لماذا نشرت قناة NBC الخبر الكاذب حول احتمالية سحب إدارة ترامب للقوات الأمريكية من سوريا؟ ومن يقف خلفها؟
#محمود عباس#
الحوار المتمدن-العدد: 8245
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
لا شك أن نشر مراسلة قناة NBC كورتني كوب، لخبرٍ زائفٍ حول احتمال سحب القوات الأمريكية من سوريا لم يكن عشوائيًا، بل كان جزءًا من مخططٍ أوسع تقف وراءه تركيا، عبر لوبياتها في الولايات المتحدة، وبدعمٍ مباشرٍ من إدارة أردوغان، وعلى الأرجح حصلت على مبلغ محترم.
تهدف أنقرة من خلال هذه الدعاية إلى الترويج لفكرة تخلي الولايات المتحدة ودول التحالف عن الكورد وقواتهم، مما يخلق حالة من الارتباك السياسي، ويضعف الموقف الكوردي إقليميًا ودوليًا. ولم يكن مفاجئًا أن تلقفت القنوات العربية هذا الخبر بسرعةٍ، كردّ فعلٍ على الحوارات والاتفاقيات التي جرت بين ترامب ونتنياهو حول المنطقة، رغم أن هذه القنوات لا تزال تبحث عن خلفيات الخبر ومدى مصداقيته، إذ لم يؤكده أي مصدر رسمي بعد.
لمن لا يتذكر، قبل قرابة عامين، نشرت إحدى المواقع التركية دعايةً مبنيةً على مقالةٍ مماثلة لهذه، كتبها أحد الصحفيين الأمريكيين المغمورين، الذين يكتبون لقاء حفنةٍ من الدولارات، بأن أمريكا ستتخلى عن الإدارة الذاتية ولن تعارض رغبة تركيا بالسيطرة على الخط الحدودي وبعمق 30 كيلو متر وغيرها من الترهات، وكان الهدف التضليل السياسي وخلق حالة من الهلع والارتباك بين الشعب في غربي كوردستان، ومحاولةٍ لصناعة رأيٍ أمريكيٍّ يتماشى مع المصالح التركية. لم يكن لهذا الصحفي أي باعٍ في السياسة الدولية، ولم يسبق له الكتابة حول المنطقة، مما يثير الشكوك حول أن المقالة نفسها قد تكون مكتوبةً بأقلامٍ تركيةٍ، ثم نُشرت باسمه في الموقع الأمريكي لتكتسب مصداقيةً.
حينها، للأسف، سقطت إحدى القنوات الكوردية المعارضة للإدارة الذاتية في الفخ، وسلطت الضوء على المقالة، معتبرةً أنها تحليلٌ أمريكيٌّ مهمٌّ، رغم أنها لم تكن سوى جزءٍ من دعايةٍ تركيةٍ رخيصةٍ. عندما تمت دعوتي إلى القناة للحوار حولها، بينت لهم الخطأ الفادح في الترويج لمثل هذه الخدع الإعلامية، وأوضحت أن المقالة كانت مليئةً بالأخطاء السياسية، وتخدم أجندةً معاديةً للكورد وليست للإدارة الذاتية، المفارقة أن من ترجمها ونشرها أولًا كان اللوبي التركي، ما يثبت أنها لم تكن سوى جزءٍ من لعبةٍ إعلاميةٍ مكشوفةٍ.
اليوم، تعيد تركيا نفس التكتيك، لكن بأسلوبٍ أكثر تعقيدًا وخبثًا، وعلى سوية إعلامية أعلى، عبر تحريك لوبياتها داخل وسائل الإعلام الأمريكية، ودفع قناة NBC، التي تتمتع بمصداقيةٍ في الأوساط الديمقراطية، لنشر الأكذوبة. هذه القناة، رغم مكانتها، إلا أنها تحمل توجهًا ديمقراطيًا، وقد تأثرت بالتغييرات التي أجراها ترامب في البيت الأبيض، مما جعلها بيئةً مناسبةً لاستغلالها في هذا السياق، كما أشار إليه الأخت أمينة بريمو في تعليقها على المقال السابق.
والآن، لننتقل إلى متن الخبر، ونتساءل: من أين صدر؟ وعلى ماذا استندت؟
1. استندت المراسلة في تقريرها إلى مسؤولين في البنتاغون، لكنها لم تذكر أسماءهم، مما يثير تساؤلاتٍ حول مصداقية المصدر. كما أشارت في مقالها إلى أن مستشار الأمن القومي لترامب، مايك والتز، أمضى بعض الوقت في مركز القيادة الوسطى في تامبا، بولاية فلوريدا، حيث ناقش قضايا تتعلق بالشرق الأوسط. ورغم ذلك، نقلت عن المتحدثة باسم البيت الأبيض تأكيدها بأن مسألة سحب القوات الأمريكية أو تخفيض عددها لم تكن ضمن المواضيع التي ناقشها هناك.
