(تركيا) ..... الى أين؟ -30- الكفاح المسلح الكوردستاني في الميزان
د. مهدي كاكه يي
يتم إتباع حرب العصابات في كثير من دول العالم كوسيلة لتحرير بلدانٍ محتلة أو مستعمرَة أو لإسقاط سلطاتٍ حاكمة و إستلام الحكم كما حصل في روسيا القيصرية والصين وكوبا وفيتنام و كوردستان وغيرها. حرب العصابات المرتكزة على عمليات الكرٍّ و الفرّ وعنصر المباغتة و إجبار الجهة المعادية على نشر قواتها على رقعة جغرافية واسعة، تعمل على تشتيت هذه القوات و صعوبة السيطرة على هذه المنطقة الجغرافية الكبيرة. تتم حرب العصابات بين جبهتَين غير متكافئتَين في القوة، حيث يستعمل الجانب الضعيف هذا الأسلوب من الحرب لتجنب المواجهة الجبهوية للإستعاضة عن ضعفه و خلق توازن في القوة مع خصمه الأقوى لتكبيد الجبهة المقابلة خسائر بشرية ومادية كبيرة مقابل خسائر قليلة في صفوفه و ذلك بتجميع قواتٍ للتفوّق على الخصم في العدد والعُدّة و بعد تحقيق الهدف تتفرق القوات المجتمعة لتفادي مواجهة جبهوية مباشرة مع الفريق الآخر الأقوى. من خلال هذا الأسلوب من الحروب قد تتمكن قوة صغيرة أن تُكبّد قوة كبيرة خسائر بشرية ومادية كبيرة مقابل خسائر قليلة و بهذا يتمكن الجانب الضعيف المحافظة على قواته المعدودة العدد و العُدة و الحفاظ على موارده المالية المحدودة.
إن من أسباب إستخدام كوردستان كساحة لحرب العصابات من قِبل الثورات الكوردستانية هي
معرفة الثوار لتفاصيل جغرافية كوردستان و التي تُتيح لهم خوض حروب و معارك فيها بنجاح، حيث يعرفون بدقة المواقع الإستراتيجية التي يمكن التخندق فيها و الدفاع عنها و تكبيد المحتلين خسائر كبيرة و الوقوف بوجه هجمات المحتلين و شن هجمات مضادة على القوات المعادية. من خلال معرفة تضاريس كوردستان و جغرافيتها، يعرف الثوار الأماكن الصالحة للإختباء و الراحة و النوم و الإستحمام و مصادر التزود بالماء و الطعام و الملابس و الوقاية من البرد و الحر.
لِكون معظم الثوار من سكان القرى و الأرياف التي تدور الثورات المسلحة فيها، فأن الثوار يعتمدون على السكان المحليين في حصولهم على الغذاء و المأوى و أماكن آمنة للراحة و السكن و التزود بالمعلومات عن تحركات العدو و خططه و الحصول على الأسلحة و الأموال و أن السكان المحليين يكونون المصدر الرئيس للمقاتلين و تعويض الثوار للخسائر البشرية التي يتكبدونها و ذلك بإلتحاق المزيد من المزارعين و الريفيين بصفوف الثورات الكوردستانية.
تكمن وراء جعل كوردستان ساحةً وحيدة للثورات الكوردستانية، أسباب تأريخية. عبر التأريخ كان الكوردستانيون يلجأون الى جبالهم المحصنة كلما شعروا بالخطر، حيث أن كوردستان لها موقع إستراتيجي مهم و أنها بلد غني بموارده الطبيعية من زراعة و مياه و بترول و معادن و لهذا السبب تعرضت كوردستان الى الكثير من الغزوات عبر التأريخ، حيث تم إحتلالها و تقسيمها بين عدة دول. لولا التضاريس الجبلية الوعرة لكوردستان لربما كان يتم تعريب و تفريس و تتريك كوردستان بأكملها، بأرضها و سكانها، كما حصل بالنسبة لقسم كبير من المناطق السهلية من كوردستان و لسكانها الكورد.
