ما هي القومية ( nationalism):
آسو للدراسات
بمعناها الضيق، هي نوع من الانحياز الذي يبديه المرء تجاه أمته مفضّلاً إياها على غيرها من الأمم. وقد يتجلّى ذلك من خلال عواطف، أو حركات اجتماعية، أو سياسات تمارسها الدولة. وتشير القومية، بمعناها الأعم، إلى طريقةٍ في بناءِ هوياتٍ واسعةٍ، سياسيةٍ بوجه خاص، على أساس دعاوى ثقافية، و/أو لغوية، و/أو مناطقية، و/أو تاريخية، و/أو عرقية. وغالباً ما يستخدم القوميون صور القرابة والسلالة، على الرغم من أنه لا وجود لأمة هي مجرد توسيع مباشر للعلاقات القرابية.
ومع أنَّ القومية غالباً ما تُقَدَّم بوصفها تعبيراً عن أمة موجودة مسبقاً، بل وأزلية، إلا أن البحث الاجتماعي الحديث ينزع إلى التأكيد على أنَّ القومية هي ضَربٌ من الخطاب الذي يُستخدَم في بناء الأمم. وتتّسم البلاغة القومية بمجازات مميزة عديدة، مثل دعاوى السيادة و/أو شرعية الحكم باسم الشعب أو الأمة؛ والدعاوى التي ترى أن وحدة الشعب تعكس ثقافته المشتركة الدائمة؛ والدعاوى التي تقول إنَّ أعضاء الجماعة لا يسعهم تحقيق حريتهم الشخصية ما لم تتمتّع هذه الجماعة بحق تقرير المصير على المستوى السياسي؛ والمطالبة بأن يتمسك أعضاء الأمة المزعومة بمعيار سلوكي مشترك؛ والدعوة إلى الحدّ من الهجرة، أو استيراد البضائع، أو الاستثمار الأجنبي؛ والإلحاح على معاملة الأمة على قدم المساواة مع بقية الأمم. غير أنَّ أياً من هذه المنجزات لا يمثّل معياراً كافياً للتعريف. فالقومية هي مجموعة متغايرة العناصر من المصطلحات والممارسات المتعلقة بالأمة والتي تتنوع تبعاً للظروف لكنها يمكن أن تجتمع في خطاب يشرّع دعاوى الخصوصية.
ولقد تطورت القومية، بشكلها الحديث، بالارتباط مع ترسيخ الحداثة، خاصةً مع تغلغل الدولة في الحياة اليومية وتوحيد السكان. لكن القومية لا تفترض مسبقاً وجود الدولة وهي تزدهر بين كثير من الجماعات التي تطمح إلى الاستقلال وإقامة الدولة. كما يُعبَّر عنها من خلال الدعوة إلى مزيد من التلاحم القومي، أو الثقافة القومية، أو الهوية القومية. ومثل هذه الحركات تجتذب قدراً كبيراً من الاهتمام الشعبي والعلميّ بالمصطلح. لكن القومية والهويات القومية لا تقتصر على الأهداف السياسية أو على العلاقات مع الدول. فقد يُعنَى الكتّاب بوجود قراءة قومية دون أن يهتموا بما إذا كان أولئك القراء يتمتعون بسلطةٍ معينة مرتبطة بالدولة؛ وقد يكون لقومية متعصبي كرة القدم نتائج سياسية في بعض الأحيان، لكنها لا تنبع مباشرة من مصادر سياسية؛ وقد تستخدم جماعات السكان الأصليين البلاغة الخطابية سعياً وراء الاعتراف بها دون أن تسعى لتشكيل دول.
ولقد سبق للباحثين أن قدّموا تفسيرات متنوعة للقومية. فقد وُصِفَت القومية بأنها:
(1)- نتاج هويات إثنية مستمرة؛ وبأنها (2)- نتيجة تغيرات سياسية وثقافية مرتبطة بالتصنيع؛ وبأنها (3)- شكل من الرد الانفعالي على تطور اقتصادي غير متكافئ؛ وبأنها (4)-مخرج أو مُتَنَفَّس لقلق النخب الجديدة؛ وبأنها (5)- تتمة إيديولوجية لبناء الدولة. ومع أنَّ جزءاً من جاذبية مثل هذه النظريات يتمثّل في اقتصادها واختصارها الواضح فيما يتعلّق بالعلل والأسباب، إلا أنها لا تترابط بحيث تقدّم نظرية عامة أو تاريخاً واحداً للقومية. وهذا يعكس الطبيعة المتغايرة أساساً التي تميّز هذا الموضوع.
وهنالك كثير من أشكال الممارسة الاجتماعية التي تنطوي على القومية، وتتراوح من الأشكال الحميدة (مثل التلويح بالأعلام وإنشاد النشيد الوطني) إلى الأشكال المخيفة (الإبادة). وفي بعض الأحيان يتم التمييز بين القومية المدنية والقومية الإثنية بغية تفسير هذه الفروق، فالقومية المدنية تُفهَم على أنها تمدّ بجذورها في الانتماء المشروع إلى دولة سياسية متكونة؛ ويُفهَم أفراد الأمم أولاً وأساساً من خلال هوياتهم السياسية كمواطنين. أما في شكلها الإثني فتُعرَّف الهوية القومية على أساس معايير ثقافية أو إثنية تختلف عن معيار المواطنة السياسية، وربما تتقدم عليها. ويُرَى إلى القومية المدنية على أنها جامعة أكثر، وأقلّ ميلاً إلى دمغ من هم خارجها، واقلّ نزوعاً إلى الصراعات العنيفة الرامية إلى ترسيخ هذا التعريف أو ذاك من تعريفات الهوية القومية.
