تركيا أمام أمام تغيير كبير وحاسم في 2023 على مفترق طريقين تشكل #القضية الكُردية# الأهم فيهما
علي سيريني
الحوار المتمدن-العدد: 7557
المحور: السياسة والعلاقات الدولية
منذ عام 1923، لم تواجه تركيا مصيرا محتوما وخطيرا كما في عامنا الجاري 2023. أي أن ضريبة قرن كامل من جمهورية قلقة تقف عند البوابة طارقة بإنتظار الدفع! أردوغان وحزبه العدالة والتنمية منبوذان غربيا. وفي الداخل التركي، تكونت ضده جبهة متحالفة متخالفة، لا يوحدها شئ إلا العداوة لأردوغان. الغرب يدعم بكل قوة الجبهة المعارضة، لإعادة تركيا إلى الدائرة الغربية، وفق الشروط التي يريدها الغرب وهي، أن تكون تركيا ضعيفة أمامه، وآداة قوية لتنفيذ ما يخدم إستراتيجيات الغرب كما كانت. أي وفق ما كانت عليه تركيا قبل عام 2003، قبل تسلم العدالة والتنمية زمام الحكومة. اليوم تعاني تركيا تدهورا إقتصاديا خطيرا، غير معلن تماما، بعد إزدهار إستمر ينمو منذ عام 2003. لكن ظروف المنطقة منذ عام 2011 دفعت بتركيا نحو الإتجاه الخاطئ، بسبب من الناس (القوى الخارجية) وسبب من عند أنفسهم (الحكومة التركية). وهذا الإتجاه لم يكن باديا للعيان، إلا للعارفين بأعماق الأمور الذين يقرأون الأحداث بروية وعمق. على العموم، الزلزال الأخير ضرب قواعد وأركان البلاد وتسبب بخسارات ثقيلة جدا، وقد تكون الإنتخابات القادمة زلزالا سياسيا أشد قوة من الزلزال الذي ضرب مناطق واسعة في تركيا.
في عام 2015، كتبت في عدة مقالات موجهة إلى أردوغان وحزبه، وإلى حزب العمال الكُردستاني وحزب الشعوب الديموقراطي، محذراً أن الظروف الإقليمية آيلة إلى تقلبات خطيرة، مرشداً إياهم، الدخول المباشر في المفاوضات والبت في حل جدي وجذري عاجل للقضية الكُردية، قبل إنقلاب موازين القوى. وصلت مقالاتي إلى قيادات الطرفين، وكان هناك آخرون كتبوا بنفس الإتجاه، وأغلبهم كتاب وباحثون وسياسييون كُرد. لكن الإرشاد لم يلق آذانا صاغية من الطرفين، لأن العلّة الكبرى في منطقتنا، أن القوة الآنية لطرف من الأطراف تغرر دوما المنتشين بوهم الإنتصار المؤقت، فيتوقعون إستمرار الحال كما هي دون تغيير. يحدث هذا مع وجود كم هائل من التجارب السابقة، ولكن الإعتبار بالدروس هو من أندر العملات بين شعوبنا. والغرب يعرف ذلك، فيلعب في هذا المجال لعبته الجحيمية التي ما إن زال الغبار في كل حدث، حتى ترى فوهات الجحيم تفتح على المنطقة من أقصاها إلى أدناها.
في ذلك الوقت، وتحديدا في عام 2015، حثثت طويلا حزب الشعوب، بقيادة صلاح الدين دميرتاش، الدخول في التحالف الحكومي مع أردوغان، وعدم الإنجرار وراء الأوهام التي كانت تنتظر سقوط أردوغان، إبان إسقاط تركيا للطائرة الروسية وتراجع نسبة حزب العدالة والتنمية في البرلمان، والموقف السلبي المتنامي للغرب من تركيا إلى حد خصومة واضحة. لكن حزب العمال كان يعول في موقفه من أردوغان على الموقف الغربي والروسي الآني من تركيا، ومن ثم تراجع نسبة حزب العدالة والتنمية في الإنتخابات الأولى عام 2015. لذلك، بدا الرفيق جمعة (جميل باييك، أبرز قيادات حزب العمال) متحمسا في ذلك الوقت وأعلن من جبال قنديل أن إسقاط أردوغان بات قريبا!
