للفوضى أنظمة خاصة لا تلاحظها العيون الرتيبة: الفوضى الشرق أوسطية الحالية؛ مثالاً
ثوابت أساسية حين تبدأ عملية التفاوض
هذا يعني بأن عملية تحرير الرقة وتحرير دير الزور باتت بالجملة؛ ممهور تحريرها إلى القوات الأكثر تنظيماً؛ إلى وحدات حماية الشعب والمرأة وعموم قوات سوريا الديمقراطية. وما يجب استشفافه هنا لا يمكن تأويله فقط إلى الخبرة التي اكتسبتها هذه القوات وتجربتها الناجحة في تحرير العديد من المدن والبلدات والقرى من التنظيمات الإرهابية كما مثال داعش. إنما باتت قوة المشروع الديمقراطي السند الأكبر في ذلك، أي أن المشروع الديمقراطي على أساس تشكيل إدارات ذاتية محلية في المناطق التي يتم تحريرها من الإرهاب والاستبداد؛ وهذا هو الأكثر ترجيحاً فيما يتعلق ما بعد تحرير كلاً من الرقة ودير الزور وغيرهما؛ هذا المشروع هو الأساس في طبيعة الإسناد المعلنة؛ من قبل التحالف الدولي العربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بالضد من الإرهاب. وحين انتهاء الإرهاب والقضاء عليه جغرافياً فإن أطراف نتيجة القضاء على الإرهاب يكونون بالتأكيد أطراف الحل للأزمة السورية.
نظام حزب العدالة والتنمية التركي باتت مشاريعه الظاهرة المعلنة؛ معادية وضد إرادة شعوب المنطقة؛ إضافة إلى أنها غير منسجمة مع السياسة الدولية الحالية؛ كما أن المجموعات السورية التي لا تزال تحرص على تنفيذ الأجندة التركية باتت تجمعاتها عبئاً ثقيلاً على تركيا قبل أي كاهل آخر؛ ومن غير المتفاجئ أن يتم استخدام هؤلاء كمادة معروضة في البازار الدولي- مقابل تنازل آخر أو مادة من أجل استدارة أخرى مُقْبِلة عليها تركيا؛ دائماً تستدير أنقرة وتبيع مشغليّها، وفي كل استدارة ومن كل انتقال من موسكو إلى واشنطن وبالعكس تفقد أنقرة الكثير من كتلتها.
إعادة صوغ الخيارات وتنفيذ استراتيجية مؤثرة فيما يتعلق بالأزمة السورية؛ يبدوان من المهمات المستعجلة التي وضعتها الأسرة الدولية نُصْب أعيينها/ المتمثلة بشكل كبير من خلال الراعيين المشتركين لحل الأزمة السورية/ واشنطن وموسكو، ولا تتوانى من الإتيان به والعمل وفقهما، ووفق هذه المهمات من المفترض أن تظهر بعض التكتلات -العدمية منها على وجه الخصوص- أدواراً معيقة ومشوشة؛ ولِتجد هذه التكتلات نفسها في حال استمرارها أن تبدو في حالة وهن متقدمة؛ فتتحيّن وتقنع نفسها بأنه حان موعد انحسارها من الساحة السياسية بشكل كبير.
اليوم كما حال التاريخ والحركية الحلزونية التي تتحرك وفقها؛ تفيد بأن المشاريع الديمقراطية وخاصة في حالات الفوضى؛ لا يُستثنى منها فوضانا؛ هي من يُكتب لها النجاح؛ ببساطة: عكس الفوضى هي التنظيم، وفي الفوضى تتحرك كل الأشياء غير المنَظَّمة بحسب التوازن أو النظام الخاص للفوضى نفسها؛ فحتى الفوضى لها أنظمة خاصة ومعايرات دقيقة لا تلاحظها العيون الرتيبة؛ وهي المرئية بشكل كبير من قبل الحركات والأحزاب التي تنهل من أفكارها التي تحاكي مسائل التاريخية والمعاصرة والمستقبلية ونظرياتها كما حال نظرية الأمة الديمقراطية. أية ثورة ليس لها نظرية ثورية ليست سوى عنف تحتاج إلى عنف أقوى منه كي تهدأ.
