كلناز يوسف
حضارة حلف أو الحضارة الحلفية تُعدُّ من أهم وأشهر حضارات ما قبل التاريخ في الجزيرة السورية نسبة إلى تل حلف والتي تقع شمالي غربي مدينة سري كانيه على ضفة نهر الخابور بالقرب من الحدود السورية التركية وقد نقب في التل الباحث الألماني فون أونيهايم في الفترة 1899 – 1940م، حيث وجد الآثار الأولى لهذه الحضارة والتي عاشت خلال النصف الثاني من الألف السادس ق.م والألف الخامس ق.م وانتشرت وامتدت من نهر الفرات في الغرب إلى نهر الزاب الكبير في الشرق وعلى شكل قوس شكلت جبال طوروس حدودها الشمالية، بالإضافة إلى جيوب كانت منتشرة في الأناضول.
زراعة متطورة وصناعة متقدمة
تقدمت الحياة في عصر حلف في عدة مجالات حيث تطورت صناعة الفخار وتقدمت بشكل كبير إلى درجة أن الباحثين يؤكدون بأن الفخار الحلفي وصل إلى درجة لم يتسن التوصل إليها فيما بعد ذلك، لا في بلاد الرافدين ولا في المناطق الأخرى والمجاورة رغم أنها كانت مصنوعة يدوياً.
صُنعت آنية حلف من طين ممتاز وجدران الآنية رقيقة في الغالب إلى درجة مدهشة، وقد زخرفت بأشكال هندسية وفنية متنوعة وأزهار وطيور وأسماك وغزلان وأشجار النخيل، وأكثر الزخارف ميزة الفؤوس المزدوجة والصلبان المالطية ورؤوس ثيران محورة بقرون طويلة، ويطلق على هذا النموذج الأخير – بوكرانيات – كما ظهر في المرحلة الحلفية الأخيرة /النصف الأول من الألف الخامس ق.م/ الآنية التي عرفت بقشرة البيضة والتي بلغت درجة عالية من الرقة والجودة والإتقان.
أما بالنسبة للصناعات الأخرى فقد تطورت صناعة النسيج الذي كان من الصوف بشكل رئيسي، وصنعوا الملابس والمطرزات والحصر والسلال وقد كانت هذه الحرف جديدة، كما كانت لدى الحلفيين ورشات لتصنيع الصوان والذي صُدر إلى مناطق مختلفة بعيدة وخلال المرحلة الحلفية الأخيرة /النصف الأول من الألف الخامس ق.م/ تم صنع أدوات الزينة وأدوات خفيفة من المعادن كالنحاس والرصاص.
أما بالنسبة للزراعة فقد قام الحلفيون بتطويرها وغدت أكثر إنتاجية حيث استنبتت أنواع جديدة من الحبوب واعتمدوا على الزراعة المروية والبعلية معا وزرعوا القمح والشعير والكتان والقنب وقاموا بتدجين الغنم والماعز والخنزير وازداد دور التدجين وتربية الماشية، في الحياة الاقتصادية وفي مجال التجارة كانت واسعة ومنظمة، تحكموا من خلالها بمنطقة واسعة لم تسبقهم أي حضارة في بلوغ ذلك الاتساع فقد استوردوا “الأوبسيدان” من الأناضول وأصداف المحيط الهندي من الخليج العربي، وبالمقابل قاموا بتصدير الفخار الحلفي المتميز بجودته وقد عثروا على نماذج منه قرب “بحيرة وان” ويعتقد أن هذا الموقع كان سوقا لبضائع حلف كما وجد أن الفخار الحلفي في “مالاني” وفي مواقع أخرى ممتدة من الخليج العربي وحتى البحر الأبيض المتوسط.
نموذج البناء الحلفي
أما بخصوص العمارة فإلى جانب استخدام الحلفيين البيوت المشيدة من الطين والقصب فأنهم ابتكروا نوعاً جديداً من البيوت دائرية الشكل ذو سقوف مقببة، جدرانها رقيقة من الطين المدكوك، وقد طلي بالجص الأبيض، مدخله مستطيل وقد أطلق عليه الاسم اليوناني – ثولوس – لأنه يشبه خلايا النحل، ويعتقد ان هذه البيوت شيّدت لأداء الطقوس الدينية، أي المعابد، إلى جانب أنها استخدمت للسكن أيضاً كما ظهرت في بعض المواقع وفي الفترات اللاحقة وبدءاً من مطلع الألف الخامس ق.م شيد الحلفيون بيوتاً مستطيلة، وشيدوا أكثر البيوت الدائرية وزادوا في حجمها إلى أن اختفت هذه البيوت الدائرية لتحل محلها البيوت المستطيلة فقط.
الطقوس الدينية والفن في تل حلف
وفي مجال الفنون فإن الحلفيين صنعوا التمائم والأختام، وقاموا بزخرفة الفخار برسم بديعة كما ذكرنا، وقد صنعوا بشكل كبير تماثيل الآلهة الأم وهي بأوضاع مختلفة جاءت آثارها من مواقع مختلفة كتل أسود وشاغر بازار وغيرها، ويؤكد هذا على انتشار وترسيخ عقيدة الأم، ولا ينكر دور الثور في المعتقدات الحلفية، ففي تل أسود تم العثور على الجماجم مدفونة لهذا الحيوان المقدس إلى جانب أنهم صنعوا تماثيل صغيرة مختلفة.
أما ما يخص الطقوس الجنائزية، فإنهم مارسوا أنواع مختلفة من الدفن كالدفن العادي حيث بوضع الميت في حفرة، ويمدد على جنبه أو يكون مثني الركبتين والرأس، ومتجه نحو الجنوب غالباً، كما أنهم دفنوا الجماجم فقط بعد أن فصلوها عن الجسم، كذلك قاموا باتباع أسلوب حرق الجثة ووضعها في الجرار، واقتصر هذان الطقسان الأخيران على الكبار فقط دون الأطفال.
لقد جاءت آثار الحلفيين من مواقع كثيرة كتل كشكشوك وتل أسود وتل صبي أبيض وتل حلف وتل شاغر بازار وتل عقاب وتل خزنة وشمس الدين طنيرة وغيرها من المواقع المنتشرة في الجزيرة وعلى الفرات أو مواقع خارجة عنه.
مع اختفاء الحضارة الحلفية نتيجة غزو من سكان جنوب الرافدين كما يرى أغلب الباحثين، تنتشر حضارة أخرى هي الحضارة العبيدية نسبة إلى تل عبد. [1]