#فؤاد حمه خورشيد#
حاول الإنسان ان يرسم الخرائط منذ بداية التاريخ. لكن الأهمية الحقيقية للخرائط تطورت عبر الزمن، وخاصة في عصر الاكتشافات الجغرافية للبحار والمحيطات والقارات، وتزايد الاهتمام بها، ولمختلف الإغراض في القرن العشرين. وفي الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) ازداد الاهتمام بالخرائط في ميادين المعارك واتجاهاتها واحدث ذلك ثورة في علم الخرائط(علم الكارتوكرافي)، وتمكن الناس بهذا الفرع من الجغرافية من رؤية معالم مناطق شاسعة من العالم على قطع من الورق. وفي الحرب العالمية الثانية تطور علم الخرائط ووسائله وأجهزته، وتعددت إغراض استخدامه وتوسعت من الشؤون العلمية الأكاديمية، الى الإغراض الحربية الدعائية، للتأثير في اتجاهات الرأي العام، وكذلك في التحريض والتوجيه لإغراض محددة لتقبل فكرة معينة او خطة محددة، او هدف معين، وبذلك أصبح للخريطة الدعائية وظيفة جيوبولتيكية، لأن الخريطة ذات البعد الدعائي الجيوبولتيكي غالباً ما ترسم بأسلوب مفهوم، وسهل، وقابل للاستيعاب والتصديق.
والخريطة في الجغرافية هي إحدى الوسائل الهامة للفهم والاستيعاب ولتوزيع الظواهر الجغرافية (الطبيعية والبشرية والاقتصادية) المختلفة على سطح الأرض، وهي في نفس الوقت، وسيلة جد خطيرة في وسائل التضليل الجيوبولتيكي، إذا ما سخرت للإغراض الحربية والسياسية والإيديولوجية، كما فعل الألمان ذلك قبل وإثناء الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) وعلى نطاق واسع. لقد أطلق على الخرائط الدعائية هذه في البداية اسم (الكارتوكرافي الجيوبولتيكي) (Geopolitical Cartography) بينما أطلق عليها في بريطانيا اسم (خرائط الدعاية) (Propaganda Maps). والخريطة لغة لتفسير حالة التباين المكاني(الجغرافي)،وبيان العلاقة بين اللغة، والفكرة، والايدولوجيا والأرض لتسويق معلومات معينة عبر نموذج كارتوكرافي، او موديلا يجسده من خلال مزج الفكرة بالهدف السياسي والإيديولوجي لإبراز او إنتاج خريطة تستخدم في الإغراض الدعائية لتوجيه الرؤى العام وإقناعه بالتطلعات الجيوبولتيكية والإستراتيجية للدولة.
والخريطة, كذلك, هي أحدى وسائل الاتصال الجماهيرية، لذا تكون الخريطة الجيوبولتيكية المضللة سلاحاً دعائيا مدمراً بيد صانعيها.خاصة أذا ما استخدمت الخارطة كسلاح دعائي في أوقات الحروب والأزمات بين القوى السياسية. لأن الخريطة تمثل شكل مكاني للدعاية، لذا فهي، كأي خريطة، قابلة للتمثيل الجغرافي من خلال تقنياتها التي تساهم في عملية الإقناع مثل اختيار مسقط الخريطة المناسب، ومقياس رسمها، الألوان والرسائل التي يمكن إيصالها للمتلقي من خلال العنوان. وإذا ما عرفنا بأن الخريطة، بحد ذاتها، وسيلة حضارية لفهم الواقع الجغرافي ودراسته، فأن انعكاسات الخريطة الجيوبولتيكية الدعائية يمكن أن تكون لها تأثيرات نفسية ووجدانية خاصة في تحريك المشاعر الفردية أو الجمالية، وربما أثارة التعجب والذعر أيضاً. لذا فقد أوضح هال (D. Hall) بأن هناك أربعة تقنيات لرسم الخرائط الدعائية هي:
1- الخرائط التي تبين الحجوم والإعداد (Numerics).
2- الخرائط التي تبين السمات الجغرافية (Semantics).
3- الخرائط الفنية (Technologist).
4- الخرائط والأشكال البيانية (graphics).
