في ريف مدينة أضنة وعلى بعد 27 كم عنها وفي قرية آينجة بالتحديد كانت ولادة الفنان والأسطورة الكردية يلماز غوني، أحد أعظم عباقرة الإخراج والتَّمثيل السَّينمائي ليس في كُردستان وتركيا فحسب، بل وفي العالم أجمع، وجمع بين فن التَّمثيل والإخراج والكتابة أيضاً.
الفنان الكردي العبقري يلماز غوني الذي فقدناه وهو في مُقتبل العمر بسببِ مرضٍ عُضال أصابهُ أثناء وجوده في السِّجن -لفتراتٍ تجاوزت الإحدى عشر عاماً من عمره القصير نسبياً- (47عاماً) ولازمه حتى بعد هروبه من السِّجن والوصول إلى فرنسا إلى أن قضى عليه في التاسع من أيلول سنة 1984. نفس السَّنة التي فقدنا فيها بعد شهرٍ ونيَّف عظيماً آخر من عظماء الكُرد ونَقصِدُ هنا الشَّاعر الكبير والقدير جكرخوين الذي فقدناه في 24 تشرين الأول 1984.
بداياته ونشأته المتواضعة
ولِدَ يلماز حميد بويتون في الأوَّل من نيسان عام 1937 لأبٍ مُهاجر من أُسرةٍ فقيرةِ الحال من مناطقَ سرحد بباكور كُردستان على إثر زحف القوات الروسية عليها وأمٍ من عائلة ٍغنية التقيا معاً في أضنة وتزوجا.
يقول يلماز عن طفولته: “..كانت طفولتي سعيدة حتى السابعة من العمر أو بتعبيرٍ أدق إلى أن تزوج والدي ثانيةً، فمنذ تلك اللَّحظة فقدنا الهدوء وتحول بيتُنا الى جحيم، كثيراً ما كان والدي يقومُ بضربِ والدتي ويطردُنا من البيت. وكانت لي أُخت تصغرني بسنتين اسمها ليلى. في باحة الدار وعند الباب، كانت ثمة شجرة توت وشجرتا تين، عندما يغضب والدي ويتحول إلى وحشٍ مُفترس، كثيراً ما كُنَّا نقضي ليلتنا ثلاثتُنا تحت هذه الأشجار” .
مثل معظم أطفال الكُرد، عاشَ طفولةً مليئةً بالصِّعاب والمآسي. منذ طفولته -وإلى جانب دراسته بدءاً من الإبتدائية والمتوسطة والثانوية والتي قضاها في أضنة- اضطرَّ للعمل لمساعدة عائلته، حيث اشتغل في بساتين الفاكهة ومواسم قطف القطن وحتى في السِّقاية وصولاً إلى أن عِملَ حمَّالاً، كما أنَّه عمل أيضاً في مجال بيع الجوز والبندق والفستق وحتى الصُّحف وهو ما يتوضح لدينا بشكلٍ جلي في روايته المشهورة تحت عنوان “صالبا” والتي يمكننا اعتبارها نوعاً من سيرةٍ ذاتية.
توجهه نحو الكتابة والسينما
بعد إنهاء دراسته الثانوية التحق بكلية الحقوق بجامعة أنقرة عام 1956 إلَّا أنَّه لم يستمر فيها سوى شهرين بسبب الظُّروف الصَّعبة التي كانت تعيشها عائلته حيث اضطرَّ للعودة لأضنة والعمل في شركة تأجير أفلام لمساعدةِ عائلته.
بدأ الكتابة وهو ما يزال في السنة الثانية من الإعدادية حيث يقول عن تلك التجربة: “.. كتبت للَّوحة الجدارية في المدرسة، قصةً قصيرةً عن فلاحٍ فقير يأخذ زوجته إلى المدينة قاصداً الطبيب، ولم يكن لديه مال فيعرض على الطبيب ديكاً بدل أجرة المعاينة إلَّا أنَّ الطبيب يرفض عرضه الغريب هذا، ولا يُعالج المريضة ويطرد الثلاثة –الفلاح وزوجته والدَّيك-. إلَّا أنَّ القصة لم تُنشر بحجة أنَّها يسارية الاتجاه. علماً أنَّني لم أكن أفهم حينها معنى اليسارية”. كتب العديد من القصص والروايات ومن أبرزها “ماتوا ورؤوسهم محنيَّة” و”صالبا”.
مرحلة إسطنبول
في أحد أيام خريف 1957 يصل يلماز غوني إلى إسطنبول مدينة الأحلام والآمال الخيالية ليتفاجأ بالحجم الهائل للحركة البشرية اليومية وتواجد آلاف الفلاحين والعمال الفقراء الباحثين عن لقمة العيش، وكذلك بقاء شعبه الكردي على هامش الحياة.
أثَّر المحيط الذي عاش فيه سواءً في أضنة أو في إسطنبول عليه كثيراً، حيث كان الجميع من حوله يتكلمون التركية -حتى الكُرد أنفسهم- أدرك غوني حينها الموقف العِدائي الواضح للأتراك تجاه شعبه الكردي بشكلٍ خاص والأقليَّات بشكل عام. تعرَّض للإعتقال للمرة الأولى عام 1961 بعد مشاركته في مظاهراتٍ يسارية واتِّهامه بالدعاية للشيوعية. توجه غوني بعدها لإبراز معالم هوية شعبه الكردي عبر السينما من خلال أفلام سينمائية، حيث يُسلِّط الضَّوء فيها على المُعاناة والحِرمان والظُّلم الذي يتعرض له شعبه مما يضطره إلى ترك موطنه والهجرة إلى المدن التركية بحثاً عن عملٍ يعتاش منه، إلى جانب التهجير القسري الذي يتعرض له من جانب الأنظمة الحاكمة في تركيا. هذه الأعمال الروائية والسينمائية جعلت منه شخصاً مغضوباً عليه، فهو في عُرف المؤسسة الرسمية التركية متمرد ومنشق لأنه ينتقد ويحتج على السياسات التركية المطبقة بحق شعبه، لذا تم التَّعتيم عليه رغم براعته وتفوقه في الكتابة والتمثيل والإخراج السينمائي وحصوله مع أفلامه على جوائز عديدة في مهرجانات داخلية وخارجية.
