الأزمة السورية التي امتدت على مدى 13 عامًا تركت خلفها مع سقوط الأسد تركة ثقيلة جدًا؛ حيث أبقت سوريا وسط بحر من التناقضات والأزمات والفوضى يصعب علاجها رغم وجود نوايا صادقة في هذا الاتّجاه، لأنّ المسالة السورية لم تعد شأناً خاصاً بالسوريين وحدهم وإنما باتت شأناً متعلّقاً بالدول الإقليمية والدولية ذات المصالح المتضاربة في الشرق الأوسط وفي سوريا، ولكلّ من هذه القوى وكلاء يتحرّكون على الأرض السورية وفقاً لما يُرسَم لهم من أهداف وأجندات، وليس سهلاً كذلك التوفيق بين كلّ تلك المصالح والمصلحة السورية من دون عمليات قيصرية متعدّدة قد تتمكّن من إنقاذ الجنين الفاقد حالياً لأيّة سِمة أو خصائص واضحة تمكّننا من تعريفه أو تحديد هويته.
قبل الخوض في مستقبل سوريا وترتيباته لا بدّ من العودة إلى ما شهده الشرق الأوسط من تغييرات منذ 2011 م، فالأحداث التي جرت وتجري منذ اندلاع ما سُمّي بالربيع العربي في 2010 -2011 ليست منفصلة عن بعضها بعضًا بل مترابطة كسلسلة؛ بحيث تؤدّي في النهاية إلى تحقيق ما رسمته القوى الدولية للمنطقة والشرق الأوسط وفقاً لمشروع “الشرق الأوسط الجديد” الهادف إلى إعادة هيكلة الشرق الأوسط وفقا لمنظورهم. بدأت الشرارة من تونس عندما أقدم محمد البوعزيزي على إضرام النار بجسده استنكارا لوضعه المعيشي، دون أن يدرك أنّ النار التي أوقدها بجسده ستكون شرارة لإضرام النيران في الشرق الأوسط عموماً؛ حيث تساقطت الأنظمة العربية كأحجار الدومينو من تونس إلى ليبيا ومصر واليمن، ولتشهد سوريا 13 عاماً من هذه النيران التي لم تبقِ شيئاً في هذا البلد سوى الويلات، ومن ثم لتمتدّ إلى غزّة ولبنان ولتكون هاتان الساحتان بداية لترسيم ما يجب أن يكون عليه ترتيب المنطقة؛ وبما أنّ الكرد كشعب وكقضية تُعَدّ من أكبر القضايا السياسية في الشرق الأوسط إذاً لا بدّ أن يكون جزءاً من هذه الترتيبات، ولكن؛ كيف ذلك؟ وما هو دوره؟
أدوات تدمير المنطقة لإعادة صياغتها من جديد
في العام 2003 سقط نظام صدام حسين في العراق على يد الجيش الأمريكي، ليستلم الشيعة هناك دفّة الحكم إلى جانب القوى الكردية وبعض القوى السُّنّية الضعيفة، وفق مبدأ “المحاصصة” بين الأطراف الثلاث في تبوّء المناصب والمراكز في الدولة الجديدة؛ ممّا تسبّب في ردّ فعل عنيف من قبل العرب السُّنّة الذين شعروا بأنّهم باتوا تحت سطوة الشيعة هناك، لتظهر الحركات السُّنّية المتشدّدة كتنظيم القاعدة بقيادة أبو مصعب الزرقاوي وبقايا حزب البعث الذي بات محظورا، حيث أدخلوا العراق في نفق مظلم من الإرهاب وتحوّلت الساحة العراقية إلى ساحة استقطاب لأصناف الجهاديين، وتحوّلت سوريا إلى ممرّ آمن لكل من يسعى إلى الجهاد ضدّ الوجود الأمريكي هناك، وذلك بعد خشية النظام السوري أن يكون هو التالي في الاستهداف ضمن الأجندة الأمريكية.
عزّز سقوط بغداد من تنامي الحركات الإسلامية الجهادية والإخوان المسلمين في المنطقة، وحتى الأنظمة التي كانت تعتبر نفسها عَلمانية قد فتحت الأبواب مشرعة أمام الفكر الديني المتطرّف والجهادي، مثل سوريا التي ظهرت فيها معسكرات لتجميع الجهاديين وتحوّلت منابر الجوامع إلى وسائل إعلام تروّج للجهاد ضدّ أمريكا.
