#عبد الحسين شعبان#
لم تكن مدينة حلبجة الكردية الجميلة معروفة للعالم قبل 16-17 (مارس/ آذار العام ،1988 فهذه المدينة النائية، القريبة من الحدود العراقية- الإيرانية، مثلها مثل العديد من مدن وقصبات كردستان العراق، فقيرة ومهملة، وفي الوقت نفسه زادتها أوضاع الحرب ارتياباً أمنياً، رصداً ومراقبة من العراق وإيران على حد سواء، خصوصاً أن بعض البيشمركة كانوا يترددون عليها .
تغفو مدينة حلبجة على حافة سهل شهرزور، بالقرب من بحيرة دربندي خان القريبة منها، وفي بدايات فصل الربيع وانقشاع الثلوج التي تكسو قمم الجبال، تبدأ المدينة بارتداء أثوابها الملوّنة وتزهو بروائحها الزكية المنبعثة إليها من بساتينها المكتظة بالفاكهة، وعيونها المنحدرة من جبال أحمد أوه، حيث تشكل سلسلة جبال هورمان حماية طبيعية لها .
لكن هذه المدينة الوديعة بدأت وعلى نحو مفاجئ تلفت الانتباه إليها، حتى أصبحت مدينة “دولية”، حيث شغلت منظمات حقوق الإنسان وجهات مدنية وإعلامية، إضافة إلى هيئة الأمم المتحدة، الرواية تقول إن حلبجة دخلت التاريخ حين أصبحت ساحة حرب رغماً عنها، ولكن كيف حصل ذلك؟ الجواب يبدأ من موقعها الجغرافي، حيث تقع حلبجة على بعد 16 كيلومتراً من الحدود العراقية- الإيرانية، وخلال الحرب وبعد الانسحاب العراقي من إيران بعد معركة المحمّرة (خرمشهر) ،1982 بدأت محاولات التوغل الإيراني للأراضي العراقية، فضلاً عن اتساع نطاق المعارضة الكردية في المنطقة .
عشية المجزرة كانت إيران مسيطرة على الجبال المحيطة بالمدينة، وقد استشعر سكان مدينة حلبجة المسالمة أنهم سيذهبون في حرب لا ناقة فيها لهم ولا جمل، فحاولوا مغادرة المدينة بعد نداءات تحذيرية تلقّوها من القوات العراقية، بل أن بعضهم حاول مغادرتها ولكن تم منعه، وحدثت معركة بين القوات العراقية والإيرانية سبقت المجزرة، اضطرت فيها القوات العراقية إلى الانسحاب والتراجع صوب السليمانية، وفي ظهيرة ذلك اليوم وحوالي (الساعة الثانية عشرة إلاّ ربعاً) حلّت لحظة الرعب المروّعة، لكن أمراً غريباً قد جاء معها، إذ انتشرت رائحة التفاح الربيعي على نحو واسع .
في تلك اللحظة تم قصف المدينة بالأسلحة الكيمياوية وغاز الخردل الذي يمتاز بأن رائحته تشبه رائحة التفاح، بل إن من يشمّه يزداد رغبة في استنشاق رائحته، وخلال ربع ساعة فقط تقطعت الكثير من الأنفاس وتيبّست شفاه وعمّت رائحة الموت كل مكان، لا سيما قد بدأ قصف الطائرات بعد نصف ساعة وبالتحديد (الساعة الثانية عشرة والنصف) لتدمير الأحياء السكنية والقرى المحيطة، فتحوّلت رائحة التفاح إلى رائحة شبيهة بالثوم والعفن، حيث تساقط المئات في الشوارع والأزقة وأصيب العشرات بعمى دائم لاحقاً أو مؤقت، إضافة إلى التقيؤ حدّ الغثيان . فارق الحياة الأطفال والنساء، ولا سيّما الحوامل والشيوخ والحيوانات حيث نفق الآلاف منها، وتفسّخت الكثير من الجثث وانقطع نسل عوائل بكاملها وتم دفن الكثير بملابسهم .
حصيلة الكارثة كانت نحو خمسة آلاف ضحية ونحو عشر آلاف مصاب، بعضهم أصبح معوّقاً بشكل دائم . وقد تسنّى لكاتب السطور أن التقى أعداداً منهم خلال ربع القرن الماضي، مثلما استمع إلى قصص مرعبة، وشاهد فيلماً وزار متحفاً يحكي قصة المجزرة، مثلما وقف قرب نصب الشهداء في ساحة المدينة المقهورة .
يوم وقعت المجزرة لم يهتم بها الإعلام العالمي كثيراً، وخصوصاً الإعلام العربي، بل إنه لم يعرها أي اهتمام يذكر، حتى إن بعضهم برّرها بحجة تعاون الحركة الكردية مع إيران ضد العراق في الحرب، ومن وجهة نظر هؤلاء أن الحرب تجيز استخدام جميع أنواع السلاح “دفاعاً” عن النفس ضد اختراقات الطرف الآخر، حتى إن استخدم سلاحاً محرّماً دولياً ضد شعبه .
إن جريمة حلبجة لا تختلف من حيث الجوهر والأهداف عن مجازر الهنود الحمر، ومجازر الفرنسيين في الجزائر، ومجازر النازية بحق اليهود وغيرهم، ومجازر الصهيونية في دير ياسين وكفرقاسم ومدرسة بحر البقر وصبرا وشاتيلا، والمجازر بحق الأرمن ومجزرة حماه في سوريا ومجزرة سربرينتشا بحق المسلمين في البوسنة والمجازر بحق المسلمين في الهند وغيرها، ولكن للأسف إنها لم تأخذ الاهتمام الذي تستحقه كجريمة دولية، وهي إحدى جرائم الحرب، فضلاً عن كونها جريمة إبادة ضد الجنس البشري، وجريمة ضد الإنسانية، تستحق العقاب طبقاً لقواعد القانون الدولي، واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977 .
