انهى العقد السابع من عمره، لكنه يمتلك حيوية الشاب العشريني الذي ولع بعالم القراءة والثقافة منذ ريعان شبابه. معروف عنه بانه احد كبار المترجمين في كركوك، وتشهد ترجماته لدواوين الشعراء الكورد الى العربية، بانه يمتلك ناصية الحرفة بحيث لا تفقد نصوص ترجماته من بريقها والقها ووجدها الا القليل النادر. انه المترجم المخضرم محترم محمد...
حاوره: طارق كاريزي
انهى العقد السابع من عمره، لكنه يمتلك حيوية الشاب العشريني الذي ولع بعالم القراءة والثقافة منذ ريعان شبابه. معروف عنه بانه احد كبار المترجمين في كركوك، وتشهد ترجماته لدواوين الشعراء الكورد الى العربية، بانه يمتلك ناصية الحرفة بحيث لا تفقد نصوص ترجماته من بريقها والقها ووجدها الا القليل النادر. انه المترجم المخضرم محترم محمد.
مطلع شهر حزيران وعند منتصف الظهيرة اتصل بي الفنان الشاعر د. علي كركوكي وقال، معي بعض الطعام وان كنت لم تناولت الغداء، فلنا جولة لزيارة الاستاذ محترم محمد في منزله. الدعوة كانت مغرية خصوصا وانها كانت المرّة الاولى التي ازور فيها احد عناوين الثقافة من الجيل الذي سبقنا في كركوك في منزله. اصطحبنا في هذه الزيارة كل من المحامي فهمي عبدالله والكاتب فيصل امين. اتجهنا نحو حي شوراو في الضاحية الشمالية من كركوك. منزل ببناء جديد حيث يسكن الاستاذ المترجم محترم محمد لوحده.
اول شيء اثار انتباهي هو تكدس الكتب والمجلدات حول سريره. لقد اختار مكانا وسط صالة المنزل ليتخذه مكانا لمنامه، وتوسطه هذا المكان ربما هو اعلان منه بانني والسماء وجها لوجه. ولعل قراءة سيميائية لوقع المكان الذي اتخذه محترم محمد لنومه تقول عندما تكون وحيدا في الزمكان، ستكون انت المركز والمحور، ومن ثم الاشياء والافكار تتخذ حركة دوران فلكية حولك.
رائحة الثقافة باريج صفحاتها المحفوظة والقادمة من اوراق ستينيات وسبعينيات القرن الماضي تفوح بقوّة في هذا المكان. اغلب الكتب هي طبعات قديمة لامهات مصادر اللغة والادب. ثلاثة قواميس مهمة (المنجد، المورد، هنبانه بورينة) متراصة عند السرير، وهذه القواميس الثلاثة هي المعين له في صولاته في عالم الادب باللغات العربية والكوردية والانكليزية. قال الاستاذ المترجم محترم محمد منذ خمسين عاما ولم يفارقانني، قالها وهو يشير الى قاموسي المنجد والمورد بطبعات مطلع سبعينيات القرن الماضي. وقد جاء قاموس (هنبانة بورينة) للعلامة هزار ليتشكل بذلك ثلاثية مرجعية الترجمة لديه.
زيارتنا الى منزل محترم محمد تحولت الى جلسة ادبية تخللتها الكثير من الحوارات الهادئة وبعض الحوارات الساخنة واستغرقت حوالي خمس ساعات. جلسة خماسية تبادل فيها الحضور ادوار التحدث والاستماع، ومنحت اجواء المكان، القدرة الاكبر للاستاذ محترم كي يناور اكثر من البقية. فمن جهة اكثر من اكرامنا كضيوف في داره، وكان يردد بين الفينة واخرى انتم اهل الدار وانا الضيف، هكذا هو الكرم الكوردي. ومنحت خصوصية المكان المزيد من قدرة الحركة والمناورة لصاحب الدار، اي حوار كان يبدأ، كان الاستاذ محترم يسرع ليأتي لنا بالمصدر ويدخل الجمع في نقاشات او حوارات تخللتها بعض السجالات الحامية حول آفاق الادب وانجازاته وحضوره بين الامس واليوم.
يبدو ان هذا الاديب السبعيني مازال متمسكا بالانجازات الكبيرة لعالم الثقافة في الاميس القريب والبعيد، فكل شيء ينطق بمفردات تلك الثقافة ان كانت في عالم الادب ام الفن. شارل ديكنز، ذلك الروائي الانكليزي الذي ارخ للثورة الفرنسية وتفاصيلها عبر مسارها الغربي (من شاطئ النورماندي وصولا الى باريس) من خلال روايته الشهرية (قصة مدينتين)، حيث يسرد حالات التفاوت بين الاجواء المدنية والحياتية في بريطانيا وفرنسا. ولم يخفي الجميع اعجابهم بالمترجم والقاموسي الكبير منير بعلبكي الذي من مؤلفاته المورد وهو مترجم رواية ديكنز هذه ايضا.
اجمع الحضور على ان الدراسة ابان ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في المدارس كانت اكثر جدية واكثر فائدة من حيث تأهيل وتعليم وتربية الاجيال، استشهد هنا بالذي قاله المترجم محترم محمد استاذنا في مادة اللغة العربية كان مصريا. رشح عشرة من طلاب المدرسة لزيارة المكتبة العامة وقراءة الكتب هناك. وتابع موضحا الحقيقة المرّة هؤلاء العشرة الذين رشحهم استاذ مادة اللغة العربية تقاعسوا عن مواصلة المهمة، اثنان منهمان زار المكتبة لمرّة واحدة او مرّتان، انا الوحيد بينهم تابعت المشوار وواصلت المطالعة واستعارة الكتب داخل المكتبة وخارجها.
حول استعارته للكتب قال المترجم محترم محمد مطلع ستينيات القرن الماضي كنت يوميا آتي مشيا على الاقدام من حي شورجة الى المكتبة العامة قاطعا اكثر من اربعة كيلومترات سيرا على الاقدام من اجل مطالعة الكتب في المكتبة العامة والتي مازالت في مكانها القديم بجوار خانقاه ومسجد سيد احمد خانقاه.
يواصل سرد ذكرياته ويقول الاستعارة الخارجية للكتب كانت تستوجب ايداع مبلغ كتأمينات لحين اعادة الكتاب، في احدى المرّات تعذّر عليّ تأمين مبلغ التأمينات، بادر مدير المكتبة الاستاذ تحسين طالباني واصطحبني الى قاعة الكتب وقال للموظف المسؤول عن استعارة الكتب، يحق لهذا الفتى استعارة اي كتاب يشاء ولا تأخذوا منه التأمينيات.[1]