في العام 2002 صعد نجم الرئيس التركي الحالي أردوغان كشخصية إسلامية معتدلة تؤمن بالديمقراطية والهوية العَلمانية لتركيا، وخطا أردوغان كزعيم لحزب العدالة والتنمية خطوات داخلية وخارجية أثبت أنّه قادر – كحزب إسلامي – على التوفيق بين الإسلام السياسي ومفاهيم الديمقراطية وحقوق الانسان والانفتاح على الغرب. لذا؛ فقد تم الترويج لتركيا كدولة قادرة على استيعاب الحركات الإسلامية، وخاصة الإخوان المسلمين، وتغيير وجه الشرق الأوسط من خلال هذه الأحزاب والحركات، وفرض النموذج التركي المقبول غربياً على المنطقة وتحويلها إلى منطقة عصية على إيران وروسيا ووقف المدّ الصيني، ولذلك دائما ما يتم التذكير بأنّ أردوغان هو الرئيس المشترَك لمشروع الشرق الأوسط الجديد؟ فمن هو الرئيس الآخر؟
الرئيس المشارِك لمشروع الشرق الأوسط الجديد:
نفّذت تركيا دورها المُناط بها، وإن لم يكن كما أراده الغرب، غير أنّ الإسلام السياسي الذي استُخدم في تدمير المنطقة، قد يكون مفيداً لتركيا، غير أنّه لن يكون مفيداً بعد قيامها بدورها التدميري في إعادة صياغة المنطقة، لذلك كان لابدّ من إيقاف الرئيس المشارِك لمشروع الشرق الأوسط الجديد، وظهور الرئيس المشارِك الآخر والرئيسي في مرحلة إعادة الصياغة، لهذا كان لا بدّ لحدث كبير أن يحدث، كان لا بدّ من مخاض الولادة أو ظهور الرئيس الجديد المشارِك للشرق الأوسط الجديد؛ فكانت أحداث 7 أكتوبر التي ستغيّر وجه الشرق الأوسط.
لم تكن أحداث 7 أكتوبر وهجوم حركة حماس الفلسطسنية مجرّد مخطّط من حركة حماس وبقواها الذاتية، وإنّما جاء الهجوم بُعَيد الاتّفاق على مشروع الخط التجاري الممتدّ من الهند وعبَر الخليج العربي إلى إسرائيل، ومن ثم أوربا (طريق التوابل) أثناء عقد قمّة العشرين في الهند ( 9 و10-09-2023 ) والذي ضمّ كلّاً من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والهند والإمارات وإسرائيل، ولا يمكن أن يُكتَب النجاح لأيّ مشروع من دون وجود الأمن والاستقرار؛ فالخطّ التجاريّ من الهند ينتهي في إسرائيل ومنها إلى أوربا، وهو مشروع في مواجهة “خطّ الحرير” الصينيّ، ويُقصي روسيا وإيران وتركيا من المعادلة، لذلك؛ ألا يجب منع أو إعاقة هذا المشروع؟
ومن يعيق المشروع أفضل من إشعال النار فيه، ولم يكن هناك أفضل من حماس وغزة؛ فمن جهة تحظى حماس بدعم تركي ورعاية إيرانية وعلاقات مع ما سُمّي ب”محور المقاومة”، إلى جانب تعاطف من الإسلاميين وحركاتهم معها، فقد يكون دفع حماس للقيام بهجومها محقّقا لأهداف كلّ الأطراف (روسيا والصين وتركيا وإيران)، ومن جهة أخرى؛ ألم تكن إسرائيل – بالفعل – تدري بتحرّكات حماس؟ لا نستبعد ولا نستطيع استبعاد عدم دراية إسرائيل – وإن لم يكن بذلك الحجم الذي كانت تتوقّعه – ولكنّها أيضا أرادت أن تحدث مخاضًا، فالولادة بحاجة إلى مخاض؛ وأخذ زمام القيادة لمشروع الشرق الأوسط الجديد من يد تركيا أيضا بحاجة إلى هذا المخاض القاسي، وعلى أقلّ تقدير ربّما كانت إسرائيل نفسها تشعر بالحاجة إلى حدث كبير يدفعها للتحرّك، أو أنّ أحداث 7 أكتوبر جاءت في الوقت الذي كان يتمنّاه قادة إسرائيل. نستطيع القول أنّ هجوم 7 أكتوبر كان حدثًا مفصلياً في تحوّل القيادة من أردوغان إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وكذلك إقصاء تركيا وإسلامها السياسي عن عملية إعادة صياغة الشرق الأوسط، وذلك بعد أن فشلت تركيا في ذلك وفقاً لما كُلّفت به وقدّمت مشاريعها العثمنلية على مشروع الشرق الأوسط الجديد، أو أنّه كان فرصة للرئيس المشارك الآخر في مشروع الشرق الأوسط الجديد للدخول على الخط وأخذ زمام المبادرة؛
