#عزيز الحاج#
شيء عن التجربة الفرنسية وتجارب غيرها:
تطرقت في المقالات السابقة إلى التنوع في تطبيقات العلمانية في الدول الديمقراطية، وأشرت مثلا للحالة البريطانية واعتبار الملكة هي، في الوقت نفسه، رئيسة الكنيسة، ولكن دون أن يؤثر ذلك على فصل السلطتين ، وعلى الديمقراطية البريطانية العريقة. ويذكر أيضا وجود عدد من الأساقفة في مجلس اللوردات.
** وفي الولايات المتحدة يُكتب منذ ظهور الدولار على أحد جانبيه عبارة بالله نثق، ورئيس الجمهورية المنتخب يحلف بالإنجيل، في مراعاة لأكثرية الأميركيين الذين هم من بين الشعوب الأكثر تدينا، ولكن دون أن يجري أي مس بالفصل بين السلطتين، وبلا أي تدخل من الكنائس في شؤون الدولة وفي الانتخابات، كما لا حق للدولة في أن تتدخل في شؤون المؤسسات الدينية. والمهاجر الذي يأخذ الجنسية الأميركية يقسم هكذا: التعهد بالإخلاص لعلم الولايات المتحدة والجمهورية التي يمثلها، هذه الأمة التي هي تحت رعاية الله، والتي لا تقهر، والضامنة للعدالة والحرية للجميع. وقال جون كندي خلال حملته الانتخابية: إنني أدعو لأميركا يكون فيها الفصل بين الكنيسة والدولة فصلا مطلقا. أريد أميركا لا يستطيع فيها أي رجل كنيسة كاثوليكي أن يقول لرئيس كاثوليكي كيف يجب أن يتصرف، أو أي راعي كنيسة بروتستانتي أن يقول لأحد مريدي كنيسته كيف يجب أن يصوت، ولا أية كنيسة أو مدرسة دينية أن تتسلم عونا ماليا من الدولة، أو أن يجري رفض أية وظيفة عامة لمواطن ما لمجرد أن دينه ليس كدين الرئيس- وأقول، استطرادا، ربما هذا كمعتقد وفلسفة وسلوك أحزاب وشخصيات الإسلام السياسي الشيعي الحاكم في العراق، والذين يحاول كل منهم الاحتماء تحت عباءة المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني، وهم الذين حولوا العراق لمقدمة دول الفساد، ولا يبالون برفع صور خميني وخامنئي في الشوارع؛ أو حالة وممارسات الإخوان المسلمين المصريين: طز في مصر وأهل مصر، و رئيس مسلم ماليزي ولا رئيس مصري قبطي. وها هو خليفتهم، وقد وثب على العرش، يعلن صراحة وعلنا بأن الدستور هو أحكام الشريعة وحدها [ الإسلام هو الحل وهذا ما قصدناه بالدولة المدنية]!!!؟؟؟
** أما علمانية فرنسا، التي يعتبرها الحزب الإسلامي التركي الحاكم معادية للدين، فقد مرت بسلسلة من التحولات منذ الثورة الفرنسية. فالثورة فصلت عمليا بين السلطتين الدينية والمدنية، ورفعت قبضة الكنيسة عن شؤون الدولة ولكن دون أن تستعمل كلمة علمانية، التي لم تظهر في القاموس السياسي الفرنسي إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع كومونة باريس. وعند تسلم نابليون بونابرت حكم فرنسا، عقد عام 1801 اتفاقية أو ميثاقا دبلوماسيا [ يسمى الكونكوردا] مع البابا أعاد بموجبه الاعتراف للبابا بحق رعاية الكاثوليك الفرنسيين، وهو ما سبق لدستور الثورة أن ألغاه، فصار للكنيسة بعض الحقوق المهمة. ولكن الدولة لم تفقد علمانيتها. وبعد إعلان كومونة باريس في 1871، نُشِرت مذكرة باسم رابطة التعليم تحمل تواقيع مليون و300 ألف شخص، تظهر فيها للمرة الأولى كلمة علمانية [La Laicité =secularism ]، وسرعان ما انتقلت للقواميس. ولكن الوضع بات يتطلب قوانين جديدة