كما أن الثوار الكوردستانيين بحاجة الى أن تُقام ثوراتهم على أرض كوردستان، حيث أنهم يستفيدون من منافذ الحدود مع الدول الأخرى للحصول على المساعدات العسكرية و اللوجستية و المعيشية و إتخاذ الأراضي الكوردستانية المحتلة من قِبل البلدان الأخرى كمناطق آمنة لهم. كما أن التواجد على الأرض الكوردستانية يرفع من معنويات الثوار و شعب كوردستان على السواء.
إن القيام بالثورات المسلحة في كوردستان و التخندق فيها و جعلها ساحةً وحيدةً للعمليات العسكرية الناشبة بين شعب كوردستان و محتليها، له آثار إجتماعية و صحية و نفسية و بيئية و إقتصادية كارثية، تؤثر على شعب كوردستان بشكل سلبي لأجيال عديدة. لذلك فأن أسلوب حرب العصابات الكلاسيكية الذي إتبعها القادة الكوردستانيون خلال الثورات التي تم القيام بها، كانت كارثةً كبرى لشعب كوردستان و كان على القادة الكوردستانيين أن يعرفوا المأساة الإنسانية و النتائج الكارثية على البنية الإجتماعية و النفسية و الإقتصادية و البيئية التي يُسببها جعل الأراضي الكوردستانية ساحةً للموت و الحروب و الدمار و التشرّد.
صحيح أنه في الأزمنة السابقة كانت حكومات الدول المحتلة لكوردستان تستعمل أساليب الإبادة الجماعية و القوة و البطش ضد النضال الكوردستاني، إلا أنه لو كانت هناك قيادات سياسية كوردستانية محنكة و كفوءة و مخلصة، لَكانت لا تتبع التقليد الأعمى لحرب العصابات التقليدية التي تم إتباعها في مناطق أخرى من العالم و لَكانت تدرس كافة الوسائل الممكنة للنضال الكوردستاني لضمان نجاح الثورات الكوردستانية من جهة و التقليل من التضحيات الجسيمة التي قدمها شعب كوردستان والمآسي التي تعرض لها بسبب إنحصار العمليات العسكرية ضمن حدود كوردستان من جهة ثانية. كما أن جميع الثورات القائمة في كوردستان إتبعت إستراتيجية دفاعية بدلاً من إستراتيجية هجومية و بذلك كانت القوات الكوردستانية تتحصن في الجبال و تسمح للقوات المحتلة أن تهاجم كوردستان و تُبيد البشر و الحيوانات و الزرع و تُدمّر كوردستان و تُشرّد مواطنيها و تقوم بأنفلتهم و إبادتهم بالأسلحة الكيميائية و التقليدية. نعم كان في وسع قيادات الثورات الكوردستانية الإنتصار على المحتلين و تحقيق إستقلال كوردستان لو كانوا يتبعون أساليب نضالية أخرى الى جانب الكفاح المسلح على الساحة الكوردستانية و كذلك كانوا يستطيعون التقليل بشكل كبير من التضحيات البشرية و المادية التي قدمها شعب كوردستان و لَكان المجتمع الكوردستاني يتفادى بشكل كبير الخراب الإجتماعي و الإقتصادي اللذين تعرض لهما و لَإنخفضت الأضرار الكارثية التي تعرضت لها بيئة كوردستان.
كانت هناك وسائل أخرى صائبة و فعالة للنضال التي كان يمكن إتباعها من قِبل قيادات الثورات الكوردستانية الى جانب الكفاح المسلح في كوردستان. تتمتع ظروف شعب كوردستان بميزة إيجابية هامة جداً، وهي عيش الملايين من الكورد في المدن الكبرى للدول المحتلة لكوردستان، مثل طهران و خراسان و إستانبول و أنقرة و إزمير و بغداد و جنوب العراق و دمشق و غيرها من المدن. لو كانت القيادات السياسية الكوردستانية تقوم بتوعية و تعبئة الجاليات الكوردية هناك و تنظيمهم و تدريبهم على حرب المدن و الشوارع و زرع الألغام و غيرها، لَكانوا يستطيعون نقل الحرب الى عقر دار المحتلين و لَكانوا يزلزلون الأرض تحت أقدامهم. كما كانوا يستطيعون تكبيد المحتلين خسائر إقتصادية كبيرة تهز عروشهم و تُنهي إحتلالهم لكوردستان من خلال ضرب المنشآت الإقتصادية الإستراتيجية و التي كانت بإستطاعة مجاميع صغيرة مؤلفة من بضع عشرات من الأشخاص القيام بمثل هذه المهمات بسهولة و كان من الممكن القيام بقسمٍ من هذه المهمات من قِبل أفراد مدنيين، دون الحاجة الى تكليف أشخاص مسلحين للقيام بها.