ربما يعود السبب في أنه لم يسلط الضوء الكافي على الجريمة بسبب تداخل بعض الأدوار واختلاط بعض الأوراق، وهو ما كانت تريده القوى الكبرى، التي كان هدفها استمرار الحرب وإحداث نوع من التوازن القلق للقوى المتحاربة، لكي لا يكون هناك منتصر ومهزوم، وذلك بهدف إدامة الحرب، بل إن الولايات المتحدة كانت تزوّد الفريقين بمعلومات وصور مأخوذة عن الأقمار الصناعية .
وبغض النظر عن الموقف الدولي المتذبذب والهادف إلى تأمين مصالحه بعيداً عن القيم التي يدعو إليها، حين كان يحمّل المسؤولية تارة إلى هذا الطرف وأخرى إلى ذاك، لكن المسألة تحرّكت أول مرّة بعد توقف الحرب في 8/8/،1988 وبالتحديد في مؤتمر باريس العام 1989 حيث اتخذ قراراً بإدانة استخدام الأسلحة المحرمة دولياً، لا سيّما أن بغداد لم تكتفِ بذلك، بل ذهبت خلال الفترة ذاتها إلى إزهاق أرواح عشرات الآلاف من المواطنين الأكراد وتهجير عشرات الآلاف أيضاً إلى المناطق العربية في وسط وجنوب العراق، فيما سمّي بحملة الأنفال التي قادها ابن عم الرئيس العراقي السابق “علي حسن المجيد” الملقّب ب “علي الكيمياوي”، واستهدفت الحملة إضافة إلى البشر، الشجر والحجر، حيث تم تدمير نحو 3000 قرية وقصبة كردية وتعرّضت البيئة إلى عسف شديد بتدمير الحقول والمزارع والبساتين .
لعلّ العامل الحاسم في اكتساب قضية حلبجة لاحقاً بُعداً جديداً هو احتلال القوات العراقية للكويت في 2 أغسطس/ أب ،1990 لا سيّما أن نظام القطبية الثنائية كان قد انهار، وتفجّرت أزمة دولية أساسها النفط والسلاح ومناطق النفوذ في المنطقة .
بعد ربع قرن يحتفل الأكراد بهذه المجزرة احتفالاً مهيباً في حلبجة شعاره هو القول المأثور الذي أطلقته دانيال متيران أرملة الرئيس الفرنسي متيران: “من الدموع إلى الأمل” وهي عبارة لها مغزاها، فكيف بإمكان الضحايا وذويهم وعموم السكان تجاوز محنتهم ومأساتهم بحيث يكون التسامح بديلاً عن الكراهية .
ثمة درس جديد سيكون للشجاعة، حين يُقدم الضحايا أو ذويهم على استضافة جنود وضباط عراقيين بعد انتفاضة العام 1991 ويتعاملون معهم بكرم ومسؤولية وتسامح، دون أن يعني ذلك التخلّي عن حقوقهم في كشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر وتعويضهم، ولكن بعيداً عن روح الانتقام أو الثأر، أو الكيدية، بل إبقاء الذاكرة حيّة لكي لا ينسى العالم، مثلما لا ينسى كل المعنيين بقضايا حقوق الإنسان، إن ما حصل في حلبجة كان جريمة بكل معنى الكلمة . ثلاث دلالات لا بدّ من التوقف عندها:
الدلالة الأولى، أهمية مبادئ التضامن، حيث تعزّز الموقف من حلبجة خطوة خطوة مع مرور الأيام، وإذا كان نفر قليل من غير الأكراد وقف إلى جانبهم أيام المحنة، فإن كثرة كاثرة اليوم تقف معهم من دول وجنسيات مختلفة وتنظر إلى تجربتهم، بحرص ومسؤولية ونقد، لاسيما وقد استطاع الشعب الكردي إقامة كيانية خاصة في الإقليم منذ أواخر العام ،1991 وتوطّدت دستورياً بعد العام 2003 تحت عنوان “فيدرالية إقليم كردستان” .
الدلالة الثانية، إن ما حصل في حلبجة يرتقي إلى مصاف جرائم الإبادة الجماعية “جنيوسايد”، وهي جريمة تنطبق على التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية بصفتها، عبر القتل وإلحاق الأذى الجسدي أو الروحي وإخضاعها عمداً لظروف معينة قاسية وفرض تدابير تستهدف عدم إنجاب الأطفال أو نقل أطفالها أو غير ذلك، وهو ما أكدته محاكمات نورنمبرغ وطوكيو العسكريتين، وفيما بعد في رواندا والبوسنة وغيرها، وهو الأمر الذي بدأ الكثير من الجهات يقتنع به ويتبناه!
الدلالة الثالثة - الرسالة التي وجهها مسعود البارزاني رئيس الإقليم والمؤلفة من شقين، الأول يقوم على ضرورة تمسك الكرد بتجربتهم والبناء عليها، والثاني البحث عن شراكة حقيقية، ولعل مثل هذين الأمرين يحتاج إلى حوارات موسعة لا تتعلق بالعراق فحسب، بل بين مثقفي الأمم الأربعة في المنطقة: العرب والأتراك والفرس والكرد، لاستشراف آفاق العلاقات المستقبلية .
إن مجزرة حلبجة دخلت الأدب السياسي منذ ربع قرن وستبقى وخزة في الضمير الإنساني، ولكل من تعنيه حقوق الشعوب وحرياتها، أوطاناً وإنساناً .[1]