عملية “ردع العدوان” مخطّط من القوى الدولية والإقليمية
لم تنطلق العملية تحت شعار إسقاط النظام وإنّما تحت مُسمّى (ردع العدوان)؛ ما يعني أنّ الهدف هو إيقاف النظام عن استهداف مناطق خفض التصعيد وليس الوصول إلى دمشق، واعتبرها المحلّلون أنّها ضغط على النظام، بتواطؤ روسي تركي، لإجباره ومن خلفه إيران للقبول بالتطبيع مع تركيا؛ حيث كانت من مصلحة الروس أن يتم التطبيع بين الدولتَين (تركيا وسوريا) للتخلّص من التركة الثقيلة للأزمة السورية والحفاظ على مكتسباتها، إلى جانب منح تركيا إمكانية تصفية الإدارة الذاتية، والتخلّص من عبء اللاجئين السوريين، إلّا أنّه يبدو أنّ العملية لم تسرْ وفقاً لكلّ من تركيا وروسيا أيضاً؛ فحتى حين وصول هيئة تحرير الشام إلى حماة كانت تركيا تدعو الأسد إلى التطبيع، غير أنّ العملية قد سارت حتى سقوط دمشق؛ ممّا يعني أنّ هناك قوىً أخرى غير تركيا تقف خلف العملية (1) ففي العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 ، أفاد أردوغان أنّ تركيا ستقطع الروابط بينها وبين العناصر الإرهابية خلال المرحلة القادمة، وسينهون مكيدة الإرهاب القائمة منذ 40 عاما؛ في إشارة منه لعملية عسكرية مرتقبة في شمال سوريا، أي إن لم تطبّع سوريا مع تركيا فإنّ تركيا ستقوم بشنّ عملية عسكرية، اعتماداً على ما يُسمّى بالجيش الوطني، ضدّ الإدارة الذاتية، لذا؛ فإنّ العملية التي سمّاها “فجر الحرية” والتي انطلقت بالتوازي مع عملية “هيئة تحرير الشام (ردع العدوان)، تشير إلى أنّ عرّابَي العمليتَين مختلفان، وأنّ هيئة تحرير الشام، وعلى الرغم من أنّ اسم عمليتها تشير إلى عملية محدودة، قد تكون تركيا متّفقة عليها، لما ذكرناها من تواطؤ روسي – تركي، إلّا أنّه يبدو أنّ العرّابَين هما من الاستخبارات الدولية والإقليمية (كبريطانيا وأمريكا وإسرائيل)، وكان هدفهما يتجاوز ردع العدوان إلى إسقاط الأسد؛ وذلك بالتفاهم مع هيئة تحرير الشام، وقد يكون من دون علم تركيا أيضاً، خاصة أنّ هيئة تحرير الشام قد تجنّبت الصِدام مع قوات سوريا الديمقراطية ووحدات تحرير عفرين والمناطق الكردية؛ فليس من المعقول أن تكون تركيا هي التي سيّرت العملية وتستثني الكرد وقوات سوريا الديمقراطية من الاستهداف، وقد انتقد رئيس حزب الشعب الجمهوري التركي المعارض، أوزغور أوزال، سياسة أردوغان بشأن سوريا قائلا: “من الممكن القول أنّ أردوغان قد فاز في سوريا، غير أنّ الفائز الفعلي هناك هما إسرائيل والولايات المتحدة. كما أفاد أنّ تركيا قد خسرت 200 مليار دولار على مدار 13 عاماً، وفي نهاية العام لم تستطع تركيا تحقيق أية مكاسب“. لذلك سيّرت عملية موازية وسمّتها “فجر الحرية” ضدّ المناطق الكردية وقوات سوريا الديمقراطية كعملية خاصة بها مستغلّة انسحاب القوات الروسية وقوات النظام والمليشيات الإيرانية من تلك المناطق. ومع ذلك؛ فقد أظهرت تركيا بعد سقوط الأسد أنّها هي التي انتصرت وأسقطت الأسد، وربّما يكون خطاباً موجّهاً للداخل التركي، أو أنّها ارادت الاستثمار في هيئة تحرير الشام وربطها بنفسها أكثر من العلاقات السابقة بينهما وتطويرها إلى علاقات أكثر استراتيجية، واستخدام الهيئة كبديل عن النظام في مواجهة الإدارة الذاتية. وعلى الرغم من التحرّكات التركية المتسارعة صوب دمشق من جهة، وتكثيف اعتدائاتها ضدّ مناطق الإدارة الذاتية من جهة أخرى، غير أنّ ما يبدو من المشهد هو وجود نوع من استقلالية هيئة تحرير الشام عن تركيا، وقربها أكثر إلى التناغم مع إسرائيل وأمريكا والغرب، والعمل على تسويق نفسها دولياً كمخلّص وقادر على بناء سوريا جديدة لكلّ السوريين.