من ضمن بنود إتفاقية 11 آذار عام 1970 الذي تم إبرامها بين قيادة الثورة الكوردستانية في جنوب كوردستان و الحكومة العراقية البعثية، أن يتم تنفيذ ما تم الإتفاق عليه خلال أربع سنوات، حيث كان حزب البعث ضعيفاً آنذاك و فيه العديد من مراكز القوى و لم يكن مسيطراً على الحكم بشكل محكم، لذلك إحتاج البعثيون لهذه الفترة الزمنية لتثبيت حكمهم. فعلاً إستطاع هذا الحزب تصفية أعدائه و تقوية حكمه خلال الأربع سنوات التي أعقبت إبرام إتفاقية آذار. بعد إتفاقية آذار، إستغلت الحكومة البعثية فترة الأربع سنوات التي حُددت لتطبيق بنود بيان 11 آذار لصالحها، بينما القيادة الكوردستانية لم تضع إستراتيجية متكاملة تتضمن الجوانب السياسية و الإقتصادية و العسكرية و الإعلامية و التنظيمية و المخابراتية، لإفشال مخططات الحكومة العراقية و حماية شعب كوردستان و تحقيق طموحاته و أهدافه الوطنية و التصدي للقوات العراقية و العمل على هزيمتها فيما لو إندلعت الحرب بين الجانبين من جديد. كانت من نتائج هذه الأخطاء إنهيار الثورة الكوردستانية خلال أيام بعد إبرام إتفاقية الجزائر بين العراق و إيران.
كنتُ شاباً يافعاً عند صدور بيان 11 آذار و كتبتُ حينذاك في دفتر مذكراتي موضوعاً بعنوان الإستراتيجية الكوردستانية لتحقيق أهداف الشعب و الذي يتألف من 37 صفحة و لا زلتُ أحتفظ به. في هذه الكتابة رسمتُ إستراتيجية متكاملة لمواجهة مكائد و خطط البعثيين و من ضمن هذه الإستراتيجية كان إنشاء وحدات و خلايا مسلحة في المدن العراقية الكبرى التي تعيش أعداد كبيرة من الكورد فيها، و خاصة في بغداد و المبادرة بالهجوم على معاقل البعثيين في مدنهم فيما لو تملصوا من تنفيذ إتفاقية 11 آذار، إلا أنه بكل ألمٍ أقول بأن القيادة الكوردستانية لم تضع خططاً لمواجهة الحكم البعثي في حالة عدم تطبيق بنود الإتفاقية، بل أنه بعد ظهور ملامح إنهيار الإتفاقية المذكورة، توجّه عشرات الآلاف من الكوردستانيين الى الجبال، مصحوبين معهم عوائلهم و بذلك أصبحت هذه الحشود البشرية عالة على الثورة و كان هذا الأمر أحد أسباب إعتماد الثورة الكوردستانية على مساعدة النظام الإيراني، حيث أن حرب العصابات لا تحتاج الى قوات بشرية كبيرة و لا تنسجم حروب الكر و الفر مع وجود أُسر الپێشمەرگە معهم و هكذا كانت النتيجة مأساوية لشعب كوردستان، حيث إنهارت الثورة الكوردستانية خلال بضع أيام بعد إبرام إتفاقية الجزائر بين العراق و إيران.
