#عزيز الحاج#
كما مر فإن هذه الحلقات مكرسة لتدقيق وتصحيح بعض المعلومات الواردة في كتاب الراحل حنا بطاطو والتي تكررت من بعده- أي ليست مكرسة لتقييم المواقف والسياسات وإصدار الأحكام. ومعلوم أن لدقة المعلومات أو عدم دقتها علاقة ما بالأحكام والتحليلات وقد تكون أحيانا علاقة قوية. فمثلا إن للتواريخ أهمية عندما نستعرض سلسلة الاعتقالات في قترة ما سواء كان ذلك عام 1948، أو عام 1963، أو ما جرى مع القيادة المركزية. واعتبار هذه اللجنة المركزية مفوضة أو غير مفوضة، حسب تعبيرات بطاطو، مهم هو الآخر، وهو ما سأبدأ به هذه الحلقة.
اللجان المركزية المفوضة و غير المفوضة
يرد في الكتاب مصطلح لجنة مركزية مفوضة وأخرى غير مفوضة، أي بتفويض من قيادة فهد في السجن. والمقصود هو عن اللجان المركزية التي تشكلت بعد اعتقال قيادة مالك سيف ويهودا صديق ومعهم الوجبة الثانية من أعضاء اللجنة المركزية.
أما اللجنة التي تلت هؤلاء فكانت بقيادتي وبتفويض خطي من فهد، أي بالعكس من القول انها كانت غير مفوضة. فقد أرسل حساني علي المسئول عن المطبعة الحزبية رسالة بالحبر السري لسجن الكوت يخبر فهدا ورفاقه عن حملة الاعتقالات الواسعة التي جرت ويطلب منه التعليمات. وقد ارسل فهد جوابا بالحبر السري أيضا قرأها علي وعلى سلام الناصري- الذي كان معي في الوكر الحزبي وهو مرشح اللجنة من قبل- وجاء فيها التالي:
1- يتولى المسئولية الأولى سعيد، وهو سامي نادر، العضو القديم في اللجنة المركزية ومن أهالي البصرة؛
2- في حالة غياب سعيد [ كان مريضا بالسل وفي لبنان] فإن المسئولية الأولى بتولاها بالتضامن كل من عزيز الحاج وعبد تمر. وكان الأخير عاملا شيوعيا مجربا وعضوا قياديا أصيلا، في حين كنت في بداية الشباب واشرف على تنظيمات الكرخ والطلبة الشيوعيين، وكان عمري الحزبي ثلاث سنوات. واضح أن الراحل فهدا أراد أن يجمع بين حماس الشباب وتجربة الأكبر سنا والأكثر قدما. وقد استدعينا [ حساني وسلام وأنا] عبد تمر للوكر الحزبي في محلة فضوة عرب، وعرضت عليه تعليمات فهد، ولكنه اعتذر عن عدم تمكنه من تحمل أية مسئولية ومهما كانت، ودون شرح الأسباب. وكان ذلك في بداية نوفمبر 1948. ولم أستمر في المسئولية كثيرا، فقد أدت اعترافات ملك سيف لمداهمة المطبعة ومن يعملون فيها، وعن طريقهم تم اعتقالي مع الناصري في ليلة 13 نوفمبر من العام نفسه. بعدنا، تسلم ساسون دلال المسئولية الأولى. وهنا أيضا- وخلافا لمعلومات بطاطو وغيره- فإن فهدا هو الذي اختار ساسون لتلك المسئولية وذلك على لسان زكي بسيم في السجن خلال مقابلة مع شيوعي أرسل خصيصا للسجن لطلب التعليمات. وكذلك أرسلت قيادة فهد رسالة خطية بنفس المضمون وصلت إلى محمد عبد اللطيف وكوادر أخرى عن طريق السيدة رضية محمد علي، زوجة حسين محمد الشبيبي. ولست هنا في معرض تقييم مدى وجاهة ذلك الاختيار.
*** ساسون دلال والصهيونية
وخطأ جسيم أخر لبطاطو. فقد ألقى بظلال الشك على ميول ساسون دلال وكأن الأخير كان يتعاطف مع الصهيونية. وهذا خطا جسيم لأن ساسون دلال كان شيوعيا ستالينيا حتى الرمق الأخير، ولم تعرف عنه أية ميول صهيونية. وقد كررت جهات قومية مغرضة تلك الرواية مع سيل الدعايات عن دور اليهود الشيوعيين في تقرير سياسة الحزب الشيوعي العراقي، والادعاء بأنهم كانوا من وراء تأييد قرار تقسيم فلسطين. والحال أن السياسات والمواقف الكبرى كان يقررها فهد وزيلاه زكي بسم ومحمد حسين الشبيبي في السجن. وكان فهد يعتبر نفسه تلميذا لستالين وحزبه وبمنتهى الولاء وبشيء من المبالغة. ولم يؤيد الحزب التقسيم إلا بعد تأييد السوفييت له، وبسبب ذلك، وليس بتأثير يهودي صهيوني من داخل الحزب. وعلى كل، فنحن اليوم وقيادة فتح نفسها تقر بالتقسيم وتناضل من أجل دولة فلسطينية تعيش بجوار دولة إسرائيل.