تركيا مستعجلة في تبييض حركة تحرير الشام وتقوية شوكتها إقليمياً ودولياً وتسويقها كحركة غير إرهابية وقادرة على التغيير، وتكثّف دبلوماسيتها لفرض رؤيتها على الهيئة في بناء سوريا مركزية لا تعترف بأي شكل من أشكال التعدّدية، في الوقت الذي تسعى فيه القوى الدولية وإسرائيل إلى سوريا دولة تمثّل لكلّ المكونات والطوائف ومن دون إقصاء أحد، إلى جانب حماية الأقلّيات ومحاربة الإرهاب، وهو ما يتناقض مع الرغبة التركية، وبالتالي؛ يكبّل هيئة تحرير الشام أيضاً، وقد تكون الهيئة بحاجة إلى ما يطلبه الغرب وإسرائيل أكثر من إرضاء تركيا، ولكن تركيا حالياً ستسعى بكلّ قوّة لدفع الحكومة الجديدة في دمشق للتصادم مع الإدارة الذاتية ودفعها للقيام بأعمال عسكريةن أو دعم فصائل ما يُسمّى بالجيش الوطني للهجوم على مناطق الإدارة الذاتية.
إعادة صياغة الشرق الأوسط، والقضية الكردية
كثرة الحديث عن الكرد والقضية الكردية من قبل الدول الكبرى والإقليمية خلال هذه المرحلة ليست بصدفة، بل تأتي في سياق مشروع الشرق الأوسط الجديد وآليات تحقيقه؛ فرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قال صراحة أنّ الدول التي تعارضها في بناء مشروع الشرق الأوسط الجديد عليها إمّا التنحّي والقضاء على الحركات التي تُعتبَر مقاومة فيها، أو أنّ إسرائيل هي التي ستقوم بذلك، ومن المعروف أنّ الدول التي حدّدها نتنياهو في الخريطة التي رفعها في الجمعية العامة للأمم المتحدة تشمل غزة ولبنان وسوريا واليمن وإيران؛ وهي دول يمتدّ إليها النفوذ الإيراني الشيعي، لذا؛ فإنّ إسقاط الأسد على يد قوى سُنّية متشدّدة يعني الفصل بين كل من لبنان وإيران، وكذلك يعني تحجيم القوى الشيعية المتشدّدة في المنطقة، وإدخال القوتين في صراع جديد طويل ينهك الطرفين، ففي سوريا التي وإن كان هناك شيء من التفاؤل لدى بعض الأطراف حول مستقبلها في ظل هيئة تحرير الشام، وخاصة تركيا التي تسعى إلى استثمارها مع الجانب السعودي، غير أنّ التطوّرات تشير إلى أنّ الهيئة قد استلمت بلداً مدمَّراً ومنهكاً ومن دون قوة؛ خاصة بعد أن دمّرت إسرائيل امكانياتها العسكرية، إلى جانب أنّها، كقوى سلفية، لن تستطيع التوفيق في خلق توازن بين الثقافات والمكوّنات في سوريا، وبالتالي؛ ستدخل نفقاً مظلما مليئاً بالتحديات، خاصة أنّه ليس هناك تجانس بين الفصائل المشكّلة للهيئة من حيث الأهداف والأجندات، وإن كانت متّفقة في نقطة إسقاط النظام، ومع وجود فصائل مسلّحة أخرى يشهد لها تاريخها بالصراع البيني؛ كفصائل ما يُسمّى بالجيش الوطني المدعوم تركياً بشكل مباشر، وتسيطر تلك الفصائل على مساحات كبيرة من الأراضي السورية، ما يعني أنّه لا يستبعد، بل هناك احتمال كبير أن تشهد سوريا صراعاً فصائلياً ومذهبياً وعرقياً، قد ترتدّ بشكل مباشر على تركيا التي تشعر أنّها انتصرت، غير أنّه