الإعلان الدستوري الجديد.. تكريس للاستبداد وإقصاء للتعددية السوريّة
محمد عيسى
في الوقت الذي كان فيه السوريون ينتظرون بداية مرحلة جديدة، تُبشِّر بإرساء نظام سياسي يُكرّس حقوق جميع الشعوب، ويؤسس لدولة ديمقراطية قائمة على مبدأ المواطنة المتساوية، جاء الإعلان الدستوري الجديد الذي وقّعه رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع في #13-03-2025# ، ليُشكل صدمة قاسية ويؤكد مخاوف السوريين من إعادة إنتاج الاستبداد بصيغة جديدة.
رغم الشعارات التي رفعتها الإدارة المؤقتة في دمشق عن الإصلاح والتغيير، إلا أن المسودة الدستورية الجديدة جاءت نسخة مشوّهة من دستور عام 2012 الذي صاغه النظام السوري السابق بقيادة بشار الأسد، مع بعض التعديلات الشكلية التي لم تمسّ جوهر الأزمة. حافظت المسودة على النظام المركزي، وأبقت على المادة التي تنصّ على أن يكون رئيس الدولة مسلمًا، وتجاهلت مطالب الشعوب السوريّة الأخرى، في خطوةٍ اعتبرها الكثيرون استمرارًا لنهج الإقصاء والتهميش.
ديمقراطية مُزيفة وإقصاء ممنهج
لم يكن الإعلان الدستوري سوى إعادة إنتاج لمنظومة الحكم المركزي التي سادت سوريا لعقود، حيث لم يأتِ بجديدٍ يُذكر سوى تثبيت هيمنة السلطة التنفيذية وإقصاء القوى المجتمعية والسياسية الأخرى من أي دور حقيقي في صنع القرار. فعلى الرغم من احتوائه على بعض المواد التي تنصّ على مبادئ مثل تكافؤ الفرص، وحرية الإعلام، واستقلال القضاء، إلا أن هذه البنود بقيت مجرد شعارات شكلية لا أثر لها على أرض الواقع، في ظل هيمنة مطلقة لرئيس المرحلة الانتقالية على جميع مفاصل الدولة.
الإعلان لم يقتصر على إعادة إنتاج النظام المركزي، بل تجاهل الهوية المتعددة لسوريا، حيث نصّ صراحةً على أن الجمهورية السورية “عربية”، في خطوة تعكس استمرارية نهج الإقصاء الذي لطالما مارسته الأنظمة السابقة. فقد تم تجاهل الوجود التاريخي للشعوب الكردية، والآشورية، والسريانية، والأرمنية، والشركسية، والتركمانية، وغيرها من الشعوب التي سكنت سوريا منذ آلاف السنين وساهمت في تشكيل هويتها الثقافية والاجتماعية. والأخطر من ذلك، أن الإعلان الدستوري جعل اللغة العربية اللغة الرسمية الوحيدة للدولة، متجاهلًا تمامًا التعددية اللغوية والثقافية التي تميّز سوريا، والتي تعدُّ إحدى ركائز هويتها الغنية.
لكن الأخطر من ذلك كله، هو القيود الصارمة التي فرضها الإعلان على الحياة السياسية. فبدلًا من أن يكون هذا الدستور المؤقت خطوة نحو تعزيز الحريات السياسية، جاء ليُقيّد العمل السياسي بشكلٍ غير مسبوق، حيث نصّ على تعليق أنشطة الأحزاب وتجميد تشكيلها إلى حين إصدار قانون جديد ينظمها، وهو ما يعني فعليًا فرض حالة من الجمود السياسي، ومنح السلطة التنفيذية سيطرة مطلقة على المشهد السياسي دون أي معارضة حقيقية. وفي إطار تكريس هذا التفرّد بالحكم، منح الإعلان الدستوري رئيس المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، صلاحيات واسعة في تعيين أعضاء مجلس الشعب المؤقت، الأمر الذي يحوّل المجلس إلى مجرد هيئة صورية خاضعة لإرادة السلطة التنفيذية، بدلًا من أن يكون ممثلًا حقيقيًا لإرادة الشعب. بهذا، تصبح فكرة فصل السلطات مجرد وهم، حيث تندمج السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية في يد شخص واحد، ما يعيد إنتاج أنماط الحكم الاستبدادية التي حكمت سوريا لعقود.