“حطموا الزجاج لكي تتحرر الطيور”
العبارة التي كان دائماً يكررها غوني ويطرح من خلالها ضرورة تحطيم الأسوار التي تُغلق باب الأمل لدى الشعوب، ولكي تتحرر لا بدَّ من هدم وتدمير هذه الأسوار. لن يتمَّ ذلك بالتأكيد سوى من خلال رفع راية الكفاح والنضال عالياً. وهو هدفه المنشود من حياته القصيرة نسبياً وبخاصة قضية شعبه الكردي التي يوضحها في مقابلةٍ أُجريت معه حيث يقول عنها أنَّها: “قضية في غاية الصُّعوبة والتَّعقيد، ذات يوم سأحقق فيلماً أحكي فيه حقاً حكاية نضال شعبٍ من أجل ولادته أو بعثه، أما اليوم فالأمر عسير كما إنَّ القضية نفسها عسيرة، ومع هذا على المرء أن يحكي ذات يوم كيف تم تشتيت الشَّعب الكردي وتقسيمه، وما هي الآفاق المستقبلية المطروحة أمامه. على أيّ حال أعتقد أنَّ من الأمور الشَّديدة الصُّعوبة الحديث عن مثل هذا بموضوعية، فالتَّاريخ ليس حافلاً بالانتصارات فقط، بل هو حافلٌ كذلك بالهزائم والأخطاء”.
أهم محطات حياته السينمائية
بدأ غوني العمل في قِطاع السينما في الخامس من أيلول سنة 1954 بصفةِ تلميذ ميكانيكي سينمائي لدى شركة (كمال – فيلم) في أضنة. بعد انتقاله إلى إسطنبول مثل أوَّل أدواره في فيلم “الأيّل الأحمر” والذي امتدَّ فيما بعد إلى أكثر من 110 أفلام منها 58 كممثل وال 52 الباقية ككاتب سيناريو ومخرج أبرزها “سيدخان” و”المرثية” و”الأمل” و”القطيع”. نال 17 جائزةً محلية وعالمية، من بينها السعفة الذهبية في مهرجان «كان» السينمائي سنة 1983 مناصفةً مع المخرج اليوناني غوستا غافراس عن فيلمه الأشهر “يول” أي الطَّريق سنة 1982 والذي يحكي قصة خمسة أشخاص كُرد مسجونين في تركيا يحصلون على إجازة إسبوع بعد انقضاء ثُلثي مدة محكوميتهم، يوضِّح غوني في الفيلم أنَّ تركيا عبارة عن سجنٍ كبير.
معظم أفلام يلماز غوني تميَّزت بالواقعية الحادة وإبراز معاناة الشعب في ظل أنظمة القمع والإستبداد. تعاون مع مخرجين أدركوا عدالة قضيته ورغباته التي يريد تجسيدها على الشاشة، مثل عاطف يلماز وشريف غورين وآخرين. حيث صرّح غوني لمجلة (السينما) الفرنسية قائلاً: “أصبحت أشهر ممثل في تركيا، لكن في أواخر عام 1965 أدركت تماماً أنَّي لا أقول للجمهور ما كنت أريد أن أقوله فعلاً، لذلك قررت العمل مع المخرجين الذين يسعَون لقولِ الحقيقة عن الواقع الاجتماعي في تركيا”.
الخروج إلى الحريَّة والرَّحيل
لم يعُد يقوى على مواجهة الظُّروف القاسية التي كان يُعاني منها في السِّجن خاصةً مع مرضه حيث قرَّر الهروب من السِّجن ومن تركيا كلِّها وسنحت له الفرصة للهروب عندما تمَّ منحه إجازة لمدة يومٍ واحد من إدارة السّجن حيث توجه إلى منطقة كاش في أنطاليا ومنها وصل إلى جزيرة ميس اليونانية ومن بعدها إلى سويسرا التي لم يبقَ فيها مطولاً حتى استقر به المقام في باريس بفرنسا ليقضيَ ما تبقى من حياته وهو يُصارع المرض العُضال من جهة ويسعى ويعمل بتفاني من أجل إيصال صوت شعبه الكردي من خلال أفلامه إلى العالم من جهةٍ أخرى .
لم يتوقف لحظةً واحدة عن الإبداع والعمل بجهدٍ مضاعف وكأنَّه كان يعلم بقِصر عمره وهو في صراعٍ مع الزمن من أجل إنجاز ما يرغب فيه للدفاع عن شعبه وقضيته العادلة.
فيلمه الأخير كان بعنوان “ديوار” أي الجدار بالكُردية ويحكي فيه عن وقائع وأحداث تجري في أحد السُّجون التركية من قمعٍ وتعذيب وحتى قتل السجناء.
توفي يلماز غوني في التاسع من أيلول سنة 1984 وأُقيمت له مراسم تليق بمكانته العالية حضرها العديد من الشخصيات الكُردية والفرنسية والعالمية وأُلقيت كلماتٌ تأبينية ترثيه للعالم ومن ثم دُفن في مقبرة “بيير لانشيز” في باريس.[1]