ربّما تكون أكثر مَن سيغرق في الرمال المتحركة مع هذه القوى السُّنّية الجهادية. في وقت ستتفرّغ فيه إسرائيل لتدمير ما تبقّى من محور ما يُسمى بالمقاومة في اليمن ومن ثم إيران (مركز القرار الشيعي)، ليكتمل مشروع نتنياهو الشرق الأوسط الجديد، ولخلق توازن ما بين العالم السُّنّي المتشدّد والشيعي المتشدّد؛ فوجود الكرد كقوة صاعدة سيكون ضرورياً لإسرائيل وللمشروع الغربي في الشرق الأوسط ، ففي سوريا التي لن تبقى مستقرّة فإنّ وجود منطقة أمنة في شمال شرق سوريا ستكون ضرورية للأمن الإقليمي والدولي؛ وذلك كي لا تتحوّل سوريا كلّها إلى سلطة الإسلام السُّنّي المتشدّد، وحاجز ما بين المدّين السُّنّي والشيعي.
إذاً؛ صياغة شرق أوسط جديد تستوجب وجود الكرد المستقلّين بأي شكل من أشكال الحكم أو الإدارة في سوريا، كما الحال في العراق ووجود إقليم كردستان (جنوب كردستان) شبه مستقلّ، بالإضافة إلى أنّ الاستهداف المباشر لإيران من قبل الغرب وإسرائيل سيفتح الطريق أمام شرق كردستان لتستقلّ بشكل من أشكال الإدارة كالفدرالية مثلاً؛ ما يعني أنّ تشكّل هذه الفدراليات أو الإدارات سيدخل بشكل طبيعي في خدمة الأمن والاستقرار الإقليميَّين؛ ولذلك أعتقد أنّ إسرائيل تقول عن الشعب الكردي أنّه حليف طبيعيّ؛ فوجود فدراليات كردية إلى جانب كيانات سُنّية وشيعية ضعيفة ومتخوّفة من بعضها بعضاً، لن يشكل سوى سهولة بالنسبة لإسرائيل في قيادة الشرق الأوسط الجديد الذي يعمل نتنياهو على بنائه؛ فهل تركيا بعيدة عن هذا التغيير.
سيتحقّق ماتتخوّف منه تركيا
قد تكون خارطة إسرائيل حول الشرق الأوسط الجديد لم تشمل تركيا، وقد بقيت على لونها الطبيعي بعيدة عن السواد الذي لون به نتنياهو إيران والدول الأخرى، لكن؛ هل ستبقى تركيا بعيدة عن التغيير وهل ستبقى على شكلها الحالي إذا لم تعترف بالقضية الكردية وتحلّها؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ هناك مشروع الشرق الأوسط الجديد، والذي يعمل عليه وبتخطيط عميق الغرب وإسرائيل، وقد اعتبر أردوغان نفسه الرئيس المشارِك لهذا المشروع، غير أنّه من الواضح أنّ أردوغان قد فشل في هذا الدور؛ حيث عمل طوال الفترة الماضية وحتى الآن على تامين حصّته من المشروع وعلى حساب المشروع نفسه، لذا؛ فإنّه يشعر اليوم، وبعد تولّي إسرائيل دفّة عملية التغيير، أنّه مُستهدَف أيضاً ضمن عملية التغيير في الشرق الأوسط، ولذلك يفعل كلّ ما من شأنه أن يُبعد عجلة التغيير عن تركيا وبأقلّ الخسائر؛ فبعد أن رسّخ علاقاته مع كلّ من روسيا وإيران، وتحدّى إسرائيل والغرب، مستغلّاً أهمية الدولة التركية كحليف للناتو وموقعها الجيواستراتيجي، انقلب أردوغان فجأة انقلاباً كلّياً باتّجاه الغرب من جديد، وقد شكّل قيام هيئة تحرير الشام بعملية “ردع العدوان”، وإنهاء النفوذَين الإيراني والروسي نقطة تحوّل