إن هذه الخطوات لا تعبّر إلا عن محاولة لإعادة إنتاج النظام القديم بأساليب جديدة، حيث يتم تسويق “إصلاحات شكلية” لا تمسّ جوهر المشكلة، بل تعزز من قبضة السلطة على مفاصل الدولة، وتُبقي على الهيمنة المطلقة لمركز القرار في دمشق، متجاهلةً تمامًا تطلعات السوريين في بناء نظام سياسي ديمقراطي يضمن حقوق الجميع دون تمييز.
إجماع على رفض الإقصاء والاستبداد
أثار الإعلان الدستوري موجةً عارمةً من الغضب والرفض في مختلف المناطق السورية، حيث اعتبرته القوى السياسية والاجتماعية خيانةً لتطلعات السوريين في بناء دولة ديمقراطية عادلة، وفرصةً ضائعة لإنهاء عقودٍ من الحكم الاستبدادي المركزي. جاء هذا الإعلان ليعمّق الانقسامات بدلًا من أن يكون خطوةً نحو المصالحة الوطنية، إذ تجاهل حقوق الشعوب غير العربية، وفرض رؤيةً أحادية تتعارض مع التنوع الثقافي والعرقي الذي تتميز به سوريا.
في 15 آذار أعلن مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) رفضه القاطع لهذا الإعلان، مؤكدًا أنه ليس إلا “إنتاجًا جديدًا للاستبداد بصيغةٍ مختلفة”، حيث يكرّس الحكم المركزي، ويمنح السلطة التنفيذية صلاحياتٍ مطلقة، بينما يقيد الحريات السياسية، ويجمّد تشكيل الأحزاب، مما يعطّل أي مسارٍ حقيقي للتحول الديمقراطي. وأكد مسد أن أي إعلان دستوري يجب أن يكون وليد توافق وطني شامل، وليس مشروعًا مفروضًا من طرفٍ واحد يسعى لتكريس هيمنته على الدولة والمجتمع.
وشدد المجلس على ضرورة إعادة صياغة الإعلان بما يضمن تمثيل جميع الشعوب السوريّة وضمان حقوقها، واعتماد نظام حكم لا مركزي ديمقراطي يحقق توزيعًا عادلًا للسلطة، ويؤسس لمرحلةٍ جديدة مبنية على الشراكة السياسية، مع وضع آليات واضحة لتحقيق العدالة الانتقالية، لتجاوز إرث الانتهاكات التي عانى منها السوريون لعقودٍ. لكن؛ المعارضة لم تقتصر على القوى الديمقراطية فقط، فقد واجه الإعلان معارضةً قويةً من الأحزاب السياسية ذات الطابع القومي والديني، حيث اعتبر الحزب الآشوري الديمقراطي أن الإعلان الدستوري الجديد هو محاولةٌ واضحة لإقصاء الشعوب غير العربية، وإعادة إنتاج سياسات التهميش التي طالما عانى منها الآشوريون والسريان وغيرهم من الأقليات القومية، ورأى الحزب أن هذه الخطوة تكرّس التفرّد والاستئثار بالقرار السياسي، وتُعيد إنتاج النظام المركزي الذي لطالما همّش وجودهم الثقافي والسياسي.
