حياة في الخطوط الأمامية.. رحلة مع المقاتلات الكرديات ضد #داعش#
جانا أندرت: المخرجة التشيكية درست التصوير الفوتوغرافي وعلم النفس بجامعات في هولندا، وعملت في الفترة من 2011 إلى 2015 كمصورة لصالح شركة متخصصة في بيع المستلزمات الطبية، ثم تعاونت مع اثنين من مصممي الأزياء. تم نشر أعمالها في العديد من الدول، مثل ألمانيا وهولندا وبلجيكا. بعد ذلك، اتجهت للعمل كصحفية ومصورة في سوريا، ما قادها إلى عملها كمخرجة أفلام في العراق، حيث قامت بتصوير فيلم “داخل الموصل”.
* المخرجة جانا أندرت تكتب ل DeFacto عن تجربتها مع المقاتلات الكرديات في سوريا:
في صباح صحراوي بارد، استيقظت على مشهد المقاتلات الكرديات من وحدات حماية المرأة (YPJ)، وقد تجمّعن حول النار، يتقاسمن لحظات من الصمود والألفة قبل مواجهة يوم آخر من الصعاب. عشت بينهن شهرين، وشهدت عن قرب شجاعتهن وروح التضحية التي طغت على كلّ شيء، بدءاً من طقوسهن الصباحية إلى قرارات الحياة والموت على الجبهات الأمامية.
كانت الساعة حوالي الخامسة صباحاً. دفعتني برودة الغرفة التي أنام فيها إلى النهوض. لففت نفسي بوشاح، ثم خرجت متجهة إلى الخارج حيث تجمعت النساء حول النار. كانت واحدة منهن تجلس هادئة، تنسج الخرز على وشاحها، في حين كانت الأخريات قد أعددن أنفسهن وأعربن لي عن ترحيبهن. في تلك اللحظة، شعرت أنني اقتربت من قلوبهن أكثر من أي وقت مضى.
قضينا الأيام نتنقل بين قرى محررة حديثاً من قبضة “داعش”. نعيش في منازل نصف مهدّمة، بلا ماء أو كهرباء؛ كان الاعتماد على مولدات قديمة ومتقطعة. بدت الأجواء متقشفة، لكنهن كنّ معتادات على التحديات. أثناء تجولي مع كاميرتي، كنت ألتقط تفاصيل حياتهن اليومية، تلك اللحظات التي تجمع بين البساطة والخطر.
منذ وصولي إلى وحدتهنّ بعد انتظار طويل للحصول على إذن للتصوير، كان التواصل بيننا في البداية حذراً، خاصّة مع القائدة التي بدت صارمة ومسيطرة. رغم تحفظها الأولي، لاحظت فضولاً من الفتيات الأخريات، وكنّ يتساءلن دوماً عن تجربتي، ليزداد شعوري بأني أصبحت جزءاً من تلك الجماعة الفريدة.
في صباح آخر بارد، اقتربت إحدى المقاتلات مني وقالت بابتسامة عذبة: “أولاً الشاي، ثم الإفطار، ثم العمل”. أخذت بيدي لتدفئتها بين راحتيها، ثم قادتني نحو النار. كانت لديهنّ عادة تمشيط شعر بعضهن البعض كل صباح، مصحوبة بضحكات ودية وكلمات مشجعة؛ كنّ يشكّلن طقوساً جماعية تعزز من قوتهن وعزمهن.
كانت الوحدة التي أقيمت فيها تتخصص في القتال بالأسلحة الثقيلة، تُعرف بوحدة “الاغتيالات”، وهي وحدة تُستدعى عند تصاعد الخطر على الخطوط الأمامية. في أحد الأيام الهادئة نسبياً، قُطع السكون بأوامر مستعجلة للانطلاق نحو إحدى جبهات القتال الساخنة. نظرت القائدة إليّ وسألتني: “هل تريدين أن تأتي معنا؟”، كانت تعلم أنني خائفة لكنني لم أتردد، فثقتها بي كانت كفيلة بأن تجعلني أخوض التجربة.
سارعنا للركوب في مركبة مدرعة، وبدت الرحلة وكأنها تمتد بلا نهاية. كانت المقاتلات يبتسمن لي من حين لآخر، يحاولن طمأنتي بأبسط الإشارات، كانت يد إحداهن على كتفي تحمل دعماً صامتاً وطمأنينة خفية وسط توتر اللحظات. حين وصلنا إلى الموقع، توزعت المقاتلات كأنهنّ جزء من خطة عسكرية دقيقة، وبدأن بإطلاق النار على مواقع العدو. مضت نصف ساعة من القتال، ثم استعدنا التوازن على الأرض بسلام.
في تلك الليلة، عدنا إلى القاعدة منهكات لكن سالمات، كنا نحتفل بذلك بهدوء عميق. جلسنا حول النار نتناول البطاطا المقلية والخبز العربي، وغنّت الفتيات أغانٍ حربية محلية تعكس ما في قلوبهن من عزيمة وأمل. كانت الأغاني تحملني إلى عالمهن الفريد، حيث تمتزج القوة بالحنين، والشجاعة بالحلم.
لكن جاءنا خبر مفاجئ في تلك الليلة ليحول الأجواء. قاطعَ الصوت عبر الراديو هدوء المكان، وبدت ملامح القائدة تغرق في الحزن. سقط أحد رفاقهن الشبان برصاص قناص، كان شاباً كُردياً عاش حياته في باريس قبل أن يعود إلى وطنه لينضم للقتال ضد “داعش”. جلست القائدة بجواري، سألتني بنبرة مترددة إذا كان لديّ صورة له، فبحثت في حاسوبي عن صور له وهو يلعب الكرة الطائرة في أيام الراحة. جلست الفتيات حولي يشاهدن في صمت مطبق، وارتسمت ذكراه على وجوههن الحزينة.
مرّ أسبوعان آخران، وحان وقت الوداع. كنت أعلم أنني سأترك خلفي صديقات قدمن لي درساً في الحياة والشجاعة لن أنساه أبداً. وقفت إحداهن وأهدتني وشاحاً منقوشاً، تخبئ في خرزه ذكرى من أيامنا معاً. مشيت بينهن، وودعتهن الواحدة تلو الأخرى بعناق طويل، أحتفظ في قلبي بصور لن تُنسى، وذكريات محفورة، تذكرني دوماً بتلك الأرواح الشجاعة.
عندما عُدت، وجدت أن لقطاتي من المعركة قد اجتاحت وسائل الإعلام العالمية، لكنها لم تكن أكثر من مجرد مشاهد مبهرة للعالم الخارجي، بينما ظلّ الأثر العميق لتلك اللحظات محفوراً في داخلي، حيث تعلمت أن قوة الروح لا تحدها المعارك، وأن هناك نساء يعرفن كيف يُشعلن نار الأمل في أحلك الأوقات.[1]