رد أردوغان الصاع صاعين، وبدا منتشيا بفوزه بعد إعادة الإنتخابات وفوزه بنسبة أكبر، بعد تنامي التأييد الشعبي له في أعقاب الإنقلاب العسكري الفاشل، داخل تركيا و في العالمين العربي والإسلامي، وتحقيق الجيش التركي إنتصارات جزئية وتكتيكية غير حاسمة داخل تركيا و في ساحات أخرى مثل العراق، سوريا، ليبيا وآذربيجان. آلمني ذلك، لأنني كنت على يقين، أن ما يجري سيتحول إلى فيضان مدمر يجرف تركيا التي لا طاقة لها بكل ما يُحاك ضدها. شرحت في أكثر من مناسبة أن تركيا بهذه السياسة الرعناء المتكبرة لن تجن غير المرارة. واليوم بات الواقع التركي كما يقول المثل: الأمور بعواقبها. فعاقبة السياسات التي تبلورت منذ عام 2011 تبدو اليوم واضحة، أن تركيا، وتحديدا الحكومة التركية، تعيش في مأزق واضح الذي قد يتحول إلى تحطيم العمود الفقري للدولة. ومقارنة بسيطة مع أمريكا، توضح لنا حجم الكارثة بالنسبة لتركيا. فأمريكا قوة عظمى على جميع الأصعدة الإقتصادية والمالية والتكنلوجية الخ. لكن مع ذلك، بدأت تأثيرات الحروب الخارجية تنهك الإقتصاد الأمريكي بإستمرار منذ عام 1991 بشكل تدريجي ومنذ عام 2001 بوتيرة سريعة. وهذا ما حدا بأمريكا أن تنسحب من بقاع عدة في الأرض، بعد أن كانت احتلتها عسكريا. لكن تركيا دخلت في مدة قصيرة في حروب ومعارك، في كُردستان (شماله وجنوبه وغربه)، وفي سوريا، والعراق، وليبيا وأذربيجان بل وشاركت في أوكرانيا أيضا بإستحياء وتردد بين هذا وذاك. فكيف يتحمل الإقتصاد التركي كل هذا الثقل ناهيك عن الأزمات الأخرى التي تعصف بالبلاد، وتركيا ليست قوة عظمى؟!
الخياران الحاسمان!
إذْ نحن مقبلون على الإنتخابات في تركيا، تبدو الأمور متجهة بجلبة عظيمة نحو مفترق الطريق، وبخفقان كبير لقلب الدولة، خوفا من القادم المجهول. وهذا القادم المجهول، الواضح في طلّته للعقلاء، منفتح على خيارين حاسمين:
الأول: إنتصار أردوغان في الإنتخابات القادمة. هذا الإنتصار ليس متوقعا ولا مرحبا به من قبل الغرب، لكنه مفضل لدى الروس، وحاليا قد تكون السعودية وإيران تفضلان إستمرار أردوغان لأسباب تتعلق بالتوجهات الجديدة للبلدين، خصوصا بعد إنفتاح السعودية على إيران بإشراف الصين. إذا انتصر أردوغان فليس بد من إنتقاله بشكل شبه كامل نحو المعسكر الروسي، مع كل ما تحمله هذه الخطوة من تبعات إقتصادية وأثقال سياسية. فالمناورة بين المعسكرين الروسي والغربي (قَدَمٌ هنا وقَدَمٌ هناك)، قد لا تجد فرصة متاحة كما كانت في السابق. فالغرب يدعم التغيير الجذري في تركيا. وفي هذا الطريق ليس أمام أردوغان سوى أن يعلن الفيدرالية لمنطقة كُردستان في تركيا، لأنها ستكون إنطلاقة للتغير الذي تريده أطراف كثيرة ليس حبا بالكُرد، لكنها ترى فيهم القوة الكامنة لهذا التغيير، نظرا لإمكانياتهم القتالية والعسكرية المعهودة.
