لا نُبصِر في الطريق المنير سوى عفرين… بل وضحايا شوقنا لها
نسرين شيخو_
كلمات مُعلّقة ومخبأة في زوايا جدران المعتقلات في مدينتي التي استولى عليها قطيع من الذئاب المتوحشة، استغاثات مبللة بدموع الأطفال، صرخات أمهات قُتِل أبنائهن أمامهن، نحيب زوجات اعتُقِل أزواجهن، أرواح وأرواح تغفو في ترابها، كل هذا يجري في بلدي، كل هذا لم ينجح بوقف نبضات قلبٍ يخفق لأجل عفرين، حتى الطائرات الحربية التي ملأت سماءها في بداية العدوان، والأسلحة الثقيلة التي مزّقت وحوّلت الأجساد إلى أشلاء عجزت عن محو عفرين من ذاكرتنا، قد يعتقد الطغاة بأنهم انتصروا علينا عندما احتلوا أرضنا، ولكنهم لا يعلمون بأن الطوفان سيرتفع من “جيايي كورمينج”، وأنهم سَيلقون حتفهم، وأن أرض عفرين ستزأر لتنشق وتبتلع أولئك الحثالة الذين ذبحوا وقتلوا ونهبوا؛ لأن أرض عفرين الطاهرة لن تتحمل شناعة أفعالهم القبيحة مثل قلوبهم وعقولهم القذرة، وطالما هناك احتلال هناك مقاومة، وقوافل من الشهداء.
منذ 2018 وتحت أشجار الزيتون تتعالى الأصوات، اسمعونا، نحن حزينون، نحن جرحى، الزيتون ينزف دماً، الآهات تعلو، فرحنا ناقص، لا نستحق هذه المعاناة، ولا الاحتلال يليق بنا.
لكننا نقبل أن يكون التراب لحافنا، على أن نرضخ للمحتل واتباعه، بالرغم من إدراكنا التام بأننا سنفقد المزيد من الأطفال الأبرياء، وسيُحكَم على نسائنا بالإعدام ومنهن بالسجن المؤبد، ومنّا من سينجو من جنون القتل، والشجر، أتظن أن الشجر سَلِمَ من وحشيتهم، حتى الشجر في جغرافيتي نال حصته من الألم، لم يُشفِقوا عليها واقتلعوها من جذورها وأحرقوها، الأشجار التي تروي قصص أرضٍ قديمة وشعب عريق، لقد غيّروا ملامح طبيعة بلادي، أغرقوها في الظلام، ولكن ألن تُشرق الشمس بعد ليلٍ طويل، ألن يأتي الغد، أيظنون بأن كل أفعالهم هذه ستمر مرور الكرام، الغد حتماً آتٍ وستنجو مدينتي من الموت، وقوات تحرير عفرين لم تنتهِ.
لأن الأبناء الذين اقتبسوا من الزيتون وجبال عفرين شخصيتهم القوية والعنيدة والصلبة لم يضعوا نُصب أعينهم غير خياري التحرير والعودة، وفي القريب العاجل سيحققون ذلك، لأن بلادهم بانتظارهم وليس هناك متسع من الوقت للانهيار والندب، ولأننا من عفرين، من بلاد لا شيء قبلها ولا بعدها، مركز الكون، الحقيقة الوحيدة، بكل وضوح وأنانية مطلقة، لن نتنازل عن حقنا وأرضنا، نحن من نُعرف بعنادنا وإصرارنا على تحقيق ما نبتغيه ولو على قلع أعيننا وحرق أجسادنا وقطع أعناقنا بالمنجل نحن من عفرين، حي الزيتون، سيستمر نزيف الدم، وسنحمل نعوش المزيد من أصدقائنا على أكتافنا، ولن نمانع لو فقدنا أطرافنا، أو سُحِقت عظامنا، حتى يرتد عن مديتنا الألم، ويخرج منها الأوغاد، وما بيننا وبينهم ثأر طويل.
ألا يقولون بأن التأخير باللقاء يقتل المشاعر، لكن عندما يتعلق الأمر بعفرين، فتصبح هذه المقولة مجرد أبجدية مُصففة؛ لأن مشاعرنا تفيض، الشوق يشدنا نحوها، والألم يعتصر قلوبنا كلما طال ابتعادنا عنها، عصيّ على التجاوز، عصيّ على النسيان، لأننا نحبها بنهم، نحبها بغزارة، ولأنها عفرين تستحق أن ندفع عمرنا، كل عمرنا في سبيلها، حتى نستنشق نسمات الحرية التي تفوح من جبالها، وذات يوم سيلين لنا القدر ونعود إليها ونشعر بالوجود وأننا حقيقيون عندما نعانق أشجار الزيتون ونغفو على رمالها ونتمعن السماء لنقول “لم نعد نرغب بشيء، كانت غاية العمر وحققناها، وهي ستتكفل بإصلاح الحطام بداخلنا وتعيدنا أحياءً”.
رغم أني لا أحب تحويل أفكاري وما يجول في خاطري إلى كلمات تُكتب على سطر دفتر ما، أو تُنشر على صفحة من إحدى الصفحات الإلكترونية لأنني عدوة البوح، وأُفضل كبت الأشياء في داخلي، لكن كل ما في عفرين يدفعني لكسر هذه القاعدة، ويُحفزني على الكتابة، اكتبيني اكتبيني على الدفتر على الكتب على نافذة المنزل على بلور السيارات على أغصان الأشجار على الجدران، على المواقع، على الرمال، على جسدك، في الجرائد، تنهدني بصوت مسموع وأعلن عني بالسلاح والقلم، الندرة تليق بها الكتابة، والكتابة قليلة بحقها.[1]