المأساة هي أن القيادات الكوردستانية تقوم دائماً بتبرئة نفسها من مسئولية فشل الثورات التي تقودها و تقوم بتحميل جهات خارجية مسئولية فشل هذه الثورات و كأنما هذه القيادات هي عبارة عن رُقع شطرنج، ليست لها أي دور في إدارة الثورات و إتخاذ القرارات و أن العوامل الخارجية هي وحدها تتحكم بمصير الثورات و الإنتفاضات الكوردستانية التي يرتبط بنتائجها مصير شعبٍ تُقدر نفوسه بأكثر من 50 مليون نسمة.
نقطة مهمة أخرى هي أنه رغم فشل القيادات الكوردستانية في تحقيق أهداف الثورات الكوردستانية و تسببها في قتل و إبادة مئات الآلاف من مواطني شعب كوردستان من خلال تعرض شعب كوردستان لحملات الأنفال و إستخدام الأسلحة الكيميائية و التقليدية و تدمير كوردستان، فأنه لا تتم محاسبة أو محاكمة هذه القيادات و على الأقل إجبارها على التخلي عن القيادة لتحل محلها قيادات كفوءة و مخلصة قادرة على تحقيق أهداف الشعب في حق تقرير المصير، بل تستمر هذه القيادات في رئاسة أحزابهم السياسية و قيادة الثورات الكوردستانية و بعد موتهم يتوارث أبناؤهم و أفراد عوائلهم القيادة من بعدهم. هذه الظاهرة هي أحد الأدلة الذي يُبين بأن المجتمع الكوردستاني هو مجتمع متأخر يُضحي بحياة أفراده و بممتلكاته دون العمل على محاسبة قياداته السياسية على أخطائها و حتى على خياناتها و القيام بإجراء تقييم علمي موضوعي لتلك الثورات لإعادة النظر بالأخطاء التي تم إرتكابها خلال مسيرات تلك الثورات. رغم التضحيات البشرية و المادية الجسيمة التي يقدمها شعب كوردستان في نضاله الطويل و تدمير آلاف القرى الكوردستانية و تهجير الملايين من الكوردستانيين، فأن المجتمع الكوردستاني لا يهتم و لا يطالب بمعرفة أسباب الإنتكاسات و الهزائم التي مُنيت بها الإنتفاضات و الثورات الكوردستانية خلال مسيرة كفاحه من أجل تحقيق حريته و التمتع بحقوقه، لوضع إستراتيجية جديدة صائبة تُحقق الأهداف الكوردستانية.
إن الحروب لها آثار سلبية خطيرة على الجوانب الإجتماعية و النفسية و الإقتصادية و البيئية، بل أن جميع مرافق الحياة و عناصر التقدم تُصاب بالعطل، حيث تبرز مشاكل خطيرة في كافة مجالات الحياة و التي تستمر لعشرات و ربما لمئات السنين.
إن الحروب تؤدي الى الموت و الخراب و التشرد و الفقر و المجاعة و البطالة و الفوضى و غلق المدارس و الجامعات و التي هي آفات إجتماعية خطيرة تفتك بالمجتمع و تُدمّره. هذه النتائج السلبية للحروب تعمل على تدمير البُنية الإجتماعية و تؤدي الى إنتشار الجريمة و السرقة و الفساد الإجتماعي و خراب العلاقات الإجتماعية و تفكك الأسرة و إنتشار الأُمية و إختفاء القيم الإنسانية و إنخفاض نسبة الذكور بسبب قتلهم في الحروب و المعارك المندلعة و زيادة كبيرة في نسبة العازبات بشكل خاص و العازبين بشكل عام بسبب الخلل الناتج في نسبة الذكور و الظروف الصعبة التي تخلقها الحروب. كما أن من نتائج الحروب هي تهجير و هجرة المواطنين الى خارج كوردستان و زيادة كبيرة في نسبة الأيتام و الأرملات و المشردين و إنتشار ظاهرة الدعارة و تشغيل الأطفال، حيث يكافح الإنسان في ظل مثل هذه الظروف العصيبة من أجل البقاء و إستمرارية الحياة. هذه المشاكل التي تخلقها الحروب تؤدي الى خراب كارثي في الجانب الإجتماعي الذي يحتاج الى وقت طويل تمتد لأجيال لعلاجه و يتطلب الكثير من العمل و المال لمعافاته.