لحسم الأمر نهائيا. وبدأ ذلك بقوانين تفرض علمانية المدرسة وحيادها، وترفع عنها قبضة رجال الكنيسة. وكان ذلك في 1879. وكان الحسم النهائي في قانون 1905، الذي لم تعترف به الكنيسة رسميا إلا في بداية ثلاثينات القرن العشرين. وعندما عادت منطقة الألزاس وموزيل لفرنسا، وكانت ملحقة بالإمبراطورية الألمانية، جرى استثناء ولاياتها من القانون فيما يخص امتيازات رجال الكنيسة ودورهم في الحياة العامة. وجدير بالذكر أن القانون المذكور أصبح موضع اعتراض وتحدي الإسلاميين منذ أواسط التسعينيات مع ظهور الجماعة الإسلامية الجزائرية المسلحة، والبدء بمحاولات فرض الفتيات الجزائريات الفرنسيات الحجاب على مدارس الدولة، وهو ما كان محظورا وفق قوانين أواخر القرن التاسع عشر وقانون 1905. وينص القانون المذكور على أن كل مواطن حر في أن يؤمن وأن لا يؤمن، والجمهورية تضمن حرية الضمير والتعبير في حدود النظام الجمهوري وقوانينه، وهي لا تعترف بأية عقيدة، ولا تمول أو تساعد أي دين ومعتقد، وليس للأديان أن تتدخل في الحياة العامة. والدولة، من جانبها، لا تتدخل في الشؤون الداخلية للأديان. وقد اندلعت سجالات ومعارك قانونية ومظاهرات شارعية في الخمسينات والثمانينات عن تمويل أو عدم تمويل الدولة للمدارس الخاصة، ما بين السماح بذلك فترة أو حظره فيما بعد. وكان يقصد بالمدارس الخاصة أولا المدارس الكاثوليكية الدينية. ولكن في فرنسا اليوم، كما في دول غربية أخرى، مدارس دينية تمول من أموال خاصة. وبالنسبة للمؤسسات الدينية الإسلامية، ولاسيما المساجد [ حوالي 2000]، فإن العون المالي كان يأتي بدرجة رئيسية من الدول العربية والإسلامية، كالسعودية والمغرب والجزائر وتونس وتركيا وغيرها. ولكن هذا التمويل صار يراقب بشدة بعد 11 سبتمبر. وكانت تلك الدول هي التي ترسل معظم أئمة الجوامع الذين لم يكن كثيرون منهم يعرفون الفرنسية. وتطورت الأوضاع مع بداية القرن بتأسيس مجلس اتحادات الديانة الإسلامية، الذي كان لسركوزي دور كبير في قيامه حين كان وزيرا للداخلية.
ومع أن اليسار هو الذي كان المبادر الأول لتأكيد علمانية الدولة وصياغة أكثر قوانينها في فرنسا، إلا أن فترة ميتران شهدت تذبذبا في ممارسات الحكومة. فمثلا عقدت فرنسا اتفاقية مع مصر وأخرى مع المغرب تبيحان الأخذ بقوانين أحوال الشريعة في مجال العلاقات الزوجية لمسلمي الدولتين في فرنسا. وحين حاولت فتاتان جزائريتان محجبتان في عام 1989 فرض قبولهما في المدرسة العامة ورفضت المدرسة، أرسلت مجموعة من المثقفين اليساريين، ويينهم ريجيس دوبري،[ كان قد أشهر إسلامه وأعلن إعجابه بثورة خميني رغم أن وصيته دعت لحرق جثته عند وفاته، وهو ما حدث فعلا]، رسالة لوزير التربية تطالب بقبول الطالبتين. وكتب أحدهم، وهو أوليفيه دوهاميل، مقالا يدعو لقبول الحجاب بحجة التعددية، وبأن عدم قبول المحجبات يعني إرغامهن على الذهاب للمدارس الدينية بينما في مدارسنا المتسامحة والعلمانية هناك ضمان لعدم وقوعهن في براثن الأصولية الظلامية، وأيضا هناك أمل ما في علمنة الإسلام. واستطرادا، فإن من أولئك المثقفين من عادوا بعد جرائم 11 سبتمبر للاعتراف بالخطأ، وبأنهم تعاملوا في حينه بسذاجة مع الموضوع.
