السلام بين الكُرد والترك بوابة لتأريخ عظيم في المنطقة وتشالديران ثانية
علي سيريني
الحوار المتمدن-العدد: 8153
المحور: #القضية الكردية#
في عام 2015، وجهتُ رسالة إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحثثته على الدخول في المفاوضات مع الزعيم الكُردي عبدالله أوجلان، بعد إطلاق سراحه إما إلى أوروبا أو في داخل تركيا نفسها (الرسالة موجودة في النت بعنوان: لماذا حاول الغرب وإيران إفشال عملية السلام بين الكُرد والدولة التركية، ونشرت بعناوين أخرى أيضا) . وفي غير هذه الرسالة، وجهت رسائل أخرى إلى قيادة حزب العمال الكُردستاني وإلى القيادة التركية وشرحت فيها أهمية الشروع في مفاوضات السلام وخطورة المماطلة، أو رفض التفاوض والحل السلمي. رسائلي وصلت كلا الطرفين، إلا أن المفاجئ هو أن حزب العمال الكُردستاني تعامل بجفاء وغرور مع هذه الدعوة ودعوات كُرد آخرين كُثر، وفي إثر ذلك، نقم علي كوادر وشخصيات من الحزب المذكور، كنتُ على علاقة طيبة معهم منذ عام 2006، حين كانت مقالاتي تسرّهم والتي وجدوا فيها أنني أؤيدهم. لكن منذ إنطلاقة الربيع العربي في عام 2011، وبسبب إنتقادي لموقف الحزب من الثورة في سوريا و علاقاته مع إيران وسوريا، كدأب الأحزاب في بلادنا ونبذهم للنقد، اعتبرني الحزب المذكور مناوئا لهم، فانقطعت علاقتنا!
نحن الآن على مشارف نهاية عام 2024 وعند بوابة عام جديد. إذا نجحت المبادرة التركية في إحلال السلام بين الدولة التركية والكُرد، فنكون بذلك شاهدين على أحد أهم أحداث قرن كامل، وسنرى تشالديران جديدة بعد مرور خمسمائة عام بالضبط على تشالديران الأولى، مع مفارقة كسب تركيا للكُرد للسلام وليس للحرب. ويجب على الطرفين الإسراع في عملية السلام وتطبيقه على الأرض، قبل إنقلاب الموازين والظروف الدولية، لأن ما يحدث في المنطقة ينذر بما هو جلل في عقابيله و وخيم في قوادمه. ففي هذه المنطقة، ما عدا إسرائيل، فإن إيران و تركيا هما تقريبا الدولتان الوحيدتان اللتان تملكان الرصيد و العناصر التي تؤكد أنهما دولتان، تفيان بشروط و مقومات الدولة بما في الكلمة من معنى. وتأتي مصر والسعودية خلفهما في إستيفاء هذه الشروط والمقومات، مع كثير ما يقال في ذلك. ولكن ها هي إيران تكاد تترنح أمام الهجمات المميتة لإسرائيل، بعد أن قصقصت هذه الأخيرة أجنحة قوية لها، وضربتها في القلب حيث عاصمتها العصماء البعيدة. في الواقع فإن ضربات إسرائيل الأخيرة في المنطقة عرّت مفهوم الدولة من الدول الإقليمية القومية، وأبدت سوآتها، هزيلة مهلهة، لا تتحمل شدائد الضربات في دنياها فكيف بدواهي المصيبات في قصوياتها. فلو دققنا النظر، نجد أن أكثر من دولة في منطقتنا، أصبحت بدرجات متفاوتة، من الدول الفاشلة. هذه الدول، تتمتع إيران بالقول الفصل فيها، وهي العراق، سوريا، لبنان واليمن. ويبدو أن ضراوة المصائب و سرعة الإنحدار في مفاصل الحكم، في هذه الدول، لا تترك خيارا لمواطنيها غير التفكير الطبيعي لدى المواطنين: أخرجونا منها وأعيُنهم محدقة نحو فردوس الغرب!
منذ عام 1948، هذه هي المرة الأولى، أو من نوادرها، التي كشرت فيها إسرائيل أنيابها الحقيقية، رغم أنها في الماضي وجهت ضربات مميتة للدول العربية، كإنتصارها في الحروب التقليدية، وتدميرها لمفاعل تموز العراقية عام 1981. ويبدو أن الدولة التركية عرفت حق اليقين، أن مآلات الضربات الإسرائيلية و جلبتها العرمرم ليست من الهزال الهاذر والإعصار العابر، بل طوفان جارف قد يقلب الرأس على عقب أبعد من مرمى غزة بألف فرسخ. تحدثتُ كثيرا عن خبايا مرامي دول الغرب إزاء تركيا على مدى السنون التي مضت، وأقل ما يمكن للمرء إذا أحسن الظن بالغرب، أنه لا يأبه بأن تتحول تركيا أو أي دولة أخرى في المنطقة إلى غبار متناثر. هذا إن وضعنا التأريخ جانبا و سرنا في دائرة السياسة سري الطائفين حول الفهم.
