عن الحوار المحتمل بين سلطة “قسد” وتركيا
حازم نهار*
هناك حديث يدور حول الدفع باتجاه حدوث حوار أو تفاوض بين تركيا وسلطة الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا أو قوات سوريا الديمقراطية. ومع أن احتمالات حدوثه ضئيلة، إلَّا أنه يفتح حديثاً طويلاً عن الشرعية والمرجعيات والآليات والأهداف والنتائج المتوخاة أو المتوقعة لمثل هذا الحوار أو التفاوض. ويمكننا أن نتخيَّل أنَّ مثل هذا الحوار أو التفاوض، إن حصل بالطبع، سيتناول بالضرورة مسائل لها علاقة بالأرض والحدود والسكان والثروات والسلاح والعمليات العسكرية والعلاقة مع حزب العمال الكردستاني في تركيا.
يمكن القول إنَّ معظم هذه القضايا التي يمكن أن تكون على جدول أعمال أي حوار أو تفاوض متخيَّل أو متوقَّع، بين هذين الطرفين، هي قضايا ذات طابع سيادي، أي إنها تدخل في صلب وظائف الدولة السورية، والتي لا يجوز لأي طرف سوري أن يخوض فيها وحيداً أو بمعزل عن مظلة تمثيلية وطنية سورية. بمعنى آخر لا يجوز لأي قوة سياسية أو عسكرية سورية، أكانت كردية أم عربية، أن تدخل في حوار أو تفاوض مع الدولة التركية، أو سواها، حول قضايا استراتيجية، في غياب التفويض الشرعي.
لا توجد شرعية قانونية لأي جهة تدعي تمثيل الكرد أو العرب في أي حوار أو تفاوض، والعرب والكرد السوريون ليسوا مسؤولين عن خيارات أي طرف سياسي أو عسكري، وغير ملزمين بنتائج خياراته، وهذه الشرعية لا تبنى على القدرة العسكرية، مثل “قوات سورية الديمقراطية”، ولا على اعتراف دولي، مثل “الهيئة العليا للمفاوضات”، معزول عن الشرعية الداخلية أو الرضا الشعبي. والجهة الشرعية الوحيدة التي لديها الحق والواجب هي الحكومة السورية التي تكون حصيلة عقد اجتماعي جديد وانتخابات ديمقراطية. ولكن، بما أن هذه الحكومة معطلة أو غائبة، كما نعلم، فإنه يصبح من الضروري توفير هيئة سياسية وطنية ديمقراطية سورية لتضطلع بأعباء مثل هذا الحوار أو التفاوض أو سائر الخيارات السياسية الكبرى.
يصعب تخيُّل وجود نتائج ممكنة التطبيق لمثل هذا الحوار أو التفاوض بحكم حدوثه بمعزل عن الأطراف الفاعلة الأخرى حالياً، لا يمكن اختزال الكرد السوريين والقوى الكردية الأخرى بالإدارة الذاتية وسلطة “قسد”، أو التي يمكن أن تصبح فاعلة مستقبلاً، ما يعني أنَّ أي اتفاق بين قوات سوريا الديمقراطية وتركيا، إن كان سيحدث حقاً، سيكون مؤقتاً بالضرورة لأنه محكوم بموازين القوى الحالية التي ستتغير حكماً في حال حصول أي تقارب بين تركيا والنظام السوري أو في حال حدوث اتفاق إقليمي دولي على الدفع بانتقال سياسي في سوريا بدرجة ما.
وفي سياقٍ موازٍ، من المهم ألَّا تقع قوى كردية سورية في فخّ التقدير الخاطئ للقدرات التركية أو في فخ العداوة المطلقة والنهائية مع تركيا أو في فخ الدخول في معارك عسكرية مع الدولة التركية، انطلاقاً من قراءات رغبوية للواقع تستند إلى مخزون طويل الأمد من العداء أو إلى غرورها بقوتها العسكرية أو تحالفاتها الدولية. ليس من مصلحة كرد سوريا، ولا من مصلحة سوريا اليوم ومستقبلاً، فتح أي صراع جانبي مع تركيا. من مصلحة الدولة السورية الجديدة أو المظلة الوطنية الديمقراطية السورية أن تكون لديها علاقات إيجابية مع الدولة التركية، أكان الحزب الحاكم هو حزب العدالة والتنمية أو غيره، علاقات قائمة على الاستقلالية والندية والاحترام المتبادل، لا علاقات الاستتباع التي انتهجتها “المعارضات السورية” السائدة حالياً. في المقابل ينبغي للدولة السورية الجديدة أو المظلة الوطنية السورية أن تأخذ في الحسبان حقوق الكرد السوريين في علاقاتها الداخلية والخارجية.