ولطالما كان التوطيد القومي سيرورةً مشحونةً بالصراع. وهو الأمر الذي لا يصحّ فقط على الدول البازغة في البلقان، أو إفريقيا أسفل الصحراء، أو آسيا بل أيضاً على دول يُنْظَر إليها الآن على أنها ديمقراطيات مستقرة. وعلاوةً على ذلك، فإنه على الرغم من أن التمييز بين القومية المدنية والقومية الإثنية هو تمييز مهمّ وممتلئ بالمعنى، إلا أنه نادراً ما ينطوي على تمييزات صريحة بين البلدان. فغالباً ما يتمّ الاستشهاد بفرنسا على أنها نموذج القومية المدنية، إلا أنّ فرنسا تتميّز بتقليدٍ أو تراث وطني قديم وإثني في بعض الأحيان يتّصف بالقوة والدوام. أما ألمانيا، التي ظلّت في القسط الأعظم من تاريخها ترفض مواطنة أولئك الذين لا ينتمون إلى الدم الألماني، فقد اشتملت منذ البداية على عناصر من القومية المدنية.
ويتمثّل واحد من التوترات الكبرى في الأدبيات التي تتناول القومية في الجدال بين البنائيين (أو الأداتين) والأزليين. فهؤلاء الآخرون يرون أنّ الأمم تقوم على تقاليد وهويات إثنية قديمة أو طبيعية، أو أنها تسبق في التاريخ المواطنة السياسية. وبالمقابل، يشدّد البنائيون على السيرورات التاريخية والاجتماعية التي تُقَام أو تُبنَى من خلالها الأمم. ومن بين البنائيين، فإنَّ إيريك هوبسباوم و تيرنس رينجر يريان أنَّ هذا الابتداع للأمم يمكن ردّه إلى نخب تسعى إلى تأمين سلطتها من خلال تعبئة الأتباع. وبالمقابل، فإن البحث التاريخي الذي قام به أنطوني سميث وآخرون يبيّن ضروباً من التواصل الجديرة بالملاحظة بين الثقافات القومية الحديثة والثقافات السابقة عليها. فمع أنَّ هذه التقاليد ذاتها مبنيّة، بمعنى أنها قد أُعيدت صياغتها لأغراض معاصرة، إلا أن ما يمنح التقليد قوته ليس قِدَمه بل تعيّنه وآنيته. ومع أن بعض النظرات القومية إلى الذات قد تكون محلّ شكّ من الناحية التاريخية، إلا أنها واقعية جداً بوصفها أوجهاً للتجربة المعيشية وبوصفها أسساً للفعل. وبصورة أعمّ، فإن الجماعات القومية، كما يرى بندكت أندرسون، هي على الدوام نتاج تخيّل جمعيّ، حيث يتمّ نشر فكرة القومية من خلال الإعلام وتغدو ممكنة من خلال أشكال محدَّدة من التمثيل، مثل المتاحف والإحصاءات، دون أن يقتصر الأمر على اكتشافها وحسب (انظر كتاب بندكت أندرسون الجماعات المتخيلة). وهكذا يبقى الخلاف بين الأزلية والابتداع المحض على سلسلة واسعة من الأنماط التاريخية التي يمكن ضمنها للتقاليد القومية وسواها أن تمارس قوةً فعلية.
لا تزال الصراعات الإثنية، وخطاب الهوية القومية، والقوة العملية التي تتمتّع بها الحراكات القومية تلعب دوراً كبيراً في العالم، على الرغم من ثقة كثير من علماء الاجتماع السابقين بأنَّ القوى القومية في حال من الأفول. ففي أعقاب انهيار الشيوعية، بدت القومية والصراع الإثني على أنها القضايا الأساسية في إعادة ترتيب السياسات والهويات ما بعد السوفيتية في أوروبا الشرقية. كما أنَّ الأفكار القومية تغذّي النزعة الاستقلالية الإثنية من كيبيك إلى دول ما بعد الاستعمار في إفريقيا. أما في سياقات أخرى، فتظهر القومية في حركات تدعو إلى توحيد السكّان المنفصلين، كما هو حال القومية العربية في القرن العشرين والقومية الألمانية في القرن التاسع عشر. وفي أجزاء كثيرة من العالم، تواصل القومية مقاومة العولمة. وذلك في الوقت الذي تكتسي فيه العلاقات العابرة للقومية أهمية مستجدة – وربما كان التكامل الأوروبي أبرز الأمثلة على ذلك – وتغدو المؤسسات ما بعد القومية مثل المحكمة الدولية أو الاتحاد الأوروبي آليات ذات مغزى للحوكمة بل وأسساً للهوية بالنسبة لكثير من الجماعات
ينشر بالتعاون مع مشروع منظمة ثروة للمجتمع المدني[1]