم رعاياها أمام المحاكم والسلطات العامة. كما يحق لأفراد قومية ما يقطنون في مكان منفصل التصويت مع جماعاتهم القومية حول المسائل الثقافية (دايفيس، ص 200-201). وبهذا التحديد عند باور، «تكون الدولة محايدة بين قومياتها» (10). وهناك رفض عند باور لتعريفات للأمة «التي تحددها باللغة، أو الأرض، أو الأصل، أو العادات والتقاليد، أو الدين» (كولاكوفسكي، ص 285)، وهو أقرب إلى نظرية الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان الذي يربط القومية بالإرادة المشتركة ويرفض ربطها بالأرض المشتركة (كولاكوفسكي،ص 288). وهو – أي باور – يمكن أن يكون عندما يحدد القومية والأمة كجامعة للمصير «أقرب لرؤية بسيكولوجية للأمة». ومن هنا، يأتي دور الثقافة (واللغة) كمحدد رئيسي للأمة عنده.
من يتفحص كراس ستالين يراه سجالياً مع باور. وهذا ما يحتل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أكثر من نصف صفحات الكراس. والأرجح أن لينين، المطّلع على البرنامج النمساوي وكتاب باور، وجه ستالين إلى فيينا بمساعدة بوخارين من أجل الرد عليهما. وهو يرى كيف أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي النمساوي، الذي قبل في برنامج عام 1899بالفيدرالية التنظيمية للحزب بحسب القوميات، أصبح ستة أحزاب، وكيف أن التوترات القومية في الإمبراطورية النمساوية- المجرية جعلت الاصطفافات قومية عابرة للطبقات. وكان لينين يخشى من أن تعم هذه الحالة في روسيا القيصرية ذات التركيب الفسيفسائي القومي مثل نظيرتها في فيينا، وأن تؤثر آراء باور والحزب النمساوي على الماركسيين الروس، إذ ظهرت علامات تأييد لهذه الآراء عند حزب «البوند» (اتحاد العمال اليهود لغرب روسيا وبولندا وليتوانيا) وعند بعض المناشفة الجورجيين.
تبنى حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي في مؤتمر عام 1903، حينما انشق بين الجناحين البلشفي والمنشفي، في الفقرة التاسعة من برنامجه مبدأ حق الأمم في تقرير المصير. ولكن كما تقول روزا لوكسمبورغ، صيغت هذه الفقرة بطريقة أن «حق الأمم في تقرير المصير يمكن أن يوضع موضع التطبيق في حالة واحدة هي بعد تحقق مبادىء الاشتراكية الأممية ومع الوصول إلى أهدافها العليا» (روزا لوكسمبورغ، ص 6). وفعلاً، يطرح ستالين في كراسه حلاً للمسألة القومية في روسيا يتضمن «الاستقلال الذاتي الإقليمي لوحدات متبلورة من السكان، بولنديون، أوكرانيون، ليتوانيون، والقوقاز- استعمال اللغة القومية – ووجود مدارس خاصة للقوميات – حرية الأديان- وإلغاء كل الامتيازات القومية دون استثناء- إلغاء كل قيد يغل حقوق الأقليات مهما كان عنصرها أودينها» (ص 117-118). ومن اللافت للنظر أنه يمدح في الكراس الماركسيين البولنديين، ومنهم روزا لوكسمبورغ من دون أن يسميها، وهم الذين رفضوا الانفصال البولندي عن روسيا (ص 39). وكانت لوكسمبورغ معارضة، مع ليون تروتسكي وبوخارين، لمبدأ «حق الأمم في تقرير المصير». ثم تأرجح البلاشفة بعد استلامهم السلطة إثر ثورة أكتوبر 1917 بين إعطاء حق تقرير المصير للأمم وبين العكس. وكان تشكيل الاتحاد السوفياتي عام 1922 أقرب لحل وسط بين هذين الاتجاهين، ولكنه بالتأكيد كان حلاً ما فوق- قومي، وهو أقرب لمضمون حل كراس ستالين في «الاستقلال الذاتي الإقليمي».
هناك نظرية إرادوية للقومية عند ميشيل عفلق، أقرب لرينان وباور. فبرأيه «البعث هو إيقاظ وبعث الروح»، ولكن عند أمة متبلورة ومكتملة التكوين ولكنها مجزئة ومن دون دولة، بخلاف حالتها في ماض ما حينما بعثت عبر الإسلام، حيث يقول عفلق «نرى في العروبة جسماً روحه الإسلام» (11). والأمة عنده مكونة منذ ما قبل الإسلام، ولكن أعطاها الإسلام روحاً من جديد بعد السيطرة الفارسية – الرومانية- البيزنطية. وعند ساطع الحصري، تعتبر اللغة محدداً رئيسياً للقومية تماما كما عند الألماني فيخته. وعند الياس مرقص، تكون «العروبة»، كفكر سياسي وحركة سياسية واتجاهها نحو الوحدة العربيةً، نتاجاً ل«المسألة القومية المتعاظمة في زمن الإمبريالية،على أساس الإمبريالية وعالميتها» (12)، فهي مضادة لمصالح إمبريالية ثلاث تتمثل في «كيانات التجزئة، البترول، إسرائيل» (مرقص، ص 301)، وإنجازها ضرب لهذه المصالح وشرط للنمو، وهو تفكير قريب من تفكير الرئيس جمال عبدالناصر تجاه العروبة حيث يراها وسيلة تحصين لمصر، إذ تقول تجارب الفراعنة مع الحثيين في معركة قادش والأيوبيين مع الصليبيين في معركة حطين والمماليك مع المغول في معركة عين جالوت إن الدفاع عن وادي النيل يتم في بلاد الشام. ورفع قيام إسرائيل وكذلك مشاريع نوري السعيد المتحالف مع لندن مع قيام حلف بغداد عام 1955منسوب هذا الاتجاه المصري.
