تقع مدينة عامودا في الشمال الشرقي من سوريا، وتحديداً على بعد 25 كم شرق مدينة قامشلو، تقابل من جهة الشمال مدينة ماردين في باكور، ويقارب عدد سكانها 50 ألف نسمة معظمهم من الكرد مع نسبة من المسيحيين، تعد المدينة نموذجاً للسلم في المنطقة، فبينما تربى معظم أبنائها على الفقه الإسلامي والطرق النقشبندية والقادرية، تحتفظ بمجموعة من أقدم الكنائس التاريخية. تتبع لها 160 قرية من بينها ثلاثة تلال أثرية هي: تل موزان وتل شرمولا وتل شاغربازار الذي دونت عنه الكاتبة اغاسا كريستي بعض التفاصيل عن أقامتها هناك في كتابها هكذا أحيا.
الثقافة والإبداع والاختراع سمات عاموده
عرفت عامودا قديماً بين سكانها باسم “دَ شتا ماردين” أي سهل ماردين، بينما سماها العثمانيون (تل الكمالية) لأنها كانت امتداداً لجبال ماردين حيث لم يكن هناك حد فاصل بينهما، ألا بعد رسم الحدود بين الدولتين، وإلى جانب كونها من أقدم المدن في المنطقة، تتمتع بمكانة خاصة بين المدن الكردية، فمن المعروف عنها أنها مدينة الوعي القومي الكردي ومدينة الثقافة والمثقفين، فيها يتمازج الشعر مع الفن والفكر بميادينه المختلفة، وهي مدينة الخبرة الزراعية والصناعية والتجارية ضمن الحدود التي تتيحها الإمكانات المادية المقننة والسياسات الحكومية، أكثر أدواتهم وآلاتهم الصناعية مصنوعة محلياً، لذلك تشكل هذه المدينة ظاهرة فريدة ظلت محل تساءل الكثيرين عن سر تميزها. وهي مدينة فقيرة صغيرة، لا تحظى بأهمية سياحية، إضافة إلى الظروف المعيشية الصعبة التي أجبرت باستمرار أبنائها على الرحيل والانتشار سواء في داخل سوريا أو خارجها؟ والجواب وفق التاريخ الحديث يدل إلى طبيعة وبساطة أهلها الذين تتوافر لديهم ما يمكن اعتباره صيغة من صيغ الذكاء الفطري التي تجسدت غالباً في الطرائف والأسلوب الساخر المعبر في الحديث.
بداية تاريخ هذه المدينة يعود بحسب التقديرات إلى أواسط القرن الثامن عشر، حينما توجه بركو (الصيغة الكردية لاسم بركات) من تل عامودا الذي يقع حالياً في الجانب التركي من الحدود التي قطعت أوصال الجزيرة في عشرينات القرن الماضي- ليبني أول بيت في عامودا السورية بناء على تعليمات إسماعيل آغا الدقوري (الجد السادس لآل الدقوري زعماء عشيرة الدقوري، الذين ما يزالون يقيمون بصورة أساسية في عامودا).
وقد لعبت الحجرة المخصصة لتعليم الطلبة علوم الفقه والشريعة والنحو والصرف والبلاغة والمنطق والفلك، دوراً بارزاً في مستقبل المدينة وإبراز طلبتها في ميادين الفقه والشعر والأدب، منهم: الشاعر المعروف جكرخوين، وملا إبراهيم صوفي عبدو، وملا عبداللطيف إبراهيم، وملا عبدالحليم ملا إسماعيل، وملا علي توبز، وملا شيخموس قرقاتي . . الخ، وقد تعرضت هذه المدينة المتواضعة، للقصف من قبل الفرنسيين في العام 1937 حيث حمل سكانها البنادق بزعامة المجاهد سعد أغا الدقوري، ضد الفرنسين وشكلوا تنظيمات قتالية رفضاً للخضوع للمحتل، وتعرف تلك الحادثة باسم توشا عامودا .
