علي عبد الامير
ذكر #بلند الحيدري# :كنت أنتصر لجميل صدقي الزهاوي (1862 – 1936) واتجاهه الفلسفي والاجتماعي ودفاعه عن حقوق المرأة ونزوعه للتجديد، ولو قيّض لي أن أتعلم الرسم، لما كان لي أن أرسم صورة للمعري إلا من خلال صورة للزهاوي، بوجهه الشاحب ولحيته الكثة، باستثناء نظارته وعينيه الذابلتين واللتين لا تذهبان بي بعيداً عن تمثلي لعيني المعري العمياوين،
وعلى مثل ما كنت أنفر من شخصية المتنبي ولا أفهم أبعادها، ومن شعره، ولا أستطيع الغوص عميقاً فيه، كنت أنفر من #الرصافي# ( 1875 – 1945 ) وشعره ولا أحفظ منه إلا ما تعكّر صفوه وساء وصفه لأنال به منه عندما يتسنى لي أن أتحدث عنه أمام زملائي الطلاب وأساتذتي في المدرسة، فهو في نظري شاعر محافظ لا يخرج عن عباءة ما ترسّمه الأقدمون من شعرائنا الصغار وحكمهم. ولا تخرج صوره عن الصورة العينية لتتشكل في بعد رمزي يغري ويحفز على المشاركة في نيلها في الذي هو أكثر من ظاهرها. انها بلا شك أحكام مبشرة، ومجموعة انطباعات، كان بعض أثرها متأتياً من أهل بيتي وأصدقائهم ممن كانو يجلّون الزهاوي لنسبه وعفته وانسياقه معهم في تأييد الحكم، ولا يرون مثل ذلك في الرصافي اللاهي والمشاغب وابن العائلة الفقيرة والمناوئ ل (الملك) فيصل الأول الذي كان فيهم من يحسب على بطانته».
لكن كل أحكام الحيدري ما لبثت أن انقلبت رأساً على عقب بعد لقائه بالرصافي لأول مرة في قضاء الفلوجة، حيث كان يشغل فيه منصب قائمقام القضاء زوج عمته السيد شاكر محمود، والذي أتاه زائراً لقضاء شهر من فصل العطلة المدرسية في مدينة الفلوجة، وكان بيته مفتوحاً كل مساء جمعة لاستقبال زواره من الموظفين ورجال العشائر وبعض وجوه البلد المعروفين حيث كانوا يتحلقون بشكل دائري في فسحة الحديقة المطلة على نهر الفرات، وعلى كراس من الخيزران باستثناء عدد قليل من الكراسي الوثيرة التي خص واحد منها بالقائمقام، وتركت الأخرى لمن يريد أن يوفره من زواره، أو من يريد أن يحدثه حديثاً خاصاً، أو من يريد أن يسر إليه بنبأ سري، وما أكثر تلك الأنباء التي كانت تسري همساً من مكان إلى مكان في تلك الأيام.
ويوم أن وصل الحيدري إلى الفلوجة كان مجلس الجمعة منعقداً في دار زوج عمته الذي “هرع إليّ مرحباً بي وأخذني من يدي، ومن قبل أن أسلّم على عمتي وأولادها ليقدمني إلى ضيوفه، معرفاً بهم واحداً واحداً، ثم أدنى كرسي الوثير ايضا، من كرسيه، وفجأة يقف الجمع مرحبا بشيخ يرتدي اللباس البلدي والعباءة ويسير بتؤدة ووقار وهو يرفع يده ببطء مسلماً على الحاضرين، ثم يتخذ له كرسياً إلى جانب كرسي القائمقام، كما لو انه مكانه الأثير المعدّ له سلفاً، فلا حاجة لأن يسأله عمن يقدمه إليه، وظننته في البدء واحداً من علية القوم في المدينة، إذ لم يسبق لي أن رأيت صورة للرصافي بكوفية وعقال وعباءة. جلس وجلسنا، ودارت فناجين القهوة على الجالسين مصحوبة بالسجائر التي تكفل بأمرها إثنان من خدم البيت، وتوجه عدد ممن ضمهم المجلس بالسؤال عن صحته، وأمور دنياه، وهل من قصائد جديدة؟ ويرد بصوت أجش وهو يبتسم، “هذي الحكومة خلت عدنا شعر”؟ ويلتفت إليه شاكر محمود قائلاً: “ها بدينا (بدأنا) بعد ما كعدنا (ما جلسنا)” ثم يضحك الجميع.
