=KTML_Bold=دير الزور.. التاريخ، الجغرافيا، العمران، المجتمع 1=KTML_End=
الحسكة/ محمد حمود دير الزور، حاضرة وادي الفرات، ودرة الصحراء، مدينة كبيرة، قارب عدد سكانها منتصف عام 2002 نحو 195,121 نسمة، وإحدى البوابات الهامة بين الأجزاء الشامية من البلاد ومناطق إقليم الجزيرة، حيث عنابر سوريا الزراعية، ومكامن ثرواتها الطبيعية. عُرفت حتى عام 1864 باسم الدير فقط، نسبة إلى معبد للكهان يتوسط التل الاصطناعي الأثري الذي أُقيمت فوقه المدينة القديمة. ومؤخراً أضيف إلى الاسم كلمة «الزور» التي تعني ضفة النهر اللحقية الكثيفة الأشجار. أما أهل البادية وأطرافها، فقد أطلقوا عليها اسم «دير الشعار» لكثرة شعرائها من الرجال والنساء، ومنهم الشاعر محمد الفراتي.
التنظيم العمراني
تشير الوثائق التاريخية إلى أن دير الزور كانت إحدى مدن وادي الفرات التاريخية التي مكنها موقعها الجغرافي الممتاز في وسط سهول الفرات اللحقية الخصبة، من استقطاب طرق التجارة العالمية بين أطراف شرق البحر المتوسط من جهة، وقلب آسيا وأطرافها على المحيط الهندي من جهة أخرى، وأن تصير محطة للقوافل بين العراق وسوريا، يمر بها الطريق من دمشق إلى الموصل، والطريق من حلب إلى بغداد. وهي ميناء على نهر الفرات، ووسط عشائري منذ عدة قرون، وسوق تجارية للعشائر الموزعة في باديتها، ومركز إداري ومنارة إشعاع حضاري لهم. سماها الفرنسيون بابل الحديثة.
في البداية، أُقيم حيها القديم «الدير العتيق» فوق التل الاصطناعي الذي كونته أنقاض المدن التاريخية. وفي مطلع القرن العشرين، أُقيمت الأحياء الجديدة، ذات الشوارع العريضة المتوازية والمتعامدة مع مجرى النهر، لتمتد باتجاه الشمال والجنوب، على الجانب الأيمن للنهر، وعلى طرفي طريق حلب – البوكمال، وباتجاه الغرب على طرفي الطريق المتجهة عبر البادية نحو تدمر، ثم نحو دمشق وحمص، وباتجاه الشرق، على الجانب الأيسر للنهر، على طرفي الطريق المتجهة نحو الحسكة.
وفي عام 1969 أُزيل الحي القديم الذي كان يتوسط المدينة مع تله الأثري، دون أن يجري لآثاره المهمة أي توثيق، فبُني مكانهما حي جديد للمدينة يضم بعض الدوائر الرسمية والأسواق التجارية. وعندما أُزيل التل الأثري ظهرت في أسفله آثار أبنية قديمة من الآجر، يعود تاريخها إلى العهد البيزنطي. وتشير الروايات التاريخية إلى أن المدينة قد ازدهرت في العصر العباسي تجارياً وزراعياً بفضل ما شُقت فيها آنذاك جداول وترع، تروي بساتينها الحافلة بأنواع الفواكه، حيث اشتهرت باسم «دير الرمان»، وقد تولى حكمها مالك بن طوق التغلبي، والي في زمن المأمون، وقد سميت رحبة مالك بن طوق التغلبي.
دير الزور بدلالتها التاريخية
طوال عهد الاحتلال العثماني كانت المدينة محطة للمسافرين بين الشامية والجزيرة الفراتية، إلا أنها حتى عام 1920 كانت تتعرض بين الحين والآخر لهجمات البدو طمعاً في النهب.