حريق السينما
من بين المصائب التي تعرضت لها عامودا وما تزال تعاني آثارها، حادثة حريق السينما في العام1960 حيث فقدت المدينة في تلك الحادثة ما يقارب 250 طالباً من أبنائها تراوحت أعمارهم بين 7 و15 عاماً . ولعل المفارقة أن اسم الفيلم كان جريمة في منتصف الليل ذهب تلاميذ المدارس لمتابعته بتوجيهات من إدارة المدرسة ليعود ريع حضورهم إلى الثورة الجزائرية، وبرز في تلك الحادثة اسم الشاب محمد سعيد أغا، الذي رمى جسده وسط النيران لإنقاذ أكبر عدد من الأطفال قبل أن تنال منه النيران، ويتحول إلى نصب تذكاري وسط المدينة، وتعد الحادثة مفصلاً يقف عنده الأهالي في تاريخهم المعاصر، وما يزال يحتفظ البعض بمخلفات أولادهم من الأقلام والمريولة المدرسية والمحفظة المدرسية .
حضارات قديمة
إضافة إلى الموقع الاستراتيجي زراعياً لمدينة عامودا، هي أيضاً تتوسط المدينة قلب منطقة تراثية أدت فيها التنقيبات إلى ظهور العديد من الحضارات القديمة. من هذه المواقع تل موزان أو كما يعرف أوركيش وهو من أهم مواقع الجزيرة العليا، إذ إنه يضم أطلال أول عاصمة للحوريين تعود إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد. إضافة إلى آثار قرية جاغر بازار التي كانت في يوم ما مكاناً لإقامة المستشرقة والكاتبة البريطانية أغاثا كريستي، التي زارت سوريا عدة مرات في الثلاثينات، قاصدة منطقة الجزيرة برفقة زوجها عالم الآثار البروفيسور ماكس مالاوان، الذي نقب عن آثار المنطقة في عدة مواقع، وقد سجلت مذكرتها وتفاصيل زيارتها في كتابها هكذا أحيا.
ويقع تل جاغر بازار على مسافة 35 كم من مدينة عامودا، وقد نقب فيه العالم الإنجليزي ماكس مالوان بين العامين 1935-1937 وأظهرت المكتشفات 15 طبقة حضارية تعود إلى ما بين 1500-3000 ق .م، كما كشف فيها عن كميات من الخزف المنقوش ببراعة، وتماثيل ل آلهة الخير والبركة ورقم طينية مهمة كتبت بالخط المسماري تعود إلى الفترة الآشورية القديمة (1800ق .م)، وفرن لصناعة الفخار، وجرار قديمة وأوانٍ وأدوات حجرية وبرونزية وعظمية، وتماثيل إنسانية وحيوانية مصنوعة من الطين المشوي . حيث تقول كريستي في كتابها: يستطيع المرء أن يكون لنفسه فكرة عن تل جاغر بازار الذي وجد منذ خمسة آلاف سنة، ولا بد من أنه كان مركزاً مهماً، تمر به القوافل الكثيرة ويربط بين حرّان وحَلَف، ومنه تنطلق القوافل عبر جبل سنجار، إلى العراق ودجلة ونينوى القديمة، إنه مركز في شبكة مواصلات كبيرة للتجارة . وتضيف قائلة: أحياناً كنا نحس في الآثار المكتشفة لمسات شخصية، كأن نعثر على مخبأ في جدار وضع فيه وعاء صغير يحتوي على أقراط وحلي من الذهب كانت مهر فتاة، وعثرنا على قطعة نقدية سكت في العام 1600 وعليها اسم كراونيل نورمبرغ في رمز إسلامي ما يوضح أن علاقة ما كانت قائمة بين هذه المنطقة وأوروبا، كما عثر في التل على جزء من قصر ملكي كبير وطبعات أختام تعود إلى الفترة البابلية القديمة، وعلى أوانٍ وكؤوس فخارية وأدوات برونزية ودمى وخرز ودمى إنسانية وحيوانية وأدوات بازلتية تعود إلى الألفين قبل الميلاد. وتشير المكتشفات إلى أن سكان التل مارسوا الزراعة والصناعة ووصلت تجارتهم حتى الساحل السوري وبحر إيجة غرباً، والهند شرقاً. قسم من اثار هذا التل العريق موجود حالياً في المتحف البريطاني الوطني، بحسب ما وثقته أغاثا كريستي في كتابها.[1]