ب. د. #فرست مرعي#
مما لا شك فيه أن الدراسات والأبحاث المتعلقة باليهود الكوردستانيين قليلة، والدراسات التي ظهرت الى عالم الوجود في القرن العشرين تتعلق غالبيتها بالدراسات الوصفية والسياسية والاجتماعية، ماعدا الدراسة الاثنولوجية والانثربولوجية القيمة التي قام بها الباحث اليهودي الالماني إريك براور( 1895 – 1942م) وأكمله الباحث الانثروبولوجي اليهودي الامريكي رافائيل باتاي(1910 – 1996م) حول يهود كوردستان والصادرة عن دار ئاراس للطباعة والنشر في اربيل بعنوان (يهود كوردستان).
دراسة (إريك براور) ومن بعده اضافات (رافائيل باتاي) لم تتطرق في حقيقة الامر الى كيفية انتقال اليهود الاسرى من فلسطين الى كوردستان على يد الملوك الاشوريين، و انما كان جل اعتمادها في المجال التاريخي على دراسات الرحالة اليهود الذين جابوا كردستان طولاً و عرضاً و كان همهم الاكبر البحث عن الاسباط اليهودية العشرة (الاسطورية) المفقودة، لذا بدأ بحثه ابتداءً من القرن الثاني عشر الميلادي عندما قام الرحالة اليهودي (بنيامين بن بونة التطيلي الاندلسي) برحلته الى كوردستان سنة 1171م، لذلك فان اكثر من1500 سنة من تاريخ اليهود الكورد مازالت غامضة وبحاجة الى ابحاث ودراسات معمقة تزيل الغموض عن هذا التاريخ الطويل. و لا اظن ان دائرة المعارف اليهودية (= الانسكلوبيديا اليهودية) رغم عمق دراسات وأبحاثها التي كتبت بيد مؤرخين ومستشرقين لهم باع طويل في منهج البحث العلمي؛ الى أنه لم تم تستطع ان تميط اللثام عن هذا التاريخ المجهول الى حد كبير.
إن أقدم وجود لليهود في العراق عامة وإقليم كردستان خاصة، يرجع دون شك إلى عهد الإمبراطورية الآشورية الحديثة الذي دام ثلاثة قرون كاملة من سنة 911 لغاية 612ق.م، وذلك حين حاول الآشوريون القضاء على المملكتين الاسرائيليتين ( يهودا – الجنوبية) و( إسرائيل – الشمالية) في عدة حملات عسكرية منظمة، تمكنوا خلالها من جلب عدة ألاف من اليهود كأسرى، وتم إسكانهم في أراضي نهر الخابور والبليخ وحران شمال سوريا وفي بلاد ميديا (= كوردستان).
تقول الرواية الاسرائيلية بأن الملك داود(1004-963ق.م) عليه السلام قد أسس مدينة داود( = اوروسالم- يروشالايم – أورشليم - القدس) سنة 1000ق.م، بعدها خلفه في قيادة المملكة الاسرائيلية ابنه سليمان(963- 923ق.م).
وبعد وفاة سليمان (عليه السلام) انقسمت مملكته إلى قسمين شكّلا دولتين منفصلتين متعاديتين في كثير من الأحيان، وعانتا من الفساد الداخلي والضعف العسكري والسياسي والنفوذ الخارجي، فعند وفاة النبي سليمان عند المسلمين والملك عند اليهود اجتمع ممثلو قبائل بني إسرائيل الأثنتي عشرة في مدينة شكيم (= الواقعة قرب نابلس) لمبايعة نجله (رحبعام بن سليمان)، ولكن ممثلي عشر قبائل اتفقوا على عدم مبايعته لأنه لم يعدهم – حسب الروايات – بتخفيف الضرائب، وانتخبوا بدلاً منه (يربعام) من قبيلة (أفرايم) ملكاً وأطلقوا اسم (إسرائيل) على مملكتهم و جعلوا عاصمتها مدينة شكيم (= ترزة - السامرة)، أما قبيلتا يهوذا وبنيامين فقد حافظتا على ولائهما ل(رحبعام بن سليمان) وكونتا تحت حكمه مملكة (يهودا) وعاصمتها أورشليم (=القدس). أما مملكة (إسرائيل) فقد استمرت في الحكم خلال الفترة 923 – 721 ق.م، وقد سمتها دائرة المعارف البريطانية ازدراء ب(المملكة الذيلية).
