يد واحدة نحو السلام، خطوات التعاون بين دمشق والإدارة الذاتية
سد المقاومة (تشرين) “رسالة وحدة وصمود”
إيمان العليان
في مشهد سياسي واجتماعي يتسم بالتعقيد والتحديات، يشهد المشهد السوري تطورًا مهمًا في العلاقة بين حكومة دمشق والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. فقد أُعلن مؤخرًا عن مجموعة من الاتفاقيات والخطوات العملية التي تهدف إلى تعزيز التعاون في مجالات حيوية، من أبرزها التعليم والخدمات الأساسية. هذه الخطوة تحمل دلالات عميقة على الرغبة المتبادلة في كسر الجمود السياسي، وتحقيق نوع من التفاهم المشترك الذي قد يكون حجر الأساس لبناء مرحلة جديدة من التعايش والسلام في البلاد.
التعليم كجسر للتقارب
واحدة من أبرز نتائج هذا التعاون هو افتتاح مراكز امتحان لطلاب شهادة التعليم الأساسي (الصف التاسع) والثانوية العامة (البكالوريا) في مناطق شمال وشرق سوريا، وهي خطوة غير مسبوقة في هذا السياق. هذا الإجراء يعكس التزامًا واضحًا من الطرفين بحق الطلاب في التعليم كحق أساسي من حقوق الإنسان، بغض النظر عن الانتماءات السياسية أو الجغرافية.
تم تنظيم الامتحانات تحت إشراف لجان مختصة من وزارة التربية، ما يعزز من الشفافية ويضمن عدالة التقييم. وقد أُنشئت هذه المراكز في مناطق متعددة مثل “قامشلي، الحسكة، دير الزور، الطبقة، الرقة، ومنبج” ما يسهل على آلاف الطلاب أداء امتحاناتهم دون الحاجة إلى التنقل لمناطق خارج مناطقهم، هذه الخطوة تمثل انطلاقة حقيقية نحو الاعتراف المتبادل وتغليب مصلحة المواطن على النزاعات الإدارية.
التحديات والنيات المعطِّلة
بطبيعة الحال، لا يخلو هذا المسار من العقبات. هناك أصوات تحاول تقويض أي مبادرة للتقارب، سواء من خلال بث الشائعات أو محاولة تعطيل تطبيق الاتفاقيات على الأرض. وتكمن خطورة هذه التحديات في أنها لا تُضعف فقط مسار التعاون، بل تعرقل أيضًا مساعي آلاف السوريين الذين يتطلعون إلى مستقبل أفضل عبر سياسات تجمع ولا تفرق.
إلا أن الإرادة السياسية التي أظهرتها القيادات في كلا الطرفين تمثل صمام أمان حقيقي لهذه الخطوات، حيث يؤكد الجانبان في تصريحات متكررة على التزامهما بتجاوز العقبات، والعمل معًا من أجل الصالح العام.
نماذج ناجحة: الشيخ مقصود والأشرفية
ما حدث في حيَّي الشيخ مقصود والأشرفية بمدينة حلب يُعد نموذجًا حيًّا على إمكانية نجاح هذه الاتفاقيات على أرض الواقع. فقد شهد الحيان زيارات متبادلة بين المسؤولين من الطرفين، نتج عنها تحسينات في البنية التحتية وتطوير الخدمات الصحية والتعليمية. كما أسفرت هذه اللقاءات عن تشكيل لجان متابعة مشتركة، تراقب سير العمل وتُعالج المشكلات الطارئة، وهو ما عزز من الثقة بين الجانبين.
تُعتبر هذه التجربة دليلاً ملموسًا على أن التعاون ليس حلمًا مستحيلاً، بل واقعًا ممكنًا إذا ما توفرت النية والإرادة، ووُضعت المصلحة العامة فوق كل اعتبار.
فكر الأمة الديمقراطية: الركيزة الروحية والسياسية
القائد عبد الله أوجلان، هو صاحب نظرية الأمة الديمقراطية، التي تنطلق من مبدأ التعايش بين جميع الشعوب والمكونات، دون إقصاء أو تمييز. هذا الفكر، الذي تبنته الإدارة الذاتية، يقوم على احترام الهويات المختلفة، وإشراك الجميع في إدارة الشأن العام، وفق رؤية ديمقراطية تشاركية.
وعلى الرغم من تباين المرجعيات بين دمشق والإدارة الذاتية، إلا أن توافقهما على أرضية مشتركة مثل فكرة “الأمة الديمقراطية” يمهد لتأسيس نظام حكم لا مركزي، يعترف بالتعددية، ويُشرك كافة المكونات في صياغة مستقبل البلاد.
إن تبني هذا النموذج من شأنه أن يرسّخ مفهوم “أخوة الشعوب”، ويخلق بيئة صحية للحوار السياسي والاجتماعي، تُجنّب البلاد مزيدًا من الانقسام.
إرادة مشتركة في مواجهة التحديات
إن التحديات التي تواجه الطرفين، من ضغوط إقليمية وتدخلات خارجية، إلى الأزمات الاقتصادية والأمنية، تُحتّم عليهما البحث عن حلول واقعية ومستدامة. وليس هناك خيار أكثر واقعية من التعاون وتوحيد الجهود، فبدلًا من الاستنزاف في الصراعات والخلافات، يُمكن تسخير الإمكانيات لبناء مؤسسات قوية، وتقديم خدمات لائقة، وتحقيق الأمن والاستقرار.
ما يجمع الطرفين أكثر مما يفرقهما، خاصة في ظل إدراك متزايد لدى الطرفين بأن مستقبل سوريا لا يُبنى إلا بتضافر جهود كل مكوناتها، من دون إقصاء أو تهميش.
بداية لمرحلة جديدة
التقارب الأخير بين حكومة دمشق والإدارة الذاتية لا يمكن النظر إليه على أنه مجرد إجراء إداري أو تقني، بل هو بداية لمرحلة سياسية جديدة، تحمل في طياتها إمكانية إعادة رسم العلاقة بين المركز والأطراف على أسس جديدة. هذه الأسس تقوم على الشراكة والتفاهم، بدلًا من الهيمنة أو الانفصال، وهي تمثل بصيص أمل لكل السوريين الذين أنهكتهم الحرب ويريدون العيش بكرامة وأمان.
ختامًا
إن نجاح هذه المبادرة يتطلب المثابرة والاستمرار في بناء الثقة وتعزيز القنوات الحوارية، كما يستوجب من المجتمع المدني والمنظمات المجتمعية أن تلعب دورًا فاعلًا في ترسيخ ثقافة التعايش وقبول الآخر. إن سوريا المستقبل يجب أن تكون دولة تعترف بتنوعها، وتُدار بعقول أبنائها، لا بسياسات الإقصاء أو التبعية.
التعاون بين دمشق والإدارة الذاتية هو أكثر من مجرد مصالح متبادلة، إنه تعبير عن حلم مشترك، بأن تعود سوريا دولةً لكل أبنائها، حيث تكون يد الجميع ممدودة لبناء وطن يتسع للجميع، وطن يتعافى من جراحه ويتجه بخطى ثابتة نحو السلام والتنمية.
[1]