وأذكر أن الحديث عن تصهين ساسون دلال تكرر عام 1999 في صحيفة العراق الحر المعارضة التي كانت تصدر في لندن. وأذكر أن مراد العماري كتب ردا في نفس الصحيفة وناشدني توضيح الأمور. وقد نشرت بالفعل مقالا عن الموضوع عنوانه ساسون دلال شهيد مبادئه الشيوعية[ العراق الحر- 24-11- 1999. وما أقوله عن ساسون ينطبق عندي على كل المناضلين اليهود الذين عرفتهم في السجن وخارجه، ومن المؤلم أن الحزب الشيوعي لم يدرج ساسون دلال بين قائمة شهداء الشيوعية.
****
أخطاء في قراءة الأسماء الحزبية [ المستعارة]
وبسبب الاعتماد الكلي على معلومات ووثائق الامن العراقي في العهد الملكي وفي عهدي العارفين يقع المؤلف في أخطاء مربكة للقارئ حول التوجهات السياسية والفكرية لعدد من الاعضاء القياديين في الحزب الشيوعي. ومثال ذلك استناده إلى مؤلف سمير عبد الكريم [ المنسوب لمالك سيف]، والذي صدر بإشراف الأمن في عهد البعث في الثمانينات، في قراءة الأسماء الحزبية لمن حضروا في براغ اجتماعات اللجنة المركزية مع الكوادر المتقدمة في الخارج في نوفمبر 1965 بعد تراجع الحزب عن خط آب. وكانت الاجتماعات مكرسة للإستراتيجية الواجب اتخاذها لتسلم السلطة انفرادا، أو مع قوى أخرى- هذا مع أن الحزب كان لا يزال يعاني من الضربات الكبرى التي أصابته. وقد حضر الاجتماعات من يمثلون اتجاهات متضاربة. ولذلك فالخلط في الأسماء يربك القارئ الذي يريد أن يعرف ما كان يدعو إليه كل من المجتمعين. مرة أخرى، لست هنا بصدد تقييم الآراء فهذا ما بحثته في معظم كتاباتي من وجهة نظر انتقادية وصارمة.
الأمثلة:
يترجم المؤلف اسم [فاخر] وكأنه لعبد السلام الناصري والحال هو لبهاء نوري. ويترجم اسم [ياسر] وكأنه لبهاء بينما هو لعبد السلام. واسم [مأمون] ليس لثابت العاني بل لنزيهة الدليمي. و[دحام] هو رحيم عجينة لا مهدي عبد الكريم. و[صابر] ليس باقر الموسوي بل نوري عبد الرزاق- علما بأن نوري ورحيم عجينة كانا معارضين لخط آب [ 1964 ] ،ولذلك يكون مربكا ان تنسب لهما آراء مؤيدين لذلك الخط، وبالعكس أن تنسب آراؤهما لآخرين يقفون بالضد.
وبمناسبة خط آب، الذي تناولته من قبل في مقالاتي وفي كتاب رحلة مع تحولات مفصلية، فإن بطاطو ينسب لي أنني كنت من وراء بيان معارض للخط صدر في براغ بتوقيع [لفيف من الشيوعيين]. والحال إن هذا ليس صحيحا رغم أنني كنت أعرف مصدّري البيان وكنت أختلف مع بعض تحليلاتهم.
ونموذج آخر عن مخاطر عدم التدقيق أن المؤلف يورد أن المرحوم والدي كان عامل حمل. ويظهر أن الأمر التبس عليه في فهم معنى ما ورد في وثائق التحقيقات الجنائية حيث وصفوا مهنة بالوالد ب[ حمال باشي]، وهي على ما اعتقد كلمة تركية وتعني متعهد عمال الحمل، إذ كان متعهدا في الجمارك، وخصوصا في رصيف الجمرك الذي كان يشغل بناية المدرسة المستنصرية، حيث تستقر بواخر الشحن القادمة من الخارج. وكان العمال من الكورد الفيلية الأشداء، ولم تكن هناك عهد ذاك من طريقة غير حمل البضاعة على الظهر. والحمالة مهنة شاقة وهي شريفة وبعرق الجبين. وكان الوالد يرعى العمل ومعظمهم من الأقارب القريبين أو البعيدين، ويساعدهم وأبناءهم. وخطأ بطاطو هنا تناقله غيره في دراسات لاحقة ومنهم الأستاذ عباس الكليدار الذي نشر دراسة عني في كتاب لعدة باحثين بالإنجليزية عن العراق الحديث[ The Integration of Modern Iraq-1979. وقد اعتبر ان أحد أسباب انتمائي للشيوعية يعود لوضعي العائلي المتواضع، وهو غير صحيح. وإنما كانت الأسباب تأثرا بالدعاية الشيوعية لما بعد الحرب الثانية وخاصة في كلية دار المعلمين العالية، ولكثرة مطالعاتي الماركسية، ولتأثري بالأوضاع المأساوية لكادحي العراق خلال تلك الحرب، ومأساة الفلاحين خاصة. كانت عندي كما لآخرين ثورية الشباب وأحلامهم الرومانسية من الطابع الإنساني، مع التشبث بنصوص المقولات النظرية الماركسية. وكما يقول جورج طرابيشي عندما نكون ماركسيين لا نفكر، بل تفكر الماركسية عوضا عنا. وتبقى الأحلام الرومانسية الإنسانية تلك شيئا نبيلا. ولا ندم على أني وأمثالي آمنا بها فترة من الزمان وعملنا لتحقيقها، ولكن الندم على كبريات الأخطاء السياسية والفكرية.[1]