كان (عمري) أشهر ملوك مملكة إسرائيل (885 –874 ق.م) بنى مدينة السامرة وجعلها عاصمته، أما خليفته آخاب (874-852 ق.م) فقد سمح لزوجته (إيزابل) بنت ملك صيدا وصور بفرض عبادة الإله الفينيقي (بعل) مما أدى إلى ثورة قام بها أحد الضباط واسمه (ياهو) أطاحت بآخاب وأعاد عبادة الاله (يهوه).
وفي عهد الملك يربعام الثاني(785 – 742ق.م ) وهو الثالث من سلالة (ياهو) وهو الملك الثالث عشر لمملكة إسرائيل الشمالية القديمة، والتي حكمها لمدة واحد وأربعين سنة في القرن الثامن قبل الميلاد، وكان عهده معاصرًا لعهد ملوك يهوذا أمصيا وعزيا.
ومن جهته قام الباحث اليهودي الامريك وليام فوكسويل أولبرايت ( 1891 – 1971م) مؤسس علم آثار الكتاب المقدس ومحقق مخطوطات وادي قمران بتحديد تأريخ حكمه في الفترة من 786 إلى 746 قبل الميلاد، في حين أرخها إدوين ثيلي المبشر البروتستانتي السبتي الامريكي (1895 – 1986م) للفترة من 793 إلى 753 قبل الميلاد.
و تجدر الاشارة إليه أن نجل يربعام الثاني (زكريا) ملك ستة أشهر فقط على مملكة إسرائيل، وحكم السامرة في السنة الثامنة والثلاثين لحكم عزيا ملك مملكة يهوذا المنافسة.، وانتصر زكريا على الآراميين، وتوسعت مملكته شمالاً على حسابهم بعد غزوه لمدينة دمشق، ومدد حدود مملكة إسرائيل إلى حدودها السابقة من حماة إلى البحر الكبير (= المتوسط)، وتسلط على مملكة سليمان كلها ما عدا مملكة يهوذا، مما جعل المملكة الشمالية تزدهر ويعم فيها الرخاء في أيامه. وعلى أية حال يصفه الكتاب العبري أنه نشر عبادة الأوثان والظلم والترف، لكن ذلك لم يستمر طويلاً إذ أدى ظهور الملك الآشوري تجلات بلاسر الثالث(745-727 ق.م) إلى الحد من هذا التوسع، وقام خليفته شلمنصرالخامس (724 -722ق.م)، ومن بعده سرجون الثاني(722 - 705ق.م) بتأديب (هوشع) آخر ملوك ( مملكة إسرائيل) وقضى على دولته سنة 721- 722 ق.م، وقام الآشوريون بنقل سكان إسرائيل إلى منطقة حران ونهري الخابور والبليخ في شمال سوريا (= غرب كوردستان) وبلاد ميديا (= شرق كوردستان) وأحلوا مكانهم جماعات من الآراميين، ويظهر أن المنفيين الإسرائيليين اندمجوا تماماً في الشعوب المجاورة لهم في المنفى فلم يبق بعد ذلك أثر للأسباط العشرة من بين إسرائيل، رغم البحث الشديد من قبل الرحالة اليهود والمبشرين البروتستانت والمستشرقين اليهود في القرون الثلاثة الاخيرة.
وفي موضوع بحثنا؛ تمكن الآشوريون من القضاء على مملكة إسرائيل (= المملكة الشمالية) نهائياً.
وتذكر الكتابات المسمارية الآشورية هذا الحدث بالقول: أسر 27,290 شخصًا من السامرة، عاصمة مملكة إسرائيل الشمالية، على يد سرجون الثاني، ويسجل سرجون حملته الأولى على جدران القصر الملكي في دور شاروكين (خورساباد) بالقول: وفي السنة الأولى من حكمي وصل سكان السامرة إلى 27,290... حملتهم بعيدًا، خمسون عربة لمعداتي الملكية التي اخترتها. المدينة التي أعدت بناءها. لقد جعلتها أكبر مما كانت عليه من قبل. جعلت أهل الأراضي التي احتلتها يستقرون فيها. جعلت مسؤولي (ترتان) عليهم محافظًا.