2. تدّعي المراسلة في الخبر أن الولايات المتحدة كانت قد أضافت بشكلٍ مؤقتٍ 1100 جندي إلى قواتها المتواجدة في سوريا، وأنه قد تتم إعادتهم خلال فترة تتراوح بين شهر وثلاثة أشهر. لكن هذا الطرح يكشف ضبابية الخبر، حيث إن استخدام احتمالاتٍ زمنيةٍ متباينةٍ يعكس عدم وجود معلوماتٍ دقيقةٍ، ويُظهر أن التقرير يفتقر إلى أساسٍ قوي.
3. ورغم هذه الضبابية، تؤكد المراسلة أن 900 جندي أمريكي، وهم العدد الأساسي للقوات المتواجدة في سوريا، لن يتم سحبهم، كما لم يتم طرح أي احتمالٍ لسحبهم خلال العام المقبل على الأقل. واللافت أنها لم تتطرق مطلقًا إلى وضع القواعد العسكرية الأمريكية، مما يعكس تناقضًا في طريقة عرض الخبر.
4. وللتغطية على هشاشة تقريرها، لجأت إلى اقتباس ردّ ترامب على سؤالٍ طرحه عليه أحد الصحفيين حول الموضوع، حيث أجاب: لا أعرف من قال لك ذلك. وهو تصريحٌ يتعارض تمامًا مع ما زعمت المراسلة في تقريرها، مما يكشف ضعف مصداقية الخبر، ويؤكد أنه جزءٌ من حملة تضليلٍ إعلاميٍّ مدفوعةٍ الأجر.
لا يقتصر الهدف التركي من نشر هذه الدعاية على تضليل الرأي العام، بل تسعى أنقرة لتحقيق عدة مكاسب استراتيجية:
1. إثارة الإشكالات داخل الأوساط السياسية الأمريكية، ودفع بعض السياسيين إلى طرح فكرة سحب القوات الأمريكية من سوريا، بحجة أن وجودها يتعارض مع مصالح تركيا، التي تُعتبر دولةً مهمةً في الناتو.
2. التشويش على نتائج الحوار بين نتنياهو وترامب، ولهذا صدر الخبر في اليوم الذي تم فيه الاتفاق بينهما، إذ تدرك أنقرة أن هذه الاتفاقيات تضر بمصالحها في المنطقة أكثر من أي دولةٍ أخرى.
3. منع أي خطوةٍ أمريكيةٍ لدعم القوات الكوردية سياسيًا، حيث ترى تركيا أن أي اعترافٍ أمريكيٍّ بالإدارة الذاتية الكوردية هو تمهيدٌ لتكريس نظامٍ فيدراليٍّ في سوريا، وهو ما تسعى بكل الطرق إلى عرقلته.
تركيا في مواجهة مستقبلٍ مظلم، بين التقسيم أو القبول بالحل الكوردي.
لم يعد خافيًا أن تركيا باتت تدرك حقيقة الواقع السياسي الجديد في المنطقة، وتعيش هاجسًا متزايدًا من أن الأمور تسير نحو إحدى ثلاث سيناريوهات كارثية بالنسبة لها:
1. اتجاهها نحو التقسيم، نتيجة تصاعد القضية الكوردية داخليًا وخارجيًا، خاصةً مع استمرار سياساتها القمعية ضد الكورد داخل تركيا نفسها.
2. تكرار السيناريو السوري داخلها، حيث تخلق سياسات أردوغان المتطرفة بيئةً خصبةً لتوتراتٍ داخليةٍ قد تؤدي إلى اضطراباتٍ مشابهةٍ لما حدث في سوريا.
3. الخضوع للضغوط الدولية، والاضطرار إلى الاعتراف بالحقوق الكوردية، عبر الدخول في حوارٍ جادٍ مع الإدارة الذاتية، والتخلي عن دعم التنظيمات المصنفة على قوائم الإرهاب في الولايات المتحدة، وأوروبا، وإسرائيل.
على الكورد اليوم أن يكونوا أكثر وعيًا بهذه اللعبة الإعلامية القذرة، وألا يسمحوا لتركيا باستخدام وسائل الإعلام العالمية لخلق حالةٍ من الهلع السياسي. الأكاذيب لن تغير الحقائق على الأرض، والولايات المتحدة تعرف جيدًا أن وجودها العسكري في سوريا لا يرتبط فقط بالكورد، بل بأمنها القومي، واستراتيجيتها في الشرق الأوسط، وهو ما يجعل فكرة الانسحاب مجرد وهمٍ تروج له أنقرة لتحقيق مكاسب تكتيكية قصيرة الأمد.
إن معركتنا ليست فقط على الأرض، بل في الوعي السياسي والإعلامي، ولن تسقط المشاريع الكوردية بسبب حملةٍ إعلاميةٍ مضللة، بل بسبب عدم إدراك حجم اللعبة والتفاعل معها بوعيٍ واستراتيجيةٍ حكيمة.
ونأمل من مراكز الإعلام الأمريكية، ومن أمثال المراسلة كورتني كوب، عدم تأجيج الخلافات في الشرق الأوسط، والانتباه إلى خطورة دعم الأنظمة الدكتاتورية والعنصرية، مثل تركيا، التي ترعى الإرهاب لتحقيق مصالحها، وتستخدم أدواتها للطعن في المصالح الأمريكية والأوروبية في المنطقة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية[1]