ومصطلح الدعاية(propaganda) مصطلح قديم ظهر في 22 -06- 1922 عندما انشأ البابا كريكوري الخامس عشر فصيلا خاصا بالدعاية للمذهب الكاثوليكي المسيحي لمواجهة المذهب البروتستانتي في العالم الجديد أطلق عليهم اسم(الحشود السرية لدعاية الإيمان) . والدعاية هي أحدى أساليب الاتصال الخاصة بالتأثير في أفكار الناس وأفعالهم، فكثير أما يدفع الإعلان التلفزيوني، او البوستر، الناس على التصويت لمرشح معين، ويستخدم السياسيون هذا الأسلوب الدعائي في الترويج لأهدافهم، مثلما تفعل الشركات في الترويج لبضاعتها، وكذا الحال بالنسبة للخارطة الجيوبولتيكية فهي الأقدر في التأثير على الرأي العام وتغيير قناعاته في أوقات الأزمات والفترات الحرجة وفي الحروب.
ولما كانت الحروب، مهما كان نوعها، تتطلب أساليب خاصة لإقناع الجماهير بصحة ومبررات اندلاعها، او لتضليلها في حالة حدوث الهفوات او الإخفاقات ، فقد يحتم ذلك على المسئولين عنها تشويه المعلومات وتضليل الإعلام ورسم الخرائط المبالغ فيها لصرف انتباه الجماهير عن الحقيقة. ويلاحظ ان غالبية دعايات الحروب هي دعايات سرية(covert) لأنها تنطلق من مصادر لأنها تنطلق من مصادر ومؤسسات سرية تهدف الى تثبيط عزائم القطعات العسكرية المعادية بإرسال وسائل مزيفة وملفقة وتقارير مضللة تشير الى الخسائر الجسيمة والدمار الذي الحق بها، وفي نفس الوقت تهدف الى إلهاب حماس الجماهير لهذه الحرب في الداخل. وقد يلعب الرتل الخامس (fifth column) العامل في الجانب المقابل لكل طرق دوراً في نشر تلك المعلومات وعلى النقيض من الدعاية السرية توجد الدعاية العلنية(Overt) وهي الدعاية المفتوحة التي تصدر من مصادر معلوماتية محددة معروفة. ذلك لأن الجيوستراتيجية تعتبر فرع من الجيوبولتيكس كلها تعالج القضايا بالإستراتيجية، وأن كل من عوامل الجيوبولتيكي الجيوستراتيجية هي التي تحدد وتبرز الأهمية الجغرافية للمنطقة أو الإقليم كما أن إستراتيجية الدولة المبنية على الأساس الجيوبولتيكية تنتج سياسة خارجية من طراز خاص.
لم يقتصر الاهتمام بالدعاية الجيوبولتيكية على الألمان فقط، بل انتقلت عدواها الى معظم دول العالم التي استخدمت هذا النمط ألخرائطي في التحريض الدعائي، ولعل استخدام الولايات المتحدة الأمريكية للخرائط في خدمة أهدافها الجيوبولتيكية – أثناء الحرب الباردة 1945- 1990 لا يقل عن اهتمام ألمانيا الهتلرية بهذه الخرائط لقد أصبحت مهمة الخرائط الدعائية تنحصر في خدمة الإغراض الجيوستراتيجية، والتهديدات الجيوبولتيكية، وتحولت الى وسائل تعتمد في البحوث والرسائل الجامعية، وفي مؤلفات معظم مهندسي الستراتيجية العالمية لتبرير الأفعال العسكرية او تغير الإحداث والانقلابات الحاصلة في الأقاليم الجيوستراتيجية او موازين القوى العالمية والإقليمية.
