#عزيز الحاج#
ربما يبدو الحديث عن آفاق الديمقراطية في العراق والمنطقة العربية بمثابة حديث عن أمنية مستعصية التحقق. وهذا إذا أخذنا بالحسبان ما يسود العراق والمنطقة من ظلمات الإسلاميين، وهيمنتهم السياسية والفكرية والاجتماعية، وانقياد الشارع لهم. وكنت منذ الأسابيع الأولى لانتفاضتي تونس ومصر قد أبديت في الحوار المتمدن وصحف أخرى شكوكي وهواجسي عن مآل الانتفاضتين وكل انتفاضة عربية قادمة، وذلك أخذا بالنظر مدى التخلف الاجتماعي والفكري، ومدى قوة نفوذ الإسلام السياسي والمرجعيات الدينية على اختلافها، وتضامن التيارات والقوى الإسلامية مع بعض في كل الميادين ولاسيما ماليا، سواء كانت في المعارضة والحكم. وثمة عامل مهم آخر وهو اتجاه إدارة اوباما والغرب عموما لاستثمار الإسلاميين، كما يحسبون، بدلا من تعزيز العلاقة مع القوى العلمانية العربية، في تناس لدروس أفغانستان وإيران والعراق. وفي الوقت نفسه يجب النظر لمدى تفكك وتهميش التيارات والقوى العلمانية والديمقراطية في العقود الأخيرة لأسباب كثيرة ليس الآن مجال التعرض لها.
بعض ملاحظاتي تلك لم ترض عددا من المعقبين، وأغضبت بعض المتفائلين المتحمسين. وها نحن نعرف النتيجة، سواء في مصر وهيمنة الإخوان والسلفيين، أو في تونس والظاهرة نفسها. أما ليبيا فالوضع مفتوح على عدة احتمالات، ولكن نسجل أن أول قرار للمجلس الانتقالي هو الأخذ بأحكام الشريعة وإباحة تعدد الزوجات خلافا لقرارات القذافي التي لعلها كانت فضيلته الفريدة. وأما سوريا، فالمعركة مستمرة ولست متفائلا أيضا! وفي مقالي لأوائل كانون الأول 2011 عن العراق، بعنوان أيديولوجية الإسلام السياسي: استئصال الآخر وهدم الثقافة عرضت لوحة عن سير العراق بخطوات نحو الأسلمة، وحيث توسعت دائرة المحظورات، وحتى الموسيقى والغناء والنحت والنوادي الليلية، فضلا عن محلات شرب الخمور والتنكيل بأصحاب حوانيتها- ناهيكم عن تحجيب البنات وحتى غير المسلمات. ومنذ ذلك الوقت تسارعت هذه التطورات المقلقة، فإذا بالجامعات البغدادية تقيم مسابقات شموس الجامعة، وهن المتحجبات حجابا طالبانيا كثيفا، وإذا بالمسؤولين يحضرون مراسيم تحجيب الفتيات اليتيمات، وإذا بشباب الإيمو يطاردون ويقتلون بمنتهى الوحشية وكأنهم كانوا يهددون أمن البلاد، وإذا بالمظاهرات السلمية تقمع، وينكل بالشباب المتظاهر. وفي حديثه في يوم تأسيس حزب الدعوة، تباهى المالكي بتعاليم المرحوم السيد محمد باقر الصدر وكيف أنها سلاح لمحاربة العلمانية والحداثة والماركسية بوصفها إلحادا. ومع ذلك، فإنه راح يردد اليوم، وكإحدى مناوراته المعروف بها، بأنه يريد تأسيس قائمة تتجاوز الانتماءات الدينية والعرقية والحزبية، وربما قد يصدقه بعض اليساريين الطيبين!!
إن القوى الإسلامية، التي استطاعت الوصول للسلطة في الدول العربية والإسلامية[ إيران والسودان وطالبان وغزة مثلا]، ليست فقط لم تبن دولة ديمقراطية علمانية، بل قامت بتصفية بعض مظاهر الديمقراطية والعلمنة للعهود السابقة ولاسيما ما يخص حقوق المرأة والحرية الدينية. وهذا، في رأيي، منتظر حدوثه في دول الربيع العربي على مراحل وبخطوات. وأرجو أن أكون على خطأ. والملفت للنظر في الحديث عن مصر أن بعض المثقفين العلمانيين المصريين كانوا في الشهور الأولى للانتفاضة يتجنبون حتى ذكر كلمة علمانية وذلك بحجة عدم استفزاز الإخوان المصريين! وقد ارتفع شعار الدولة المدنية دون قرنها بالديمقراطية والعلمانية، فسارع الإخوان المسلمون لخطف الشعار وإفراغه من المحتوى المقصود حين أضافوا دولة مدنية بمرجعية إسلامية.