الإنسان الذي يعايش الحروب، حيث أزيز و قصف الطائرات و المدافع و الدبابات و الإنفجارات التي تحدث و أشلاء القتلى المتناثرة و بُرك الدماء المنتشرة، يُصاب بأمراض نفسية عديدة مثل الكآبة و الشعور بالخوف و الفزع و الكوابيس المرعبة التي يعيش معها و السادية و الرغبة الجامحة في العنف و غيرها من الأمراض النفسية التي تخلق مجتمعاً غير سويّ و تؤثر سلباً على جميع نواحي الحياة بما فيها الحياة الإجتماعية و القدرة على العمل و الإنتاج، بالإضافة الى التكاليف المباشرة الباهضة التي يتطلبها علاج الأشخاص المشاركين في الحروب و كذلك المدنيين الذين عايشوا هذه الحروب.
التأثير السلبي الكبير للحروب على إقتصاد البلاد واضح، حيث تعمل على تدمير البُنية التحتية لتلك البلاد و تخريب مختلف مرافق الحياة من معامل و مصانع و مشاريع و مدارس و جامعات و بيوت و جسور و حرق المدن و القرى و الغابات و المزارع، بالإضافة الى التكاليف الباهضة التي تتطلبها مستلزمات الحرب من أسلحة و ذخائر حربية و وسائل المواصلات و بناء الملاجئ و علاج المصابين و تحمّل نفقات المهجّرين و المهاجرين و توفير أماكن سكن جديدة لهم. هكذا تُصيب الحرب الجانب الإقتصادي بالشلل و تقضي على فرص التطور في كافة مجالات الحياة، حيث أن الأموال هي إحدى المقومات الأساسية لتقدم البلد و تطوره و إزدهاره، فتتوقف النشاطات في مجال الزراعة و الصناعة و التجارة و التعليم و التمريض و العلاج و تقديم الخدمات و البناء و غيرها. كما أن تهجير و هجرة المواطنين الى خارج كوردستان تعملان على إنخفاض الثروة البشرية و الأيدي العاملة و الذي بدوره يساهم في إنخفاض الإنتاج و الإنتاجية.
إن جعل كوردستان ساحةً للحروب و المعارك، يؤدي الى تدمير بيئة كوردستان و إختلال نظامها البيئي. لقد أصبحت كوردستان ساحة للحروب التحررية لفترة طويلة و بذلك تم تلويث بيئتها و الإخلال بالتوازن البيئي فيها. لقد تم إستخدام الأسلحة الكيميائية ضد المواطنين الكوردستانيين من قِبل الدول المحتلة لكوردستان و التي لا تزال آثارها الخطيرة تؤثر على صحة و حياة المواطنين و على الإنتاج الزراعي و الحيواني و الغابات. من النتائج الوخيمة التي خلفتها الأسلحة الكيميائية المستخدمة ضد الشعب الكوردستاني من قِبل محتلي كوردستان، هي التشوّه الجنيني للولادات و تسمم التربة الذي يؤدي الى عدم صلاحيتها لنمو المزروعات و النباتات و الأشجار و تسمم مياه الأنهار و الجداول و الينابيع و الذي يجعل المياه غير صالحة للشرب و للإستعمال البشري و تسمم الهواء الذي يؤثر على المجاري التنفسية و الأعصاب و يُسبب الحروق و غيرها من الأضرار الصحية التي تعتمد على أنواع السموم المستعملة كأسلحة كيميائية. كما أن الحروب تُسبب إنبعاث الكثير من الغازات السامة و المضرة من خلال الذخائر الحربية المنفجرة و المتأتية من المركبات و السيارات و الدبابات و المصفحات و الطائرات المستخدَمة و بذلك يتم تسمم الهواء و المياه و التربة بها. كما أن بقايا العربات و السيارات و الأسلحة المُحطمة و المدمرة، تكون مصدراً لتلوث التربة. الألغام المزروعة من قِبل الدول المحتلة لكوردسان بدورها تُشكل مأساة إنسانية و مشكلة بيئية كبيرة. تدمير الشوارع نتيجة سير العربات العسكرية الثقيلة عليها يكون مصدراً آخراً لتلوث البيئة. تدمير القرى و البيوت و المباني و الينابع و حرق المزارع و الغابات و بناء تجمعات سكنية جديدة للمُرحلين و المهاجرين، يُضيف مشاكل إضافية خطيرة للبيئة الكوردستانية. من بين الآثار الخطيرة للملوثات المنبعثة للجو و المياه و التربة و المواد المعدنية المتروكة في العراء و تدمير الثروة الطبيعية لكوردستان نتيجة الحروب، هي إرتفاع درجات الحرارة و ظاهرة التصحّر و هبوب عواصف ترابية التي تشهدها كوردستان في الوقت الحاضر. من هنا ندرك بأن كوردستان بحاجة ماسة لإجراء مسح بيئي لها و دراسة الآثار الكارثية التي سببتها الحروب المندلعة فيها لوضع حلول لمشاكلها البيئية و الصحية من خلال إجراء بحوث ميدانية و مختبرية واسعة النطاق لمعالجة الآثار البيئية و الصحية السلبية التي خلقتها هذه الحروب.