إن إدراك المسار العام للواقع وفهم الاستراتيجيات أمران مركزيان كي لا نبني أوهاماً انطلاقاً من الغرور بفائض القوة العسكرية في لحظة ما. فقد أوضحت التجربة الواقعية خلال العقد الماضي أنَّ جميع القوى والفصائل العسكرية على الأرض السورية قوى وظيفية، صفرية، محكوم عليها بالتلاشي في المآل، وهي مصمّمة لتؤدي دوراً مؤقتاً أو لتخدم سياسة معينة، ثم يجري إنهاؤها أو تتلاشى أو تغادر الساحة، بما فيها القوى الكردية المسلحة. تتمثل عناصر قوة قوات سوريا الديمقراطية بالسلاح والغطاء الأميركي وحسب، وهما غير كافيين لتثبيت أركانها. لا بدَّ من النظر بعيداً، خارج دائرة عناصر القوة المرحلية، لاكتشاف أن هذه القوات غير مقبولة إقليمياً، وغير مقبولة محلياً على نطاق واسع، ولا سيَّما أنها أدخلت الكردي السوري في دائرة الصراع بين “حزب العمال الكردستاني التركي” وتركيا، وهو صراع لا مصلحة للكرد السوريين فيه، ولا للسوريين عموماً. هذا يعني أن ابتعاد قوات سوريا الديمقراطية عن سياسات هذا الحزب وخياراته شرطٌ لازمٌ لبناء قبول داخلي لها من جهة، ولبناء علاقات إيجابية مع الدولة التركية من جهة ثانية، لكنه بالطبع غير كافٍ.
يحتاج الكرد عموماً، والكرد السوريون خصوصاً، إلى إعادة بناء الوعي بالقضية الكردية عموماً، وبالقضية الكردية في سوريا خصوصاً، وهذا يشكل بوابة محورية لبناء وطنية سورية جديدة. لن تكسب القوى الكردية السورية شيئاً، في ظل الأحوال الراهنة، عبر ربط القضية الكردية في سوريا بقضايا الكرد في بلدان أخرى، فلكلِّ ساحة خصوصيتها ومشكلاتها وهمومها وتوازناتها. إن الارتباط بين الكرد في بلدان مختلفة على مستوى المشاعر والتضامن طبيعي، والارتباط على المستوى الثقافي مفهوم أيضاً، والتنسيق في ما بينهم على مستوى إنضاج الوعي بالقضية الكردية أمر عادي أيضاً، لكن الدخول في علاقات سياسية تنظيمية أو عسكرية لن يكون في مصلحة القضية الكردية لا في سوريا ولا في تركيا ولا في غيرها.
إنَّ البوابة الممكنة لحلِّ القضية الكردية في سورية حلّاً وطنياً ديمقراطيّاً هي بوابة الوطنية السورية، أي ربطها بالقضية الوطنية السورية بوصفها جزءاً عضوياً وأصيلاً فيها. السوريون معنيون حالياً بإيجاد حلٍّ للقضية الكردية في الإطار السوري وحسب، أما القضية الكردية العامة فهي أكبر من السوريين، وأكبر من الكرد في سائر دول الإقليم، ومن ثمَّ لا علاقة مباشرة للسوريين عموماً، كرداً وعرباً، بمشكلات القوى السياسية الكردية في تركيا وأربيل ولا بصراعاتها، والأمر نفسه ينطبق على القوى الإسلامية في تركيا ومصر والخليج وغيرها، وعلى قوى القومية العربية في بلدان المنطقة العربية.
من حقِّ الكرد في أي مكان أن يحلموا ببناء دولتهم الخاصة، على الرغم من قناعتي بأن الدول التي تُقام على أساس إثني أو قومي قد أصبحت وراءنا، لكن لا أحد يستطيع أن يمنع أحداً من الحلم، ولا أن ينكر حقه في تحقيق أحلامه بالوسائل والأدوات السياسية السلمية. لكن عندما نذهب إلى السياسة سنكون محكومين بقوانينها وبالتفكير السياسي العقلاني بعيداً من الأوهام والرغبات. في الحقيقة لا توجد جدية أميركية أو أوروبية أو روسية حقيقية في دعم نشوء إدارة ذاتية كردية أو دويلة أو دولة كردية، وليس هناك احتمال، في اللحظة الراهنة، أن تسمح الدول الأربع المعنية بالمسألة الكردية (تركيا، العراق، إيران، سوريا)، فرادى أو مجتمعة، بوجود دولة كردية. لا يوجد احتمال لأن يقدِّم “النظام السوري” أي مكسب لكرد سوريا، وهو الذي حرمهم أبسط الحقوق طوال نصف قرن، وفي المقابل، ليس هناك احتمال لأن تقدِّم “المعارضات السورية” بتركيبتها الحالية ما يعزِّز هذا الطموح الكردي.
وينبغي الإقرار بحقيقة عدم وجود احتمال لإنشاء وضع خاص، اليوم أو مستقبلاً، لأكراد سوريا من دون تأييد أو رضا نسبي من عرب المنطقة على الأقل. كذلك، ليس هناك وعي ديمقراطي كافٍ عند عرب المنطقة يمكن أن يدفعهم لقبول تجسيد الطموح الكردي اليوم ولو في حدوده الدنيا، وفي المقابل ليس هناك وعي سياسي قومي كردي متبلور عابر للدول، أو حتى على مستوى الدولة الواحدة، يمكن أن يبني هوية كردية عامة، وما هو موجود لا يعدو أن يكون شعوراً محقاً بالحرمان والمظلومية الطويلة المدى. والأهم أيضاً هو أنه لا يمكن فرض هذه الدويلة أو الدولة أو الإدارة بقوة السلاح.
