#عبد الحسين شعبان#
الأقليات الدينية والقومية والثقافية واللغوية في العراق تمتد أصولها إلى تكوينات عريقة ساهمت في بناء العراق، ولذلك فإن تعريضها لحروب إبادة أو تهجير أو انتقاص من حقوق المواطنة ومبادئ المساواة والمشاركة، سيؤدي إلى تغيير وجه العراق، بل يفقده إحدى خصائصه الأصيلة ومعالمه الشهيرة.
أثارت التفجيرات الانتحارية الدامية في القرى الأيزيدية العراقية في قضاء سنجار شمال غرب العراق بالقرب من الحدود السورية أسئلة جديدة حائرة ومحرقة عن العلاقات الشائكة بين التكوينات العراقية؛ أكثريات وأقليات. وتدفع الوقائع المأساوية وخصوصاً استشراء العنف الطائفي المذهبي والعدد الضخم من الضحايا من العرب والكرد والتركمان؛ سنّة وشيعة، ومسلمين ومسيحيين وأيزيدين وصابئة وغيرهم، إلى الاعتقاد بأن هناك حملات منظمة لتصفيات مذهبية أو طائفية أو اثنية وخصوصاً ضد الأقليات المستضعفة، التي لا يمكن للدولة حمايتها ولا وجود لميليشيات أو مسلحين يذودون عنها، في إشارة الى عمق الأزمة السياسية التي يتخبط فيها العراق ومعه الاحتلال الأميركي، الأمر الذي يتطلب فتح ملف الأقليات الدينية والقومية واللغوية في العراق.
فليس قتل ما يزيد على 400 إنسان، حسب معلومات وزارة الداخلية العراقية، أمر ينبغي أن يندرج في إطار موجة العنف والإرهاب المتفشي في العراق، فالمذبحة المرّوعة بحق الطائفة الأيزيدية التي يزيد عددها في العراق على 200 ألف إنسان، تؤشر إلى أن العراق، الذي امتاز بتاريخه الطويل بتنوع التكوين الديني والاثني واللغوي والثقافي، الشديد الترابط في الوقت ذاته، بدأ يفقد يوماً بعد يوم تعدده وتنوعه ويتحوّل الموزاييك الديني والطائفي والفسيفساء القومية واللغوية والثقافية، إلى تمترسات واحتقانات وتصفيات معلنة أو مستترة.
فالمسيحيون الذين ساهموا على مدى تاريخ العراق والشرق العربي مساهمات جليلة في جميع الميادين الفكرية والثقافية والعلمية، تعرّضوا إلى حملة منظّمة استهدفت كنائسهم فاقتيدوا بتهمة «زيد» والمبتغى «عمرو»، واستغلت مسألة نشر صور مسيئة الى الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- في صحيفة دانمركية وما ذكره البابا في محاضرة له بخصوص نبي المسلمين من إساءات، ليتعاظم التنكيل بالمسيحيين، ويضطر عشرات الآلاف منهم إلى الهجرة من البصرة والموصل وكركوك وبغداد إلى خارج العراق، وقسم منهم اختار المنافي البعيدة، ليلتحق بأكثر من 120 ألف مسيحي في ديترويت، هاجروا من العراق لأسباب تتعلق بالاضطهاد والتمييز الديني والثقافي والسياسي وخلال فترات الحروب والحصار.
لقد سقط مئات من الأيزيدين قتلى وجرحى بعد أربعة تفجيرات متزامنة في قضاء سنجار بواسطة صهاريج مفخخة استهدفت أماكن سكناهم ومراكز التجمع. الأيزيديون هم طائفة مثل عشرات الطوائف والعقائد والتكوينات الكبيرة والصغيرة، التي ظهرت في الشرق لهم طقوسهم ومقدساتهم رغم انغلاقهم على أنفسهم بسبب تعرّضهم إلى اتهامات ظالمة، فقد كان الأيزيدون منذ القرن الثاني عشر فرعاً أو مذهباً أو طريقة في الإسلام.
الأقليات الدينية والقومية والثقافية واللغوية في العراق تمتد أصولها إلى تكوينات عريقة ساهمت في بناء العراق، ولذلك فإن تعريضها إلى حروب إبادة أو تهجير أو انتقاص من حقوق المواطنة ومبادئ المساواة والمشاركة، سيؤدي إلى تغيير وجه العراق، بل يفقده إحدى خصائصه الأصيلة ومعالمه الشهيرة، فهو من أكثر بلدان العالم تعدداً وتنوّعاً واجتذاباً لكل ما نزل من السماء، وكانت أرض العراق الخصبة حاضنة للحضارات الإنسانية طوال حقب زمنية سبقت الإسلام، وما بعده يوم تحول إلى دولة مترامية الأطراف والتخوم، وكل ذلك لم يكن بمعزل عن مساهمة فعّالة للأقليات.
ولعل إعلان الأمم المتحدة بشأن «حقوق الأقليات» عام 1992 كان مصيباً حين أكدّ «... أن تعزيز وحماية حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو اثنية وإلى أقليات دينية ولغوية، يسهمان في الاستقرار السياسي والاجتماعي للدول التي يعيشون فيها».
وتعتبر الامم المتحدة حماية الأقليات الأكثر إلحاحاً، حيث يحظر ميثاقها التمييز بحق الأقليات ولأي اعتبار، كما ذهبت إلى ذلك المادة الأولى والخامسة والخمسون، وهو ما أكدته المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر عام 1948، وهو ما تناولته المادة الثانية من العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية وبالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لعام 1966 (الصادرين عن الجمعية العامة للأمم المتحدة واللذين دخلا حيّز التنفيذ في عام 1976).
وأكد إعلان الأمم المتحدة على منح الحقوق الخاصة للأقليات لتحقيق المساواة في المعاملة، مثلما حددت المادة 27 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وعدم جواز حرمان الأشخاص المنتمين إلى أقليات اثنية أو دينية أو لغوية من حق التمتع بثقافاتهم الخاصة أو إعلان وممارسة دينهم أو استخدام لغتهم بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتهم، مؤكدة على حقهم في هوية خاصة والحفاظ على الخصائص التي يريدون صونها وتنميتها، وهو ما ذهب اليه إعلان الأمم المتحدة.
إن تفجيرات قرى الأيزيدين « القحطانية والعدنانية» هي رسالة مهمة بضرورة فتح ملف الأقليات وقراءته في ضوء قواعد القانون الدولي الإنساني ومبادئ حقوق الإنسان، بحيث لا يتم تجييره لأغراض سياسية ضيقة أو مصالح أنانية، على حساب حقوق الأقليات، وبالأخص حقها في العيش بسلام ودون خوف وحق التمتع بثقافاتها وحقها في المشاركة بالقرارات التي تخصّها، وذلك واجب على الدولة العراقية وفي ظرفنا الملموس واجب على المجتمع الدولي أيضاً لا يمكن إهماله أو التهاون بشأنه بما يرتب من مسؤوليات.[1]