مما تقدم، فأن الحروب تُسبب كوارث بشرية و مادية و بيئية خطيرة جداً، و عليه فأن إختيار كوردستان ساحة وحيدة للكفاح المسلح هو خطأ إستراتيجي كارثي، يتحمل القادة الكوردستانيون القائمون بهذا النوع من النضال البدائي المتخلف، تحمّل مسئولية آثارها المأساوية على شعب كوردستان. لذلك في حالة الإضطرار الى حمل السلاح، يجب إستخدام الأرض الكوردستانية بشكل محدود كساحة للعمليات العسكرية و العمل على نقل المعارك الى ساحات الدول المحتلة و توحيد القوات الكوردستانية و العمل السياسي الكوردستاني على نطاق الوطن الكوردستاني لتحقيق النصر خلال أقل مدة ممكنة و بالتالي تقليل الخسائر التي يتكبدها شعب كوردستان و خفض الدمار الذي تتعرض له كوردستان الى أقل نسبة ممكنة.
أود هنا أن أذكر بأنني شخصياً ضد الحروب، حيث القتل و إسالة الدماء و الدمار و أعتقد بأن العقل البشري لا يزال متخلفاً و عاجزاً عن فهم فلسفة الحياة. إن تطور العقل البشري الى المستوى الإنساني قد يحتاج الى مئات أو آلاف أو ملايين السنين و حينئذٍ يتحقق السلام على كوكبنا الأرضي و تسود العدالة الإجتماعية فيه و تشرق شمس الحرية في سمائه، فيما لو إستمرت الحياة على هذا الكوكب المهددة من قِبل الإنسان، سواء عن طريق خلق الحروب أو التلوث البيئي أو قد تُنهي الكوارث الطبيعية الحياة على كوكبنا.
أن تكون لدى كوردستان قوة دفاعية، ينبغي أن يكون معظمها قوات مدرّبة لخوض حرب العصابات و حرب المدن (الإستفادة من الإستراتيجية و التكتيكات العسكرية التي إتبعها حزب الله اللبناني في حربه الأخيرة مع إسرائيل) و نقل المعارك الى داخل البلدان المحتلة لكوردستان، بدلاً من جعل كوردستان ساحة للحروب التي تؤدي الى قتل و تشريد سكان كوردستان و تدمير البنى التحتية فيها و خلق مشاكل إجتماعية و إقتصادية و نفسية و صحية و بيئية كارثية، تمتد آثارها المدمرة لأجيال عديدة. الإستفادة من الملايين من الكورد الذين يعيشون في المدن الكبيرة للبلدان المحتلة لكوردستان من خلال تنظيمهم و تدريبهم لنقل الحرب الى قلب الدول المحتلة لكوردستان و جعل موازين القوى لصالح شعب كوردستان و تحرره.