الثاني: فوز المعارضة بقيادة كليجكدار أوغلو وهو فضلا عن كونه علويا، فهو يساري يقود الحزب التقليدي للجهورية وهو حزب أتاتورك مؤسس الدولة التركية الحديثة. فالغرب يدعم كليجكدار أوغلو، لأن توجهه يرضي الغرب على صعيد السياسة والثقافة، وكذلك في ما يتعلق بالنظم الغربية السائدة. إذا فاز كليجكدار أوغلو، فإن أولى الخطوات هي إحالة أردوغان والقيادات التابعة لحزبه إلى المحاكمة بتهم كثيرة منها إرتكاب جرائم بحق البشر، الخيانة الوطنية، خيانة الدستور، المس بأمن الدولة والشعب، الفساد الإدار والإقتصادي. كما أن كليجكدار أوغلو وتحالفه يؤكدان على دعم مواثيق حقوق الإنسان بالمذاق الغربي، لذلك فإن فتح الملف الكُردي وطرح حل فيدرالي سيكون أمرا حتميا، ليس عرفانا بالشعب الكُردي، ولكن لتمكين الأقليات الأخرى الدينية والإثنية في منطقة كُردستان، وتأسيس مراكز قوة لها ذات علاقة وطيدة بدول الغرب والدول المجاورة لتركيا مثل أرمينيا واليونان وبلغاريا وما ورائها. إذا فاز هذا التحالف الإنتخابات فإن تركيا تفقد قوتها وهيبتها المعهودة منذ عام 2003، وتتلاشى الشخصية الكاريزمية للدولة التركية التي جسدها أردوغان رغم الكثير من النكسات التي ضربت هيبة الدولة في الصميم، كخسارة الساحة السورية، والتدهور الإقتصادي، وأخيرا الزلزال الذي ضرب تركيا والذي كان الزلزال الأشد الذي خلف عشرات الآلاف من الضحايا وأضرارا بمئات المليارات من الدولارات، ستعاني الدولة بسببها طويلا.
الكُرد اليوم منقسمون بين معسكرين. المعسكر الأول يقوده حزب العمال الكُردستاني الداعم لحزب الشعوب الديموقراطي. حزب الشعوب يملك 67 مقعدا في البرلمان، وحصة الكُرد من هذه المقاعد هي أقل من 15، بينما تعود المقاعد المتبقية للأقليات الدينية والإثنية واليسارية غير الكُردية مثل الأرمن، السريان، العلوييون الأتراك، اليسار التركي، الجماعات المثلية والخ. في الواقع هذا الحزب ليس كُرديا، لكنه كما هو ظاهر في عنوانه، حزب يمثل الشعوب والإثنيات والجماعات الآيديولوجية المختلفة عن الهوية السائدة للكُرد والترك وهي الهوية الإسلامية. لكن الحزب يحاول الإستفادة من الحاضنة الكُردية وأصوات الناخبين في المنطقة الكُردية، نظرا لنسبة سكان الكُرد الكبيرة، وإفتقار الأقليات والإثنيات والجماعات الآيديولوجية للنسبة التي تؤهلهم إلى البرلمان. فغالبية أعضاء حزب الشعوب الديموقراطي ليسوا كُردا، لكنهم وصلوا إلى البرلمان بصوت الناخبين الكُرد. وهذه مفارقة غريبة في تركيا.
المعسكر الثاني يقوده حزب هودا-بار (حزب قضية الحرية) وهو حزب إسلامي كُردي معتدل، وكذلك نواب كُرد متدينون موجودون في داخل الحزب الحاكم، العدالة والتنمية، وعددهم يبلغ زهاء مائة عضو في البرلمان. لا شك إن أصوات الناخبين لهذا المعسكر هي أكبر بكثير من أصوات حزب الشعوب الديموقراطي. وهذا المعسكر يدعم أردوغان وحزب العدالة والتنمية. وإذا ما فاز أردوغان (ليس أمامه من حل سوى الفوز)، فليس ببعيد أن يدخل مع هذا المعسكر في مفاوضات حقيقية لإعلان صيغة إدارية جديدة لمنطقة كُردستان (جنوب وشرق تركيا)، لبناء علاقات متينة مع إقليم كُردستان بزعامة الرئيس مسعود بارزاني. ففي الواقع إن مفتاح إنتصار أردوغان هذه المرة، وضمان بقائه في السلطة، والحيلولة دون قوعه في مخالب وأنياب المعارضة المتربصة به، ومن ورائها دول الغرب، تقع في إقليم كُردستان تركيا وإقليم كُردستان العراق. أما إذا خسر أردوغان هذه الإنتخابات، فإن تحول تركيا إلى سوريا أخرى أو عراق آخر قد لا يكون بعيدا، في ظل المعادلات الدولية والإقليمية التي لا تصب في غالبيتها في مصلحة تركيا. لكن مما لاشك فيه هو أن تحول تركيا إلى دولة يعمها الخراب والفوضى على غرار دول الجوار ليس من مصلحة الشعب الكُردي، بل المصلحة الحقيقية هي في الوصول إلى إتفاق تأريخي مع الدولة وترسيخ السلام والعدالة بين الكُرد والترك. لننتظر ماذا سيحدث.[1]