بدلاً من ذلك، ينبغي الاستثمار، على الساحة الكردية، أولاً في الحوار الكردي-الكردي على المستوى السوري، وثانياً في بناء مظلة سياسية وطنية ديمقراطية سورية استناداً إلى مدونة سلوك سياسية. التشظي الكردي في سوريا مماثل للتشظي السوري العام، إن لم يكن يزيد عليه، فلدينا في سوريا أكثر من 50 حزباً كردياً، لا يستطيع السوريون، كرداً وعرباً، معرفة سرَّ هذه التعددية غير الصحية. في لحظات حرجة، سعت قوات سوريا الديمقراطية مثلاً للتفاهم مع النظام السوري، بينما أدارت ظهرها للتفاهم حقاً مع محيطها العربي، ومع الجزء الأكبر من الكرد السوريين، على أرضية غير أرضية ركونها إلى قوتها العسكرية والحماية الأميركية.
على المستوى السوري العام، ما زالت مشكلتنا هي نفسها منذ 14 عاماً، ندور حولها من دون حل: ليس هناك طرف وطني سوري ديمقراطي، قوي ومتماسك ومنظم، ويملك ثقة جمهور واسع من السوريين، لأننا لم نستطع بناء تفاهمات ثابتة وراسخة بين القوى السورية تصلح لأن تشكل قواعد لبناء حقل سياسي سوري؛ تتعلق هذه القواعد بصورة رئيسة بعدد من المسائل مثل اللامركزية والهويات الفرعية والسلاح والتغيير الديموغرافي والثروات السورية والعلاقات الخارجية.
لا يمكن التقدم خطوة في اتجاه بناء الدولة السورية الجديدة من دون التوافق على جملة من المعايير والضوابط؛ الاتفاق على أنَّ كلَّ سلاح خارج إطار الدولة السورية المستقبلية هو سلاح غير شرعي، وعلى إدانة أي جهة سياسيةٍ أو عسكريةٍ سورية تسعى لفرضِ وجودها أو مصالحها أو أيديولوجيتها أو معتقدها بقوة السلاح، وعلى رفض أيِّ تغييرٍ ديموغرافيٍّ في أي بقعة من سوريا، وعلى أنَّ الثروات السوريّة في الجغرافيا السوريّة كاملة ثرواتٌ وطنيّةٌ عامة، وأنَّ التصرفَ بها هو من حقِّ القوى المنتخبة أو القوى التي تمثِّل الحكومة الشرعية الجديدة التي تُشكّل استناداً إلى قواعد النظام الديمقراطي حصراً.
لا يمكن بناء الدولة الجديدة أيضاً من دون التوافق على رفض كلِّ جهة سياسية أو عسكرية تستعينُ بأيِّ جهة خارجية، أكانت دولةً أو جماعة سياسية أو عسكرية، ضدّ المصالح الوطنية السورية أو ضد النظام الديمقراطي الجديد، والتوافق على تجريمِ كلِّ قوةٍ سوريّةٍ تحاولُ التدخّل في صراعاتٍ غير سوريّة بإرسال أعضائها أو جنودها إلى أيِّ مكان خارج سوريا. يُضاف إلى ذلك أيضاً التوافق على رفضِ أي قوةٍ سياسية تجعلُ من نفسها فرعاً تنظيمياً صريحاً أو مستتراً لجهة غير سوريّة، أو تجعلُ من نفسها مركزاً تنظيمياً صريحاً لفروع غير سوريّة.
أخيراً، لا بدَّ من التأكيد أن الوطنية السورية ليست مجرد لافتة نحملها أو شعاراً نرفعه في المناسبات والتصريحات والبيانات السياسية، وعندما نذهب إلى مستوى الممارسة السياسية ننساها ونقوم بكلِّ ما يهدمها أو يضع عقبة في طريقها. أن يذهب أحد الأطراف السياسية الكردية مثلاً في طريق معاداة تركيا (أو غيرها) أو مصادقتها، أو طريق محاربة تركيا (أو غيرها) أو عقد السلام معها، أو طريق الحوار أو التفاوض معها، لا يصب في طاحونة بناء الوطنية السورية، بل يساهم في تقزيم الدولة السورية المأمولة وتشظيها. هذه المسارات الاستراتيجية كلها يجب أن تكون خياراً وطنياً ديمقراطياً سورياً لا خياراً منفرداً لهذا الطرف السوري أو ذاك، أكان كردياً أم عربياً.
كاتب وباحث ومترجم سوري، رئيس تحرير مجلة “المشكاة”، فكرية حقوقية فصلية .له إسهامات عديدة في الصحف والمجلات ومراكز الدراسات العربية، باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، نشر عدداً من الكتب السياسية والثقافية، منها “مسارات السلطة والمعارضة في سوريا” الذي صدر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، و”سعد الله ونوس في المسرح العربي“.[1]