من الوسائل الممكنة لتدريب الكوردستانيين على السلاح، هو تدريبهم في جنوب كوردستان و إستغلال الكورد لإداء الخدمة العسكرية في البلدان المحتلة للتدريب على مختلف صنوف الأسلحة و محاولة تكامل تعلّم كافة صنوف القتال عن طريق الخدمة في جيوش المحتلين. كما يمكن تهيئة كوادر عسكرية في مختلف الصنوف، و خاصة في مجال القوة الجوية بالحصول على زمالات و بعثات عسكرية من دول و تنظيمات و منظمات صديقة أو من الدول و المنظمات المعادية للدول المحتلة لكوردستان.
بالنسبة الى القوة الدفاعية لجنوب كوردستان، نظراً للخلل في توازن القوة بين جنوب كوردستان و الدول المحتلة لكوردستان، فأنه لا يمكن لحكومة جنوب كوردستان أن تخوض حرباً جبهوية ضد القوات المعادية. لهذا السبب فأن الإستراتيجية العسكرية الصحيحة في الجنوب ستكون الإعتماد على حرب العصابات في المناطق الجبلية و حرب المدن و التركيز على الأسلحة الدفاعية مثل الأسلحة المضادة للطائرات الحربية و طائرات الهليوكوبتر و الدبابات و الألغام و الأسلحة الدفاعية الخفيفة التي يمكن حملها و نقلها و إستخدامها بسهولة و كذلك تأسيس مجاميع قتالية خاصة للقيام بعمليات نوعية خلف القوات المعادية و في مناطق تواجد هذه القوات لتدمير مخازن الأسلحة و مصادر التموين و قطع الإتصالات بين مختلف الوحدات العسكرية للدول المحتلة لكوردستان و الإهتمام النوعي بجهاز المخابرات لجمع المعلومات الضرورية عن أهداف العدو و خططه و عدد و عُدة القوات العسكرية و مواقع إنتشارها و تحركاتها و قياداتها و إمكانياتها و غيرها. من شروط النجاح في الحرب التي يخوضها جنوب كوردستان، يجب تحقيق الإكتفاء الذاتي في المواد الغذائية و مصادر الطاقة و الألبسة و الأسلحة الدفاعية اللازمة. كما يجب التركيز على نقل الحرب الى داخل أراضي الدول المحتلة و هذا يتطلب العمل منذ الآن لتهيئة القوى البشرية و السلاح و وضع الإستراتيجية و الخطط و كل مستلزمات مثل هذه العمليات العسكرية التي ستُجرى على أرض العدو.
لوضع إستراتيجية متكاملة لتحرر كوردستان، يجب إيجاد مرجعية سياسية تنفيذية و تشريعية لشعب كوردستان لوضع الإستراتيجيات و تحديد آليات تحقيق أهدافها. تمر كوردستان و منطقة الشرق الأوسط و جنوب غرب آسيا بصورة خاصة و العالم بصورة عامة بتطورات و تغييرات تأريخية كبرى، تُلزم شعب كوردستان و خاصة النخبة منهم من مفكرين و مثقفين و أكاديميين و سياسيين، أن يدعوا الى عقد مؤتمر عام لتشكيل قيادة سياسية عامة و برلمان كوردستاني، يقودان شعب كوردستان الى حيث الإستقلال و الحرية في ظل الظروف الكوردستانية و الإقليمية و الدولية الحالية التي هي فرصة تأريخية للكودستانيين لكسر قيود الإحتلال و الذل و الإهانة و الدونية ليكونوا أسياد أنفسهم في وطنهم.
لذلك أدعو كافة النخب الكوردستانية و عشاق كوردستان الحرة المستقلة أن يبادروا الى عقد مؤتمر كوردستاني عام يتمثل فيه ممثلو شعب كوردستان لكافة أجزائه و ممثلو الكورد في كل من أرمينيا و أذربيجان و لبنان و أوروبا و أمريكا الشمالية و أستراليا و غيرها من دول العالم، لتشكيل مرجعية تنفيذية و تشريعية لشعب كوردستان لتحمل مسئولية إدارة تحرير كوردستان و شعبها من الإستعمار و الإحتلال الإستيطاني، و خاصة فأن الظروف الكوردستانية و الإقليمية و الدولية أصبحت أكثر ملاءمة بعد الإتفاق الأخير بين حزب العمال الكوردستاني و الحكومة التركية.
mahdi_kakei@hotmail.com
[1]