من جهته، أصدر حزب الاتحاد السرياني بيانًا شديد اللهجة وصف فيه الإعلان الدستوري بأنه “إعلان عن مرحلةٍ غير مستقرة”، محذرًا من أن هذه الخطوة لن تُسهِم في تحقيق الانتقال الديمقراطي، بل ستؤدي إلى المزيد من الانقسامات والتوترات، وأكد الحزب أن فرض رؤيةٍ أحادية على المشهد السياسي سيقوّض أي فرصةٍ لتحقيق الاستقرار، مشيرًا إلى أن أي عملية دستورية يجب أن تكون شاملةً وتعكس إرادة كل السوريين، لا أن تكون مفروضةً بقرارٍ فوقي يهدف إلى إعادة إنتاج النظام السابق بأسلوبٍ جديد.
يتضح من هذا الرفض الواسع أن الإعلان الدستوري لم يُلبِّ الحد الأدنى من تطلعات السوريين في بناء دولةٍ عادلة وديمقراطية، بل جاء ليعمّق أزمتهم السياسية، ويعيد إنتاج منظومة الحكم المركزي، مما يجعل تحقيق الاستقرار والسلام في سوريا أمرًا بعيد المنال.
غضب شعبي واسع
لم تقتصر ردود الفعل على البيانات السياسية الصادرة عن الأحزاب والقوى الوطنية، بل امتدت إلى الشارع، حيث خرجت مظاهرات حاشدة في مختلف المدن السوريّة، خصوصًا في شمال وشرق البلاد، رفضًا للإعلان الدستوري الذي اعتبره السوريون نكسةً جديدة في مسار التحول الديمقراطي، ومحاولةً لفرض نظام مركزي لا يعترف بتنوع البلاد العرقي والديني.
في مدينة قامشلو، شهدت الشوارع احتجاجات ضخمة، حيث رفع المتظاهرون شعاراتٍ تندّد بالنهج الإقصائي للمسودة الدستورية، وتؤكد على ضرورة الاعتراف بجميع الشعوب السورية، بدلًا من فرض هويةٍ أحادية لا تعكس الواقع الحقيقي للبلاد، وعبّر المتظاهرون عن رفضهم القاطع لهذا الدستور، واصفين إياه بأنه “غير شرعي”، كونه لا يعبّر عن إرادة الشعب، ولا يأخذ بعين الاعتبار التعددية القومية والدينية التي تشكّل النسيج السوري.
أما في مدينة عامودا، فقد شهدت احتجاجات مماثلة، حيث اعتبر الأهالي أن الدستور الجديد يُعيد إنتاج سياسات البعث بصيغةٍ أخرى، ولا يختلف عن الدساتير التي وضعها الأسد الأب والابن لترسيخ حكمٍ شمولي مركزي قائم على الإقصاء والاستبداد، وعبّر المتظاهرون عن قلقهم من أن هذا الإعلان سيمهد الطريق لإعادة الديكتاتورية، ولكن بوجوهٍ جديدة، بدلًا من التأسيس لدولةٍ ديمقراطية عادلة تحترم حقوق جميع السوريين، وطالب المحتجون بصياغة دستور جديد منبثق عن توافق وطني حقيقي، يستند إلى مبادئ الديمقراطية، ويضمن مشاركة جميع الشعوب السوريّة في حكم بلادهم، دون تهميش أو إقصاء.
أما في مدينة الحسكة، فقد خرج الآلاف من المواطنين في مظاهراتٍ غاضبة، مرددين هتافات تطالب بإسقاط الإعلان الدستوري ورفض إعادة إنتاج حكمٍ مركزي مستبد، وندّد المتظاهرون باللغة الإقصائية التي تبناها الدستور الجديد، والتي تتجاهل وجود الشعوب غير العربية، وتكرّس سياسة التهميش والتمييز التي عانت منها الأقليات لعقود. كما طالب المحتجون بحقوقٍ متساوية لجميع السوريين، وضرورة الاعتراف بالتنوع الثقافي واللغوي والديني في الدستور القادم، بدلاً من فرض صيغةٍ أحادية لا تتناسب مع واقع سوريا اليوم.