بالنسبة لتركيا، فقد خسرت تركيا الحليفَيين وفي الوقت نفسه لم تستطع إقناع الغرب وإسرائيل باستدارتها أو كسب ثقتهما من جديد، لذا؛ نشهد اليوم إصراراً تركياً على احتلال مدينة كوباني ومناطق أخرى من شمال وشرق سوريا على الرغم من الممانعة الغربية لذلك وكذلك رغم التصريحات الإسرائيلية المتتالية حول ضرورة حماية الكرد، بالإضافة إلى تهديدات الكونغرس الأمريكي بفرض عقوبات على تركيا؛ وذلك الإصرار التركي ما هو إلا سعي تركيّ لضمان عدم انتقال التغيير إلى حدودها، فحديث المسؤولين الأتراك عن إطلاق سراح السيد عبد الله أوجلان وإنهاء الصراع المسلّح ومن ثم البحث عن حلول أو توافقات ليس صُدفة؛ وإنّما هو تمهيد تركي لتجنّب ما ستأتي من تطوّرات إلى المنطقة ما بعد سقوط الأسد وشعور كلّ من إيران وروسيا بالخديعة التركية.
تركيا اليوم تعيش حالة من الانفصام والخشية وعدم اليقين من إمكانية أن تبقى حليفاً موثوقاً للغرب، ولا أن تقنع الشرق أيضا بنواياها وجدّية علاقاتها، قد تكون تركيا قد نجحت خلال الفترة الماضية في استثمار أهميتها للشرق والغرب للاستفادة من كليهما في تحقيق بعض أجنداتها؛ ولكنّها حاليا وفي الوقت الذي شعرت فيه أنّ واضعي مشروع الشرق الأوسط الجديد ومخطّطي النظام العالمي الجديد لن يتهاونوا مع أيّة عرقلة لمشاريعهم، قفزت من السفينة الروسية ومن دون أن تلحق بالسفينة الغربية؛ فبقيت مُعلّقَة ما بينهما ولا تدرك كيف سيكون مصيرها.
لذا؛ وإن كانت تركيا خارج خارطة نتنياهو في التغيير فإنّها لن تكون خارج التغيير بحدّ ذاته، خاصة أنّها لا تتجرّأ حتى الآن على حلّ القضية الكردية داخل حدود تركيا، وبدلاً من ذلك تحارب القضية الكردية خارج حدودها؛ في محاولة منها للهرولة أمام قطار التغيير الذي لن يتوقّف، وتركيا لن تستطيع الاستمرار في الهرولة للابد، فإمّا أن تستمرّ في إعاقة المشاريع الغربية في المنطقة كي لا تتاثّر بها، وبذلك ستتحوّل إلى مُستهدَف من قبل الغرب نفسه، أو أنّها سترضخ لهذه المشاريع التي لن تُبقي الكرد خارج المعادلة، وبالتالي؛ لا بدّ لها من إيجاد حلّ للقضية الكردية داخل تركيا.
إنّ تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، وفقا لما هو مرسوم، وحصول الكرد على حقوقهم في الدول المستهدَفة، كإيران وسوريا، سيضع تركيا أمام احتمالَين؛ فإمّا أن تَتَغيَّر أو أن تُغيَّر؛ فعلى الرغم من أنّ تركيا تعتبر نفسها محصَّنة بوجه التغيير إلّا أنّها قد خلقت أعداء كثر حول نفسها، وليس أبعدهم روسيا وإيران اللتَين ربما لن تنسيا الخداع التركي لهما في سوريا، ولكن؛ كيف ومتى سيكون الانتقام الروسي والإيراني؟ وما الذي يمهّدانه لتركيا؟ فالشرق الأوسط منطقة صراع مفتوحة على كل الاحتمالات، ويُتوقَّع فيها حدوث ما هو غير مُتوقَّع في أي بقعة، فقد يجد المنتصر فيها أنّه الخاسر الأكبر.