وعندما استولى القائد المصري إبراهيم باشا على سوريا عام 1831، وصل جنوده إلى دير الزور بقيادة «قفطان» لينطلقوا منها إلى محاربة العثمانيين والانتصار عليهم في معركة «نزيب». وفي عام 1918، انسحب العثمانيون من المدينة، فدخلتها في العام التالي قوة بريطانية، تنفيذاً لما كان قد خطط له المستعمرون آنذاك. إلا أن ثورة المدينة، وبالتعاون مع العراقيين، أجبرت بريطانيا على الانسحاب إلى العراق، الأمر الذي دفع وزير المستعمرات البريطانية تشرشل، الذي هزته الثورة، التي عدها من الأحداث الكبرى في تلك المرحلة الاستعمارية. وفي عهد الانتداب الفرنسي أُهملت شؤون المدينة، وبقي أبناؤها حتى الاستقلال يتابعون تعليمهم في ثانويات حلب ودمشق، وكان اقتصاد المدينة في هذه المرحلة يقتصر على تربية الماشية والزراعة بالطرق القديمة؛ ما أدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فيها.
ومع إطلالة عهد الاستقلال تطورت المدينة تطورا ملحوظا في قيام الأبنية والمرافق العامة وبناء المدارس، حيث ارتفع عدد المدارس، وقد أنشئت كليات متعددة فيها تابعة لجامعة دمشق، وأصلحت شبكة الطرق، ونشطت التجارة، وازدهرت الصناعة والزراعة، وزاد عدد قطعانها من الأغنام والأبقار، خاصة بعد إقامة منشأة تربية الأبقار الأجنبية التي تضم أكثر من 1000 رأس، ما مكن المدينة من اكتفاء ذاتي في إنتاج الحليب وقد زاد عن حاجة سكانها.
أما “منطقة دير الزور”، فكان اسمها “محافظة الفرات” حتى عام 1953، وهي إحدى المواطن القديمة للحضارة الإنسانية، ونشاطات الإنسان المرتبطة بحياة الاستقرار قديمة فيها، بدأت منذ أن وجدت الجذور الأولى للحضارة البشرية شروطها المثلى على أرضها، وأراضي مناطق أخرى من سوريا وبلاد ما بين النهرين، فاستقر بها الإنسان فزرع وربّى الماشية، وأقام الصناعة، والتجارة، ومن ثم بني أول أشكال الحضارة.
ومنذ فجر التاريخ، كانت بعض المواقع فيها، بحكم وجودها على أحد طرفي نهر الفرات في وسط سهوله اللحقية الخصبة، موطناً لكثير من مواطن الحضارات الإنسانية القديمة التي يشهد ما تركته من آثار متوضعة فوق بعضها على شكل تلال اصطناعية، على المستوى الحضاري الذي وصلت إليه دول مدنها، ودور هذه الدول في تاريخ المنطقة، ولاسيما في ربط مواقع التجارة العالمية القديمة بعضها ببعض، مناطق شرقي وجنوب شرقي آسيا بأطراف البحر المتوسط، وبلاد ما بين النهرين ببلاد الشام، حيث توصلت بعض هذه الدول، ومنها مملكة ماري في تل الحريري، إلى الهيمنة شبه التامة بأسطولها النهري في الفرات على مرافق التجارة بين هذه المناطق، إذ وصل عدد سفنها التي تخدم التجارة النهرية بين كركميش (جرابلس) في الشمال، وأطراف الخليج العربي في الجنوب، إلى أكثر من 90 سفينة.
وهذه الهيمنة كانت تثير حسد وغضب حكام دول ما بين النهرين في العراق، وخاصة البابليون، فتدفعهم بين الحين والآخر لشن الحرب ضد ماري وتدميرها وتحويل أرباح تجارة الفرات لحسابهم.
الوجود البشري في دير الزور
استقر الإنسان في مناطق المحافظة، وخاصة الواقعة على ضفاف الفرات والخابور، في العصر الحجري الحديث، ومنذ الألف الثالثة قبل الميلاد تعاقب في الهيمنة عليها البابليون والآشوريون والفرس، ولحق بهم المقدونيون الذين استمرت هيمنتهم حتى عام 64ق.م، حيث شملها الحكم الروماني حتى الفتوحات العربية الإسلامية.