وقد أصدر المجلس الدستوري الأعلى بيانا يدعو لاحترام التعددية وحيادية الخدمات العامة ، ويطلب: أن تعيش الأسرة التعليمية بعيدا عن أي ضغط أيديولوجي أو ضغط من دين ما. وفقط بالاحترام الصارم لكل هذا يستطيع الطلبة الحصول على ثقافة عامة ومؤهلات معترف بها، وذلك أيا كان منشأ الطالب، اجتماعيا أو ثقافيا، أو جغرافيا. ونفس المجلس أصدر تحت ضغوط يسارية في نوفمبر 1989 مرسوما مؤقتا يقول إن الشارات الدينية في مدارس الدولة ليست محظورة إلا إذا كان هناك خوف من أن يكون فيها طابع المباهاة والتعالي، و طابع فرض المطالب فرضا وهو مما يشكل ضغطا واستفزازا ودعاية. هذا المرسوم كان صيغة تلفيقية منافية لكل القانونين السابقة، وقد ألغاه القانون المتخذ زمن رئاسة شيراك عن علمانية المدرسة في 2005، برفض كل إشارة دينية في مدارس الدولة، وأيا كان الدين- [طبعا ليس في المجتمع و الشارع حيث الحجاب أينما تسير ولله الحمد!]. وفي حينه، حظي مشروع القانون قبل إبرامه بعدم معارضة وبتفهم شيخ الأزهر الأسبق وإمام مسجد باريس الشيخ با بكر، ولكن زعماء الإخوان من أمثال القرضاوي وبقية المتشددين هاجموا القانون وتحاملوا على إمام مسجد باريس وإمام مسجد مدينة كبيرة أخرى وعلى شيخ الأزهر نفسه.
فرنسا كانت تعير دورا مهما للمدرسة تحت شعار كيفما تكن المدرسة تكن الجمهورية، وبنظرة أن العلمانية لا تتجزأ، وأنها تضمن المساواة أمام القانون بصرف النظر عن العرق أو الدين، وهي تستهدف أن تنمي في المواطن روح النقد وروح التضامن والإخاء وتجنب الدوغماتية. والعلمانية هي المفهوم العام للمجتمع وللفضاء العام، وهي تريد مواطنا مستقل التفكير ودرعا أمام الفئوية الثقافية والدينية، التي يبيحها بعض الساسة والمثقفين اليساريين واللبراليين المتطرفين في أوروبا بحجة التعددية الثقافية. وقد قال شيراك إن العلمانية دعامة وحدتنا وتماسكنا الوطني- أي حصن في وجه الفئوية المنغلقة التي يريدها ويطبقها معظم الجاليات الإسلامية في الغرب، جراء تساهل بعض الحكومات الغربية باسم ضمان السلم الاجتماعي العام. وعن أهمية دور المدرسة، نعيد الإشارة لهوس الإسلاميين في السيطرة على جهاز التعليم ومناهجه ومفرداته في الدول العربية والإسلامية، لأن المدرسة هي التي تنشئ المواطن المقبل، إيجابا أو سلبا. ونعرف دور المدارس الإسلامية في آسيا والخليج في تخريج الآلاف من المتطرفين والإرهابيين. ولننظر لاحتكار حزب الدعوة في العراق لوزارتي التربية والتعليم العالي، وتحويل جهازهما وجهة دينية ومذهبية و لطمية!!، أسوة بما حدث في إيران الخمينية. كما كان مبارك- وهو يضطهد الإخوان سياسيا- قد سمح لهم بتدوير وإدارة مناهج التعليم، خصوصا في كتب المطالعة، وفقا للعقيدة السلفية والإخوانية، وفي تجاهل للطلبة غير المسلمين. ونعرف أيضا حرب حزب النهضة وزعيمها غنوشي في تونس على تدريس الفلسفة والعلوم الاجتماعية في مدارس الدولة، وهي مواد كان سيد قطب، داعية الكراهية والعنف باسم الجهاد، قد اعتبرها تدميرا للإسلام باعتبارها جزءا من الحداثة، التي هي، في نظره، جاهلية القرن العشرين. ولعل تونس معرضة لنفس الخطر ما لم تصبح المعارضة العلمانية من القوة والحزم واليقظة بحيث تحول دون وقوع الكارثة القرون- أوسطية. ولعل التحرك النسائي الأخير يشجع على المزيد من تحدي هذا الخطر الظلامي.