على الكُرد إغتنام الفرصة وعدم تفويتها، وعلى الدولة التركية التمسك بالمبادرة والعض عليها بالنواجذ حد الموت صبرا. فلا مفر و لا منجى للطرفين من السلام. ولا بد أن يعم السلام بين جميع الفئات والمكونات في المنطقة، لأننا ومستقبل أجيالنا لا نقدر على تحمل أهوال الحروب والصراعات أكثر، ودوام الإقامة في مهاوي السقر. من مصلحة الكُرد البقاء في داخل الدولة الحالية المسماة بتركيا، بعد تعديلات دستورية جذرية تضمن حقوقهم، لأن تركيا ذات مقومات أساسية مهمة على صعيد الدولة، وإن ما يجمع الكُرد والترك من أواصر المشاركة في بناء المستقبل، أكثر بكثير من العداوة المفتعلة بينهما منذ مجئ أتاتورك، هذا العسكري الذي أسس للراهن الكارثي في منطقتنا برمتها، حيث قلب الأمور رأسا على عقب وتبعه متنفذون من الترك ثم العرب، والكُرد أخيرا على مضض. يجب محو هذه الآثار سريعا، قدر الإمكان، والعودة إلى ميثاق القرون السالفة من وشائج القربى بين أبناء منطقتنا. وأردوغان قادر على فعل ذلك، وما زال هناك المتسع من الوقت والإمكانية، ولكن الخطورة تكمن في أن المنطقة بلغت حافة الخطر العظيم، هلاك الحرث والنسل. ويجب أن يبتعد الجانب الكُردي من الغرور، ومن السير في ما لا يُحمد عقباه، وخصوصا خبث النابذين للسلام بين الكُرد والترك، وإذ هم يمكرون ليحتنكوا الطرفين فينأونهما عن السلام والوئام. ولكن يبدو أن معظم الكُرد هذه المرة مقبلون على دعوة الدولة التركية للسلام، ولا يضير من يخالف الإجماع فليشذ إلى الجبال النائية يلوك مصيره في الفشل المحتوم.
إذا تم السلام بين الكُرد والترك، سيتحول إلى نموذج يحتذى به في المنطقة. وستكتسب الدولة التركية قوة كبيرة في ذلك، وتصبح أكثر تحصنا ومنعة من المخاطر التي تحدق بها، وستكسب الكُرد جميعا في المنطقة إلى جانبها، كما نجح السلطان سليم الأول في كسب الأمارات الكُردية إلى جانبه، قبل موقعة تشالديران المفصلية التي غيرت تأريخ المنطقة للقرون التي تلتها. وكان العامل الرئيس في إنتصار السلطان سليم هو التحالف مع الأمارات الكُردية القوية، رغم مفارقة أن السلطان شاه إسماعيل الصفوي كان من أصل كُردي!
إن شعوب هذه المنطقة تعاني الفقر والتخلف، و العيش في هوامات مستعرة بطاقات سلبية مشحونة بالعداء والضغينة تُضخ فيها وبها بإستمرار، فتولد العداوة والخراب والحسرة. إن السلام الحقيقي بين شعوب ودول هذه المنطقة، سيفتح الآفاق أمامها وأجيالها، للعمل على أسس غنية لحضارات المنطقة ومن أهمها الإسلام. إن السلام سيتيح لنا جميعا إستشراف مستقبل زاخر و بهي. ومن هذه الزاوية يجب أن تبادر الدول الإقليمية إلى عقد مؤتمرات قمة، بعيدا عن الإبتذال والرتابة، جادّة في الدخول في حوار جدي ينهي الصراع والعداوة خصوصا بين إيران ودول الخليج (لا سيما المملكة العربية السعودية)، بالإضافة إلى مصر وتركيا وكُرد المنطقة في الدول الأربع. إن حل القضية الكُردية حلا جذريا، هو الركن الأساس في بناء مستقبل مشرف لأبناء المنطقة، وإرساء السلام على قواعد صادقة ومتينة. ومن هنا، فإن عودة العافية إلى شعوب المنطقة، تكون في طريق غير طريق المائة سنة الأخيرة، من ثقافة الدول الإقليمية القومية التي تأسست على أهواء ضابط تركي مريض وجاهل، سرعان ما تحولت إلى ثقافة ودستور للمنطقة برمتها، فأشعلت النيران في الغابة الكبيرة للآخاء والتراث المشترك والدين والأخلاق وعلائق المودة و وشائج القربى لدى شعوب المنطقة. إن السلام سيقوي منطقتنا ويحفظها، ويعطي القوة للمظلومين، ويعيد العافية لمكوناتها، ويضع حدا لموجات المهاجرين واللاجئين الذي يتلاطمون نحو الغرب يستجدون الخبز والعافية، حيث ترسخت في أذهان العالم المعاصر أن الشعوب المسلمة، لا سيما العربية، ليست سوى أكوام ثقيلة على كاهل البشرية! إذن فلا يتأخرنّ الترك والكُرد عن إعلان السلام والتفرغ لبناء المستقبل، فقوة أيهما لا تستقل بمفردها، عما يحاك لكليهما، من نفث السموم والظلمات. وعلى دول المنطقة حذو السير نفسه من أجل السلام.
يا سلام سلّم.[1]