وهكذا فقد توالى على ضفتي الفرات والخابور في المحافظة، وعلى مر العصور، قيام الدول وممالك المدن التي لا يكاد يلحق الدمار ببعضها، حتى يعاد البناء من جديد فوق ما دمر، وتستعيد المواقع مكانتها لتتابع دورها الذي قامت من أجله بالاعتماد على شروط الوسط الطبيعي الملائمة، وعلى أهمية الموقع الجغرافي بالنسبة للعلاقات الدولية بكل أنواعها، وخاصة التجارية. وهذه هي حال المدن والمواقع الأثرية الكثيرة في المحافظة، والتي عرفت الإنسان السومري والأكادي والآرامي، لأن الموجات الوافدة إليها من الجزيرة العربية بسبب الجفاف لم تنقطع، وهي التي أنشأت في المنطقة منذ فجر التاريخ أهم الحضارات. وكانت جماعات السومريين في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، أولى القبائل القادمة، وتبعتهم في الألفين الثالثة والثانية قبل الميلاد قبائل الأكاديين والعموريين السامية. أخيراً أعقب كل ذلك القدوم الآرامي الذي أقام فوق أراضي المحافظة، في منتصف الألف الثانية قبل الميلاد عدة دويلات وإمارات آرامية مزدهرة، كدولة «آرام النهرين» بين الخابور والفرات عام 1300ق.م التي استمرت حتى القرن الثامن ق.م، حين قضى عليها الآشوريون. ثم مملكة «آرام بيت رحوب» في رحبة الميادين، وهي التي بُنيت على أنقاضها أولاً مدينة رحبة الأمير مالك بن طوق في العهد العباسي، ثم بلدة الميادين الحالية. ومن هذه الممالك الفراتية انطلق الآراميون إلى بقية أنحاء سورية يؤسسون الممالك الآرامية في حلب وحماة ودمشق.
وقد عرف العباسيون أهمية منطقة الفرات العسكرية والاقتصادية الكبيرة من حيث خصب أراضيها، وكثرة مدنها، وتوسطها بين العراق والشام والحدود البيزنطية، ومرور الطرق التجارية فيها، فأولوها اهتماماً كبيراً واختاروا مالك بن طوق والياً عليها، وهو الذي مدحه أبو تمام والبحتري في قصائد مدح معبرة.
وتوالى على المنطقة بعد ذلك السلاجقة، والزنكيون، ثم الأيوبيون، والمماليك، ليختتم العثمانيون هذا الوجود في المنطقة عندما احتلوا سوريا عام 1517، فأتبعوا المنطقة في البداية لولاية حلب. وفي عام 1868 جعلوها سنجقاً مستقلاً مركزه مدينة دير الزور، يضم أربعة أقضية، ضمنها ما يعرف حالياً بمنطقتي الميادين والبوكمال، وفيه المواقع الأثرية الآتية: (الدير العتيق، حلبية وزلبية، دورا أوروبوس “الصالحية”، ماري “تل الحريري”).
النكسات والتراجع
تراجع إعمار المنطقة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، عندما غزاها المغول، واكتسحتها جيوش تيمورلنك، فأصبحت مرتعاً للبدو ولقطعانهم، وتحولت رحبة مالك بن طوق إلى أطلال، وبقيت المنطقة شبه مهجورة حتى أواخر عهد الاحتلال العثماني. وعندما جعلت في متصرفية مستقلة باسم «سنجق دير الزور» تجمعت فيها جماعات مهاجرة كثيرة من العرب والكرد والأتراك والأرمن، لتستقر إلى جانب بدوها المتنقلين، إلا أن الإعمار الفعلي للمنطقة لم يتحقق إلا بعد الاستقلال واستتباب الأمن.[1]