يبدو أن وصف الهزيمة النهائية لمملكة إسرائيل الشمالية أعلاه كان حدثًا صغيرًا في تراث سرجون، ويعزو بعض المؤرخين سهولة هزيمة إسرائيل إلى عقدين ماضيين تعرضت فيهما للغزو والهزائم والترحيل.
وتفترض بعض التقديرات أن عدد الأسرى يصل إلى مئات الآلاف، مطروحًا منه أولئك الذين ماتوا دفاعًا عن المملكة وناقصًا منه أولئك الذين فروا طواعية قبل وأثناء الغزوات.
ومع ذلك، فقد اقترح أن الأعداد التي رحلّها الآشوريون كانت محدودةً إلى حد ما وأن معظم السكان ظلوا في مواقعهم. هناك أيضًا أدلة على أن أعدادًا كبيرة هربت جنوبًا إلى مملكة يهوذا.
وقد سكن عشرة أسباط من بين الأسباط الاثني عشر منهم في كردستان، والأسباط العشرة، هم: نفتالي، شمعون، لاوي، يساكر، زبولون، دان، رآوبين، جاد، أشير، يوسف) بينما سكن (بنيامين، ويهوذا) في بابل. ويقول إسحاق بن تسفي، ثاني رئيس لإسرائيل عن الأسباط العشرة: أحفاد الأسباط العشرة الذين ضاعوا جراء السبي الآشوري، هم اليهود الذين عاشوا في جبال كوردستان وحافظوا على تراث عريق عمره حوالي (2700) عاما.
وكان الاشوريون قد تمكنوا من إضعاف مملكة يهودا(= المملكة الجنوبية) ولم يستطيعوا اسقاطها، حاول الآشوريين اسقاط مملكة يهوذا أيضا بسبب عدم قبولهم دفع الجزية إلى ملك اشور ويقول الكتاب المقدس بعد ان شتم الملك سنحاريب اله مدينة أورشليم أرسل الله الملاك فقتل 850 الف من الجيش الاشوري فعادوا أدراجهم ولم يحاولوا إسقاط مملكة يهودية وبعد سقوط مملكة آشور تصارعت البابليون والمصريين لكن البابليين تمكنوا من هزيمة المصريين فتمكنوا من إخضاع تلك المنطقة بالكامل فحاصرها الملك نبوخذ نصر مدينة أورشليم في عام 586 ق. م ودمر هيكلها وسبى عددا كبيرا من اليهود، ومع هذا السبي انتهى أي وضع سياسي جغرافي لليهود في المنطقة.
بعد ضعف الآشوريين ذهب البابليون من ناحية، والمصريون من ناحية أخرى يتنازعون على سيادة أورشليم. في هذا الوقت أخذ نبي الله (إرميا) ينصح بني إسرائيل بالتوبة والعودة إلى الحق، فلم يعبؤوا به، فأخبرهم أن الله سيسلط عليهم أعداءهم البابليون وحذرهم من مقاومتهم، لأنهم لن يستطيعوا رد عذاب الله، فاتهمه بنو إسرائيل بأنه يمالئ البابليين. وبالفعل غزا البابليون الكلدانيون أورشليم واستطاعوا أن يستولوا عليها، فذاق أهلها الجوع والمرض. وقام الملك الكلداني نبوخذ نصر بنهب المدينة ودك سورها ودمر الهيكل (= المعبد) الذي بناه نبي الله سليمان وسبى شعبها إلى بابل فيما يسمى بالسبي البابلي فقتل منهم من قتل واستعبد من لم يقتل وهكذا سقطت مملكة يهوذا وأصبحت كلمة بابل هي العليا في أورشليم التي كان يسميها الآشوريين (أور- سالم) وأصبحت البلاد كلها مستعمرة بابلية تدفع الضرائب لبابل حتى جاء الغزو الفارسي.