ماذا نستشف من كل ذلك؟
إسرائيل هي التي تقود الشرق الأوسط نحو التغيير وفقا لمشروع الشرق الأوسط الجديد، ولن تتوقّف عند الحدود السورية، إنّما ستمضي نحو التغيير في العراق وإيران أيضا بعد تحييد اليمن، لذا؛ فإنّ ماحدث من استلام هيئة تحرير الشام للحكم في سوريا، ما هو إلّا نهاية مرحلة أولى من الصراع الذي لن ينتهي، بل سيدخل مرحلة جديدة، وهي مرحلة الفوضى والصراع بين الفصائل، وإشغال العراق والمليشيات الشيعية هناك بالمخاوف من المدّ السُّنّي المتطرّف، لحين الانتهاء من الترتيبات الأخرى استعدادًا لاستهداف إيران.
ستسعى تركيا بكل إمكانياتها لمنع قيام أي كيان أو أي شكل من أشكال الإدارة للكرد في روج آفا، ولأجل ذلك ستحتفظ قدر الإمكان بالفصائل التي تسخّرها كأدوات ضد الإدارة، وستسعى للاستفادة من الحكومة الجديدة في دمشق وتمتين روابطها معها، وستعزّز من نفوذها في دمشق كورقة مساومة مع أمريكا والغرب لإيقاف الدعم عن قوات سوريا الديمقراطية، وتقديم نفسها كلاعب متحكّم بالفصائل الإرهابية، وكمنفّذ للأجندات الغربية.
الدعوات لسورية موحّدة بحكومة مركزية تتحكّم بها فصائل الإسلام السياسي والتي تروّج لها تركيا كثيراً، قد تخدم مرحلياً إسرائيل والغرب في الضغط على المحورالشيعي الذي لا يزال قوياً في العراق، غير أنّها لن تخدم مشروع الشرق الأوسط الجديد، ولا إسرائيل في الفترة القريبة، ولن تكون في مصلحة الغرب ولا في مصلحة الأمنَين الإقليمي والدولي، إذ ستكون سبباً لعودة الصراع والاقتتال الأهلي الذي لن يكون محصوراً، إن حدث، داخل الحدود السورية، وإنّما سيمتد إلى الدول الأخرى.
وجود فيدرالية أو إدارة ذاتية في شمال وشرق سوريا هي ضمان وعامل توازن في المنطقة؛ لذا؛ نجد كثرة الحديث من مراكز القرار في الغرب وأمريكا حول الكرد والقضية الكردية وضرورة حماية الكرد في سوريا.
ما بعد سوريا واليمن ستشهد العراق عملية إزاحة المليشيات من المشهد العراقي، وعزل إيران تماماً عن أجنحتها المتهالكة، لتكون إيران هي الهدف الأساسي، فبإسقاط نظامها أو إضعافها لن تجد نفسها إلا أمام التشظّي وبروز الأقلّيات والشعوب المقموعة داخلها للمطالبة بإيران لا مركزية أو مُقسَّمة، وظهور شرق كردستان كجزء آخر من كردستان قد يشهد الحرية.
ما بعد تحقيق خارطة الشرق الأوسط الجديد المرسومة إسرائيليا، ستجد تركيا، الساعية لبناء الإمبراطورية العثمانية، من جديد نفسها أمام أمواج التغيير، وانتهاء دورها كقوة إقليمية ساهمت أحياناً وزعزعت أحياناً عملية التغيير في الشرق الأوسط؛ لتكون هي موضوع التغيير نفسه.
المرحلة الحالية ستشهد تعرّض الكرد كثيراً للتضييق والهجمات والتشويه، وقد يتعرّضوا لمجازر جديدة، خاصة على يد الدولة التركية، كمخاضٍ لولادة إقليم روجافا الذي تعدّى كلّ مرحلة من مراحل تطوّره كولادة قيصرية.
[1] https://www.zamanarabic.com/2024/11/18/%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a7-%d9%88%d8%aa%d8%b1%d9%83%d9%8a%d8%a7-%d9%88%d9%81%d8%b1%d8%b5%d8%a9-%d8%a3%d8%ae%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d9%84%d9%84%d8%af%d8%a8%d9%84%d9%88%d9%85%d8%a7%d8%b3%d9%8a%d8%a9/.[1]