إذن هذا هو الرصافي الذي شغل العراق بقصائده وبأخباره وجرأته (هنا نتذكر عمله الضخم المثير للجدل: الشخصية المحمدية). هذا هو الرجل الذي «ظننت بأنني أكرهه، وها أنني مملوء الآن بمشاعر الاعتزاز لانني أحضر مجلسه، وما أكثر ما سأرويه لزملائي وأساتذتي عنه، سأقول لهم بان ليس بين كرسيه وكرسي غير كرسي القائمقام الذي ما إن يغادره للحظة حتى اتحين الفرصة لتأمله، من مسبحته الطويلة المتدلية من يده اليسرى، وإلى تجاعيد وجهه، حتى إذا ما أنتبه إليّ وإلى عيني المشدوهتين ابتسم لي بطيبة آخاذة، ثم انصرف لسماع حديث بدأه واحد من الحاضرين».
وعن نوادره مع الزهاوي وكان الرصافي يبتسم وهو يردد، “الله يرحمه، لقد شبع موتاً، يا ناس لماذا لا تتركونه ينام بسلام”. فيتزلف له واحد من الجلوس بقوله: “وهل تركته بسلام لنتركه بسلام”، فيبدو على وجه الرصافي شيء من الامتعاض وهو يقول: “كان الرجل طيباً وكنت أحبه وما حدث بيننا يحدث في كل زمان ومكان”، ثم نهض مودعاً جلساءه، فمن عادته أن لا يمكث طويلاً في مثل هذه الزيارات، وينهض الجميع، و”بمشية متثاقلة يتوجه نحو الباب وبصحبته زوج عمتي، وسرت وراءهما، وعند الباب تصافح الاثنان، ثم مد يده إليّ مصافحاً وهو يسألني عن إسمي فأجيبه وانا أرتجف: إسمي بلند، فيضيف زوج عمتي، إنه إبن أكرم الحيدري.
ولكنه اسم غريب، غريب جداً، لعله إسم تركي.
- عمته، أي زوجتي هي التي سمّته به.
وكانت يدي لا تزال في يده، عندما قلت له وأنا اتلعثم، بأنني أريد أن أريه أشعاري فأنا شاعر.
- شاعر، ما شاء الله، تعال لي غداً بعد الحادية عشرة صباحاً واحمل معك شعرك.
ويضحك ويضحك معه مجاملة زوج عمتي، الذي بدا لي وكانه لم يكن راضياً من الأمر، ومع ذلك قال لي إنّ البستاني محمد سيذهب معك وسيرجع معك، مع العلم أن بيته (الرصافي) على مدى أمتار قليلة من دار القائمقام ولم أدرك سبب إصراره على أن يصحبني محمد.
سهرت طوال الليل وأنا أختار من القصائد ما هو جدير بأن أحمله إليه، وكانت حقيبتي المدرسية ملأى بالعشرات مما كنت أظنه شعراً. بكرّت في الاستيقاظ وأعدت النظر في القصائد المختارة، وفي الموعد المحدد بعناية فائقة لأذهب مع محمد إلى دار الرصافي، كان في مثل لباسه الذي رأيته فيه يوم أمس، الغرفة بسيطة جداً بأثاثها. كراسٍ عدة وطاولة خشبية عادية ومشجب قديم علقت عليه ملابسه دون انتظام، وكان معه أحد معارفه الذي سرعان ما استأذنه بالانصراف، ولم يبق غير”عبد” القائم على خدمته وغير محمد الذي انتبذ زاوية من الغرفة وجلس فيها القرفصاء.
«أنت شاعر ... ها ... أرني ما معك»
ومددت ما أحمل من الأوراق إليه راح يقلبها بعجل، ثم عاد إلى تقليبها مرة ثانية وأنا أنتظر متلهفاً أن يقول شيئاً ثم أخذ يقرأ بعض الأبيات بصوت خافت، ويقف ليعلق تعليقاً موجزاً: “هذا بيت جيد، موزون واللغة سليمة.. الأفكار جيدة” ثم يرفع عينيه إليّ وهو يقول: “عليك أن تحفظ من الشعر الكثير وعليك باللغة» الأخطاء كثيرة في الوزن وفي اللغة، ولكن لا بأس كلنا بدأنا هكذا.. من تحب من الشعراء؟
* طبعا أحب الرصافي العظيم، وأحب المعري وقيس بن الملوح.
هز رأسه مبتسماً وهو يعيد إليّ حزمة الأوراق: “اكتب غيرها وعد إليّ بعد غد”(2).
وفوجئت بعد مكوثي أسبوعين في الفلوجة، بطلب من والدي بأن أرجع لبغداد، ولم ينفع رجاء عمتي وهكذا عدت لبغداد بعد أن ودعت الرصافي وشددت على يده، معبّراً عن جزيل شكري لنصائحه وما قوّم من شعري، ووعدته بأنني سأضبط موازين الشعر وسأقوّي لغتي».
عن مقال ( الرصافي والحيدري : جسر من كلاسيكية الشعر وحداثته).[1]