نعيش بالأساس حالة فوضى؛ لم نشهد بالأساس حالة استقرار
مُذ خرج الإنسان بجبرية من المجتمع الطبيعي وفق ذهنية الرجل الماكر؛ يمكننا القول استنباطاً بأنه غادر حالة الاستقرار الطبيعي أيضاً، ودخل منذ ذلك الوقت إلى حالات متعددة من الفوضى، ولن يستطيع البشريُّ من الإقلاع عن إدمانه حالة الفوضى إلى بالعودة وبذهنية ثائرة إلى المجتمع الطبيعي. أي أن ما يحدث -بمزيد من الاختزال- ليس سوى انتقال من حالة فوضى دنيا إلى حالة فوضى أدنى منها؛ من حالة مكثفة الفوضى إلى حالة أقل منها، ومن المرجح أن تستمر هذه الانتقالات حتى تستقر بها في حالة تنظيم مجتمعية هي المجتمع الديمقراطي/ المجتمع الطبيعي النوعي؛ مرة أخرى. سوريا على سبيل المثال؛ لم تمر بالأساس بحالة من الاستقرار؛ لأن الفوضى التي ظهرت من خلالها عموم الشرق الأوسط قبل قرن من الزمن؛ أنتجت من خلال ثالوث المال المالي (الصناعوية؛ الربح الأعظمي؛ الدولة القومية) حالة أخرى من الفوضى، واليوم ينطبق مثل هذا الفهم على ذلك أيضاً. أما تعابير ومصطلحات الفوضى الخلّاقة والفوضى الهدّامة فإنها تُظهر في حالة من الالتباس من ناحية المنظور المعرفي والفكري وعلائقه؛ بما ينتج عن ذلك بما يتعلق تحديداً بالمسألة السياسية والجيوسياسية. تخلو مصادر التاريخ أية شواهد على أن سوريا بالجغرافية الحالية كانت موجودة يوماً من الأيام، وتركيا أيضاً، والعراق الشيء نفسه، وكذلك أيران. وعموم المنطقة. ولو أدركنا بأننا على هذه الحالة (نعيش بالأساس حالة فوضى؛ لم نشهد بالأساس حالة استقرار) فما هو المطلوب للقيام به من استراتيجية مؤثرة تؤدي إلى نتائج تفيد إنسانية الإنسان بداية وتحفظ قيمته من خلال قيمه؟
السلوك العشوائي
الانتماءات المفروضة على الإنسان تجعله من خلال التجريف الممارس بحقه من قبل هذه الانتماءات المفروضة أن يتصرف بشكل عشوائي فوضوي ويغدو سلوكه سلوكاً عشوائياً؛ بخاصة إذا ما لم يبدي حيال ذلك أية مقاومة فكرية- بشكل أوليّ تتحول من خلال ذهنية ثورية إلى نمطِ وعيٍّ مجتمعيٍّ تحقق مصيرها بنفسها. يخلق الإنسان ليجد بأن إسماً فُرِضَ عليه؛ مثل هذا الإسم يأتي بمثابة خاتمة لجملة هائلة من الانتماءات المفروضة لم يؤخذ رأيه بها ولم يُستَشِر بذلك: له دين معين، له قومية معينة، له طائفة معينة، له هوية معينة….. له ما له؛ ومنها يكفي أن يجد نفسه مُحاطاً بعدة دوائر؛ يصعب عليه الخروج منها بشكل منفرد، وإذا ما قرر ذلك وبشكل إفرادي ليُنظر إليه أنه منبوذ شاذ. في الحقيقة السلوك المترتب وفق دوائر الانتماءات المفروضة ليس بالسلوك القويم إنما سلوك عشوائي فوضوي بحاجة إلى فكر ديمقراطي راديكالي؛ نجدها اليوم في أنموذج الشرق الأوسط الديمقراطية والمتحصِّلة وفق نظرية الأمة الديمقراطية وبمحدداتها أو دعائمها الأساسية (الحماية الذاتية والدفاع المشروع، الدستور الديمقراطي، الوطن الديمقراطي، المرأة الحرة، المواطنة الحرة، الاقتصاد الإيكولوجي ..) التي تخلق أمة كلية غير نمطية كما حال النمطيات السابقة المعهودة في الشرق الأوسط التي أدت إلى جملة هائلة من الكوارث بحق الحضارة الديمقراطية التي نشأت في الشرق الأوسط أولاً، وثانياً وثالثاً أدت إلى ما نحن عليه اليوم من تخلف وديكتاتورية وأقل ما يمكن قوله التأخر الهائل عن الرُكب الحضاري. والسلوك الناجم عن الأمة الديمقراطية هو سلوك ديمقراطي (إنساني؛ خلّاق) ليس لها أي موقف عدائي أو رفضي اتجاه الانتماءات المفروضة عليه- خاصة التي يمكن قياسها بأنها وجودية بقدر الأخلاق والسياسة؛ إنما ومن خلال استنبات المجتمع السياسي وفي إحداث التقاطعات بينها وبين أخرياتها من مشتركات كي تشكل بمحض إرادة؛ هوية مجتمعية جامعة؛ أما إحداث الهوية المجتمعية كفيلة أن تكون أولى خطوات وقف حالات الفوضى؛ مع كل وعيٍّ مسؤول؛ بأنه سيكون المشوار الأكثر صعوبة في التاريخ؛ لا يمكن اختزاله إنما عيشه مرحلة بمرحلة وتفصيلاً بتفصيل؛ لما كانت للنمطيات والهويات المفروضة من إحداث تشوهات وفجوات في العقل الجمعي للشرق الأوسط. وهذا ما يفسر استشعار الكرد بشكل أكبر من غيرهم للحاجة إلى مثل هذا الفهم الثوري الذي يعيد من خلال الأمور المجتمعية إلى نصابها؛ وذلك من خلال الإبادتين الفيزيولوجية والثقافية والإنكار القيمي بحقهم والاستعلاء الذي ظهر عليهم لأكثر من ثلاث أرباع القرن الأخير من قبل الوعي الاصطناعي المهيمن لدى أغلب الجماعات القومية الأخرى وعموم شعوب الشرق الأوسط نتيجة (الحتِّ النمطي) المُطَبَّق بحقهم أيضاً من قبل أنظمة الاستبداد القومية، ومن خلال أعلى مراحل الاستبداد التي نشهدها اليوم والمعروفة باستبداد الزمرة؛ أي ظهور حالة مستفحلة من الفاشية، وهي بمجملها تبدو اليوم آيلة إلى السقوط مع لمعان نجم الأمة الديمقراطية كفكر وممارسة لحركة الحرية الكردستانية.