نجد عند #عبدالله أوجلان# اتجاهاً جديداً نحو تناول المسألة القومية، قريب من البرنامج النمساوي لعام 1899 ومن أوتو باور، ولكنه أبعد. ويتأتى ذلك في نظريته «الأمة الديمقراطية» التي أتت بعد فترة السجن في جزيرة إمرالي منذ عام 1999، وهي تجاوز للمرحلة الماركسية عند أوجلان، إذ كان ينظر من منظور أن «كردستان مستعمرة» (13). وبالتالي، يقوم حزب ماركسي – لينيني بمهمة مثل مهمة الشيوعيين الفييتناميين في التحرير والتوحيد القوميين، إضافة إلى أن «مسيرة نضال الأعوام الثلاثين الأخيرة متجسدة في حزب العمال جرى خوضها – فقط وفقط – من أجل قضية الوجود بالنسبة للكرد. أي أن هذا الكفاح كان بأحد المعاني بغية حسم سؤال: هل الكرد موجودون أم لا؟» (أوجلان: المرجع السابق، ص 70).
تعريف «الأمة» عند أوجلان يحيل، مثل البرنامج النمساوي وباور، إلى ما يمكن تسميته ب«الأمة المعرّفة على أساس الثقافة» (ص 44)، حيث «المجتمع الوطني هو تجمع من يتقاسمون ذهنية مشتركة. أي أنه ظاهرة موجودة ذهنياً» (ص 44). ومن هنا وبأعم الأشكال «ومن أجل التحول إلى أمة، يكفي أن يتكون عالم ذهني وثقافي مشترك على الرغم من اختلاف الطبقات أو الجنس أو اللون أو الأثنية أو حتى اختلاف جذور الأمة» (ص 44-45). وبالتالي، فإن «الأمة الديمقراطية» ليست دولة على أساس القومية، وهي ليست قومية الصفة أو متحددة بأمة أو قومية. كما أن «طراز الإدارة الديمقراطية وشبه المستقلة هو الشرط الرئيسي في لائحة صيرورة الأمة الديمقراطية، وهي بجانبها هذا بديل للدولة القومية» (ص 45). وعليه، فإن «الحل الديمقراطي بدوره يعبر عن البحث عن دمقرطة خارج إطار الدولة القومية» (ص 435). وهو يقول إن «اتحاد المجموعات الكردستانية kck لا ينساق وراء بناء دولة الكرد حتى ولا بمعناها شبه الاستقلالي. وكما أنه لا يتطلع إلى بناء دولة فيدرالية أو كونفيدرالية، فهو أيضاً لا يعتبرهما حلاً خاصاً به» (ص 437)، في استبعاد من أوجلان كشرط لازم لقيام «الأمة الديمقراطية» أو مرافقاً أو لاحقاً لها ل«الحكم الذاتي» و«الفيدرالية» و«الكونفيدرالية». ومن يقرأ كتاب أوجلان هذا يلاحظ ابتعاده عن إقامة «الأمة الديمقراطية» على أساس «المكونات»، مثل النموذج اللبناني، حيث يتم توزيع مناصب سلطة الدولة على أساس نسب «المكونات المجتمعية». وباستثناء «الإدارة الذاتية» للقضايا الإدارية والثقافية، فهو يبحث عن مساواة الأفراد المواطنين قانونياً وسياسياً في «أمة ديمقراطية» بغض النظر عن قوميتهم وجنسهم ودينهم وطائفتهم وجهويتهم واتجاههم السياسي. ونظرية أوجلان، مثل باور، هي في تضاد مع نظرية هيجل حول «الشعوب اللاتاريخية» التي تقول إن «الشعوب التي لم تشكل البتة دولة في الماضي لا يمكنها أن تشكل دولة قابلة للحياة في المستقبل» (14).
الهوامش
(1)إسحق دويتشر:”ستالين:سيرة سياسية”،دار الطليعة،بيروت1972،ص ص 123-124.
(2)ستالين:”الماركسية والقضية القومية”،دار النهضة الحديثة،بيروت،دون تاريخ،ص 14.
(3)ستالين:”المرجع السابق”، ص ص14-15.
(4)المرجع السابق،ص21
(5)المرجع السابق،ص14.
(6)المرجع السابق،ص24.
(7)هوراس دايفيس:”القومية والاشتراكية”،دار الحقيقة،بيروت1972،ص40.
(8)موجود نص البرنامج النمساوي في كتاب روزا لوكسمبورغ:”المسألة القومية والحكم الذاتي”(1908-1909)،منشورات مانثلي ريفيو،1976،ص ص 3-4،ترجمة انكليزية عن اللغة البولندية.
(9)دايفيس:”المرجع السابق”،ص 198.
(10)ايزاك كولاكوفسكي:”الاتجاهات الرئيسية في الماركسية”(المجلد الثاني)،منشورات جامعة أوكسفورد،1981،ص288(باللغة الانكليزية).
(11)ميشيل عفلق:”ذكرى الرسول العربي”،كلمة ألقيت في ذكرى المولد النبوي عام1943،ضمن مجموعة”في سبيل البعث:الكتابات السياسية”(الجزء الأول)،مكتبة نور،بيروت2002،ص146.
(12)الياس مرقص:”نظرية الحزب عند لينين والموقف العربي الراهن”،دار الحقيقة، بيروت1970،ص303.
(13)عبد الله أوجلان:”مانيفستو الحضارة الديمقراطية:القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”(المجلد الخامس)،مطبعة آزادي،2017،من دون مكان الطبع،ص277.
(14)دايفيس:”المرجع السابق”،ص47.[1]