يتطلب استخدام الخرائط الدعائية للأهداف الجيوبولتيكية، اختلاف الذرائع، وصور التهديدات، والمخاطر المحتملة او التصورية التي قد تتعرض لها البلاد من عدو مفترض، قوى او ضعيف، من خلال تجسيد كل ذلك في خريطة توحي كل سماتها بوقوع ذلك الخطر، او التهديد، لأنها تتضمن المبالغة في إدخال الرعب والهلع من عدو واقعي او وهمي. وعموما فان جميع الأشكال الدعائية والتحريضية، سواء أكانت عبر الخارطة، او أية وسيلة إعلامية أخرى، تشدد في الدرجة الأساس على تفجير العواصف باتجاه الحدث الأني او المستقبلي، والهدف منها هو لفت أنظار الرأي العام من خلال ربطها بين القيم والمفاهيم والأهداف في شكل معبر (خارطة أو بوستر)عبر تقنيات محددة كانت ولاتزال، تنحصر في سبعة تكتيكات أو تقنيات للدعاية نشرها معهد التحليل الدعائي (Institute of propaganda Analysis) 1939 الذي أنشأه عام أدورد فلن(Edward Filene) في مدينة نيويورك والتي لاتزال ، منذ ذلك التاريخ، ميراثا لمثل هذا النوع من الفن والأسس التي تنحصر فيها أهداف كل القضايا الدعائية، وهذه هي باختصار:-
1- التسمية – الألقاب(Name calling) وهي تقنية يقصد بها تشويه سمعة الخصوم او الفكرة المضادة، والهدف منها جعل الإنسان يرفض أية شخصية أو ظاهرة ما لم يتفحصها بسبب السمات السلبية التي تلصق به مثل الإرهاب، النازية، الفساد، الشذوذ، الريبة.. الخ.
2- العموميات(Glittering Generalities): استخدام الكلمات البراقة لجلب الانتباه وأثاره الانفعالات وهي نقيض ماجاء في الفقرة(1) وذلك باستخدام عبارات غامضة مصحوبة بالتهويل والاستحسان مثل الحرية، الشرف،الوطنية، الحب، المواطنة الصالحة، للشخص او الفكرة المراد إبرازها.
3- التحول(Transfer) وهي تقنية تجعلك تؤجل تصديق او استحسان شيء ما تحترمه وتبجله، وتنقلك الدعاية الى تصديق شخص أخر وتقبله، وتحويله الى رمز او فكرة.
4- الإشادة(Testimonial) : تقنية القصد منها رفع أهمية الشخص، أو التجربة او الحدث، وذلك باستخدام بعض النصوص للإقرار بصحة الحدث، من خلال تحريك العواطف والأحاسيس وليس بالمنطق مثل:قالت جريدة الهيرالد تربيون.. أشار برجنسكي.. صرح الرئيس.. من خلال التدين على إشادة الغير بهذا الشخص أو الموقف:
5- مصارحة الناس plain folk: تقنية يراد بها أقناع الجماهير من خلال التركيز في الدعاية لشخص معين لإظهاره مصداقية وقدرته وأفضليته.. كمعلم ومنقذ.
6- تجميع البطاقات card stacling: تقنية يراد بها أتباع نزعة التطرف لتبنى موقف معين أو تأييد حزب أو شخص معين.
7- الجوقة Bandwagon: تقنية الهدف منها أقناع الناس على العمل ضمن المجموعة، أو الحزب، أو الجوقة وليس خارجها.
والغريب أن أغلب الأنظمة الشمولية في العالم تتبنى هذا التضليل الدعائي، وتسخر من ينفذ هذه التقنيات من اجل أهدافها الجيوبولتيكية، عبر من تراهم مؤهلين لقيادتهم، كالقطيع، والذين ينخدعون بها بشكل مهووس ولا يفيقون من فعلتهم هذه، إلا بعد أن تنحدر البلاد الى قاع الهاوية أو تحل بها الكارثة.
مصادر المقال:
1- حداد، معين، (الجيوبوليتيكا قضايا الهوية والانتماء بين الجغرافيا والسياسة، شركة المطبوعات للنشر، بيروت، ط1، 2006.
2 - Ager, J. (Maps and propaganda), Society of university cartographers Bulletin, 1978, vol. 11.
3 - Pepper, Danid and Alan Jenkins, (The Geography of peace and war), Basil Blackwell, Oxford, New York, 1985.
4- Hall, D, (A geographical approach to propaganda) in :A,D. Burnett and p. Taylor (eds), political studies from spatial perspectives, Chichester, John Wiley, 1981.
5- Heske, Henning, (Karl Haushofer: his role in German geopolitics and in Nazi politics, political Geography. Quarterly, vol. 6. no, 2, April, 1987, pp. 135- 144.
6- http: http://www. book rays, Com (research) propaganda, p.1.
7 - Httn// http://www. doshdosls com., (The Art of propaganda: 7 common Tactics used in Influence Behavior).
8 - Tyner. T.( Cprsuasive cartoyraphy), Journal of Geography, vol. 84, No, 4, 1982.[1]