يقول الطبري: أن إرميا بن حزقيا كان من أنبياء بني إسرائيل ومن سبط لاوي، في عهد صدقيا آخر ملوك بني يهوذا ببيت المقدس. ولما توغل بنو إسرائيل في الكفر والعصيان أنذرهم بالهلاك على يد بختنصر(= نبوخذنصر)، وكان فيما يقوله إرميا: أنهم يرجعون إلى بيت المقدس بعد سبعين سنة، يملك فيها بختنصر وابنه وابن ابنه ويهلكون، وإذا فرغت مملكة البابليين بعد السبعين يفتقدكم. يخاطب بذلك بني إسرائيل في نص أخر له عند كمال سبعين لخراب المقدس. وكان أشعيا بن أمصيا من أنبيائهم أخبرهم بأنهم يرجعون إلى أورشليم على يد كورش من ملوك الفرس (=الاخمينيين)، الذي لم يكن موجودا في ذلك العهد.
وجدير بالذكر أن الملك الكلداني البابلي نبوخذنصر بن نبوبلاصر( 605-563ق.م) قضى على المملكة الجنوبية نهائياً سنة 586ق.م في عهد عائلها ملك يهودا صدقيا (598-587ق.م) الذي قتل أولاده أمام عينيه ثم سمل عينيه، بعدها دمر الهيكل (= المعبد – مسجد سليمان) وخرب أسوار المدينة، وساق الاسرى اليهود الى بلاد بابل، وقدر عدد الذين جيء بهم بأكثر من (خمسين الف) شخص في وقت ذهب قسم منهم الى مصر وسكنوا في جزيرة الفنتاين(= جزيرة الانس في جنوب مصر).
وقد تمت العودة لليهود إلي أرض فلسطين مرة أخرى بعد سقوط الأمبراطورية البابلية الثانية على يد الملك الاخميني كورش االكبير (560 – 529ق.م) في ذلك الوقت، والذي سمح لليهود بالعودة إلي أرض فلسطين مرة أخرى. ويعد بعض المؤرخين هذا بأنه وعد بلفور الأول وهو الأمر الذي استمد منه وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور وعده لليهود في سنة1917م.
لذلك بعد سيطرة الملك الفارسي الاخميني كورش على العاصمة بابل حتى سمح لليهود الاسرى بالعودة الى أورشليم، لذ سماه اليهود (منقذ بني إسرائيل).
وما أن احتل الأمريكيون بغداد في شهر نيسان/ ابريل عام 2003م، حتى سجد حاخامات إسرائيل شكراً لإلههم (يهوه) على سقوط بابل(= عاصمة العراق زمن السبي البابلي)؛ أي بعبارة أخرى إن العراقيين القدماء من الآشوريين والكلدانيين البابليين هم من أسقطوا الممالك الإسرائيلية الواحدة تلو الأخرى، وحرروا بلاد كنعان(= فلسطين) من النفوذ الإسرائيلي(=العبراني).
وكان اليهود الكردستانيون قد أرغموا على الهجرة إلى إسرائيل إثر قيام دولة إسرائيل في 15/ مايو/ أيار عام عام 1948م، بعد قرار الحكومة العراقية بتطبيق القانون رقم (1) لسنة 1950م بإسقاط الجنسية العراقية عنهم، فهاجرغالبية اليهود العراقيين بضمنهم الكردستانيين بين سنوات 1949م وسنة 1951م، لاسيما وأن عدداً كبيراً منهم كانوا قد غادروا الى فلسطين قبل سنوات الحرب العالمية الاولى وأثنائها وبعدها، لأن الحركة الصهيونية كانت تعتقد بأن اليهود الكوردستانيين هم من أفضل المزارعين الذي بإمكانهم إنشاء مستعمرات زراعية بمستوىً راقٍ على أرض فلسطين التي كانوا يطلقون عليها (أرض الميعاد).
ولا زالت الجالية اليهودية الكوردستانية من الجاليات الكبيرة نوعا ما في إسرائيل، حيث يقدر عددها بأكثر من (200 ألف نسمة)، ولا زالت تحن الى أرض كوردستان.[1]