إن إشكالية العلمانية هي في كونها قد جرى تشويهها بقوة، لاسيما من جانب الإسلاميين، وذلك على مدى عقود وعقود، وقرنوها بمحاربة الأديان والحرية الدينية. وشوهها أيضا حكام مستبدون أخذوا ببعض مظاهر العلمانية، كدرجة من فصل الدولة عن المؤسسات الدينية والسماح بدرجة من الحرية الدينية، ولكنهم مارسوا سياسات استبدادية، واضطهدوا الأقليات القومية [إن وجدت]، وقمعوا الحريات العامة، وتساهلوا مع الفساد. والعلمانية هي بطبيعتها ديمقراطية، والدولة العلمانية الحقة هي ديمقراطية بامتياز، ولا يمكن الفصل والعزل والتجزئة. ولننظر كييف حاول أردوغان تسويق مفهومه وحزبه للعلمانية لشعوب الانتفاضات العربية في الوقت الذي تواصل فيه حكومته الإسلامية تقليص الحريات الصحفية، ولم تنفتح بعد على حل ديمقراطي مقبول للقضية الكردية، كما ثمة ظاهرة التضييق في تركيا على الذين لا يعترفون بالهوية السنية للدولة التركية. وسنعود لموضوع الحالة التركية.
نعم، لقد جرى تشويه مبادئ ومصطلحات ومفاهيم تنويرية عديدة، ككلمات الحرية والديمقراطية والعدالة و الرفاه والتمنية والنهضة، ولكن العلمانية كانت الأكثر تعرضا لحملات التشويه والتشويش، خصوصا وإن تعريف العلمانية كان موضع نقاش حتى في الغرب لكونها مجموعة مركبة من المبادئ والقيم تشمل حقوق الإنسان والديمقراطية وحريات الضمير والحرية الدينية والعدالة وإرادة التحديث والتقدم والإيمان بالعلم والحق في الاختلاف [ ولكن ليس الاختلاف في الحقوق؟] وكون أن الحقيقة نسبية. ومع هذه الصعوبة، فثمة شبه إجماع على تلخيص كل ذلك في تعريف العلمانية بكونها تعني فصل الدولة عن الدين، [أو السلطة المدنية الدنيوية عن السلطة الروحية]، بينما الإسلاميون يوحدون بين الدين والدولة [ عارض ذلك الشيخ علي عبد الرازق فحاربه الأزهر]، كما كانت الكنيسة الأوروبية تفعل ذلك في القرون الوسطى، وحتى بعدها. ونقول إن هذا التعريف مهم جدا ولكنه غير كاف، إذ لابد من توضيح أن الدولة العلمانية محايدة تجاه الدين ولكنها تحترم الأديان وكل المعتقدات وحرية الضمير، وعلمانية الدولة لا تعني علمانية المجتمع. كما أن للمدرسة دورا استثنائيا، إذ يجب أن تكون محايدة أيضا بينما كانت الكنيسة تعمل على الهيمنة على المدرسة كما يفعل الإسلاميون عندنا [ لاحظوا حرص حزب الدعوة في العراق على احتكار وزارتي التربية والتعليم العالي]. وفي أواخر القرن التاسع عشر أخذت فرنسا بشعار المعلم في المدرسة، ورئيس البلدية في البلدية، والقس في الكنيسة.
ومن الصعوبات الأخرى بالنسبة للعلمانية وإمكان التشويش عليها أن تطبيق العلمانية يتخذ صيغا وأشكالا مختلفة في الدول الديمقراطية الغربية رغم أن المشترك فصل السلطتين المدنية والروحية والأخذ بالديمقراطية وحقوق الإنسان. وهذا ما أراد الرئيس التركي استغلاله حين نصح عرب الانتفاضات بالأخذ بعلمانية الانكلو- سكسون وليس بالعلمانية الفرنسية، التي وصفها بالإلحادية مع كونه يعلم جيدا بأن في فرنسا حوالي 2000 مسجد فضلا عن الكنائس وغيرها.[1]