** في ألمانيا، يرد في حيثيات الدستور حديث عن المسؤولية تجاه الله والبشر، ولكنه لا ينص على أن للدولة دينا رسميا. وللكنيسة هناك مدارسها الخاصة.
** البرتغال فصلت منذ 1972 بين السلطتين، وليس من حق الأحزاب السياسية هناك اللجوء إلى استشهادات مباشرة بالكنسية والأديان. وللكنيسة الكاثوليكية بعض الامتيازات في مجال التعليم ومساعدة المرضى .
** في أسبانيا، الدولة لا تتبنى دينا بعينه..
** كذلك الحال في إيطاليا، رغم أنها مقر الفاتيكان. وقد ألغي منذ 1984 ميثاق يعود لأواخر العشرينات عن اعتبار الكاثوليكية دينا للدولة.
** في بلجيكا، اعتراف بالعلمانية، ولكن بتطبيقات غير فرنسية، حيث للكنيسة شبكات تعليم ومساعدات اجتماعية ومستشفيات ونقابات. وهي تتلقى مساعدات الحكومية- علما بأن في فرنسا أيضا مدارس دينية ومراكز صحة كاثوليكية ولكن الدولة لا يحق لها أن تقدم العون المالي، غير أن بعض رؤساء البلديات، وخصوصا من اليسار، ولأسباب انتخابية، كانوا يناورون ويساهمون من المال العام في إنشاء المساجد هنا وهناك.
** في هولندا، لا يتحدث الدستور عن الفصل، ولكن الواقع هو هكذا منذ 1983 . والدستور يؤكد على الحرية الدينية وعلى حيادية الدولة.
** في السويد والدنيمارك، كانت اللوثرية دين الدولة حتى 2000، ثم اختفى ذلك من الدستور. وهو أيضا يعترف بكل الأديان. والقوانين تعاقب الشتم العلني لأي دين. والبرلمان يراقب نشاط الكنيسة.
** في النمسا، لا ينص الدستور على دين للدولة، وهو يضمن الحرية الدينية، وللكنيسة دور اجتماعي وتعليمي. وقانون العقوبات يعاقب شتم الأديان والله علنا.
** في هنغاريا وتشيكيا، يستمر الفصل كما كان، ولكن مع التسامح مع المؤسسات الدينية .
**في بولونيا عادت الكنيسة لمزاولة نشاطها. وأعادت سلوفاكيا للكنيسة ممتلكاتها التي صادرها النظام الشيوعي.
**أما في روسيا، السائرة سياسيا في الطريق الستاليني، برغم أخذها باقتصاد السوق، فإن بوتين يغازل الكنيسة، وها هو يحكم على ثلاث فتيات مغنيات بالسجن عامين بتهمة إهانة الكنيسة لكونهن أدين في كنيسة أغنية سياسية تنتقده هو شخصيا.
لا يتسع المجال لمزيد من الاستطراد هنا، علما بأن الهند أيضا هي دولة ديمقراطية علمانية كبيرة، وهي أيضا تأخذ بالعلمانية مع ضمان حرية الضمير والمعتقد للجميع. أما الحالة التركية، فلها مقال خاص.[1]