المظاهرات التي اجتاحت هذه المدن لم تكن مجرد تعبير عن رفضٍ سياسي، بل كانت رسالة واضحة إلى الإدارة المؤقتة في دمشق بأن أي دستور يتم فرضه دون توافق وطني، لن يُكتب له النجاح، وأن الشعب السوري لن يقبل بإعادة إنتاج أنظمة الحكم الشمولية التي ثار ضدها.
أزمة جديدة أم فرصة ضائعة؟
بدلًا من أن يكون الإعلان الدستوري خطوةً نحو حلّ الأزمة السوريّة ووضع أسسٍ حقيقيةٍ للمصالحة الوطنية، جاء بمثابة شرارةٍ أشعلت موجةً جديدةً من التوترات السياسية والاجتماعية، مُعززًا الانقسامات بدلاً من معالجتها، فبدلاً من أن يحمل بصيص أملٍ للسوريين الذين ضحّوا لعقودٍ طويلةٍ للخلاص من الاستبداد وبناء دولةٍ تقوم على المواطنة المتساوية والعدالة والديمقراطية، جاء هذا الإعلان ليعيد إنتاج العقلية الإقصائية نفسها التي لطالما كانت سببًا في الأزمات المتلاحقة التي مرت بها البلاد.
إن إصرار الإدارة المؤقتة في دمشق على فرض رؤيتها الأحادية، ورفضها الاعتراف بحقوق جميع الشعوب السوريّة، سيؤدي حتمًا إلى مزيدٍ من الانقسامات السياسية والمجتمعية، وربما يدفع البلاد إلى صراعٍ جديد تكون عواقبه أكثر كارثية مما سبق. فقد أثبت التاريخ السوري أن أي محاولةٍ لفرض نظامٍ سياسي دون توافق وطني شامل، مصيرها الفشل، بل إنها تفتح الباب أمام مزيدٍ من النزاعات والانقسامات، مما يجعل تحقيق الاستقرار حلمًا بعيد المنال.
إن الإعلان الدستوري بصيغته الحالية لم يكن سوى خطوة أخرى على طريق إعادة إنتاج الأنظمة الاستبدادية، بدلًا من أن يكون انطلاقةً نحو مستقبلٍ ديمقراطي يلبّي طموحات السوريين، وإذا لم يتم تدارك هذا الخطأ، فإن سوريا ستظل عالقة في دوامةٍ من الأزمات السياسية والاجتماعية، حيث يتم استبدال الأنظمة دون أي تغييرٍ جوهري في طبيعة الحكم أو في الحقوق الأساسية للمواطنين.
صياغة دستور حقيقي لسوريا لا يمكن أن تكون عمليةً أحادية الجانب، بل يجب أن تكون شاملةً، تشارك فيها جميع الشعوب السوريّة، وتعتمد على مبادئ الديمقراطية واللامركزية، لضمان حقوق الجميع دون تمييز، فالتنوع الثقافي والقومي والديني ليس عائقًا أمام بناء الدولة، بل هو ثروةٌ يجب أن تكون أساسًا لنظامٍ ديمقراطي تعددي حديث، يُنهي عقودًا من القمع والاستئثار بالسلطة.
ما تحتاجه سوريا اليوم ليس مجرد تغييرٍ في الوجوه أو إعادة توزيع للسلطة بنفس العقلية القديمة، بل رؤيةٌ سياسيةٌ جديدة، قائمة على التعددية، والمساواة، والعدالة، والاعتراف الكامل بحقوق جميع الشعوب، دون إقصاءٍ أو تهميش. وإلا، فإن المستقبل لن يكون إلا تكرارًا مأساويًا للماضي بكل أزماته، مما يُبقي البلاد في حالةٍ من الجمود السياسي والصراعات المستمرة، ويفوّت فرصةً تاريخيةً لبناء دولةٍ حديثة تُحترم فيها حقوق الجميع، دون تمييزٍ أو استبداد.[1]