أنكيدو وخيانته لغابة الأرز
ملحمة غلغاميش من الأساطير السومرية التي تحكي ولع ملك أور غلغاميش بالخلود والديمومة خاصة بعد فقدانه لصديقه أنكيدو، والأخير هدية الآلهة” أرورو” لسكان “أور” الذين لاقوا الويلات من ظلم ملكهم، وأنكيدو الذي وقع فخ أعد له الملك نفسه، فخ “شامات” الجميلة خادمة الملك والتي أغوت أنكيدو وجعلته يتوانى في حماية الغابة، ويفك صداقته مع الحيوانات وغابة الأرز وحارسها “خومبابا”، ويعقد صداقة مع غلغاميش وينفذ له وبالتشارك معه مهمتان أولاهما قتل حارس الغابة نفسه، وثانيها معارضة إلهة الماء “أنليل” التي استاءت من قتل الحارس، وقتل مبعوثها “ثور الجنة” التي كلفته بالإجهار على الملك وأنكيدو، وعلى إثر الحادثتين تعقد الآلهة اجتماعها وبطلب من ابنة كبير الآلهة “شمس”؛ الإلهة ” عشتار” والتي رفض غلغاميش أن يتزوجها، فكان من كُلِّ بُدٍّ أن يُنزل على أنكيدو المرض والموت.
يعتقد الكثيرين أن الجذر التاريخي لكتلة المال المالي المجتمعة؛ ومنطق ادارتها لمجتمعاتها فيما يخص مبدأ الذكاء التحليلي، يبتدأ في أور، وملامح ذلك من السهل ملاحظتها في السلطوية والعنف والفردانية وحتى السلوك العشوائي في شخصية غلغاميش. أما غابة الرز فتشير إلى المجتمع الطبيعي والأيكولوجي بما يحمله من سلوك منتظم مجتمعي وانتماء بمثابة بذرة الهوية المجتمعية التي يتم تأسيسها اليوم من خلال فكر الأمة الديمقراطية. أما الخيانة التي ارتكبها أنكيدو هي الأولى (النوعية) في التاريخ البشري؛ وقد يكون المرتد من المجتمع الطبيعي وخاصة بعد بلائه المثمر فيما كان يحاك و يُقام بحق الغابة ومن ثم انقلابه أو ردته و التي قتَل فيها الحارس نفسه وفق ما تشير إليها الملحمة، ومن جانب آخر الدلالة عن تعاطف الآلهة مع الملك، فقد استثمره الفلاسفة الوضعيون الذين تصوروا العقد الاجتماعي كجزء من المهمة الإلهية التي أسندوها إلى الملك نفسه ( توماس هوبز في كتابه “لوثيان”)، وبالرغم من القوة والذكاء الذي تميز به أنكيدو لكنه أصر على الارتداد إلى احضان الوضعية التي تعلو “زمنا” المرحلة الطبيعية. خيانة أنكيدو وارتداده يعكس حالات كثيرة من واقع الحال الحاليّ، واصرار الارادة المجتمعية التي تهدف إلى خلق مجتمعات أكثر انتظاماً والتي تتجاوز هالات الأنكيدو ولا تلفت له ولأمثاله ولمن يسانده، هذه الارادة كفيلة لإحداث عملية التحول والتغيير المرتقبة من ثورة الشعب في روج آفا- شمال سوريا وكامل شرق الفرات، والتغيير تبقى السياسة الجديدة؛ السياسة الديمقراطية؛ الكفيلة لنقل إحداثيات التغيير المجتمعية إلى سوريا وإلى الشرق الأوسط بمجمله، وحينها أيضا يبقى أنكيدو وإخوانه (الجُدد)؛ شهود؛ الارتداد والنكوص والحبو.[1]