بشرى علي: نساء التاريخ الكردي القريب.. مالا تعرفه عن بطولات المرأة الكردية من أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين ( الحلقة الثانية)
نتيجة للواقع الجيوسياسي لكردستان، فقد شهد تاريخها عدداً لا يحصى من الحروب والمعارك التي دارت على أرضها لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، والتي لم يكن للشعب الكردي فيها ناقة ولا جمل. هذا عدا عن ظواهر الاستعمار والاحتلال الخارجي على مختلف مسمياته وهوياته، طمعاً بثرواتها الباطنية والسطحية. ولكن أهم حدثَين تاريخيين بالنسبة لكردستان، هما اتفاقية قصر شيرين عام 1639، والتي قُسِّمَت فيها كردستان إلى قسمَين بين الإمبراطوريتَين العثمانية والصفوية؛ واتفاقية لوزان عام 1923، والتي قُسِّمَت فيها كردستان إلى أربعة أجزاء متوزعة بين الدول الإقليمية تركيا وإيران والعراق وسوريا.
فإذا ما وضعنا هذا الواقع نصب العين، وتخيلنا ظروف الحرب الدائرة باستمرار في كردستان، بالإضافة إلى استعمارها واحتلالها ما بين القرنين التاسع عشر والعشرين بصورة خاصة؛ وإذا ما أضفنا إلى ذلك وطأة التقاليد الدينية الإقطاعية التي باتت تحبس المرأة بين أربعة جدران، فإننا نستطيع تصوّر مدى المعاناة التي كانت تعانيها المرأة الكردية، ليس فقط بسبب هويتها القومية، بل وكامرأة أيضاً. فأنْ تَكون امرأة في الشرق الأوسط أمر صعب للغاية. فما بالك أن تَكون امرأة في كردستان المستعمَرة! يبدو أن الأمر في غاية الصعوبة من حيث إبراز الهوية الأنثوية المستقلة، والتحلي بالإرادة والقوة الذاتيتين في ظل تلك الظروف الحالكة.
بالتالي، فليس من السهل دخول أبواب التاريخ والتحول إلى ملحمة تاريخية، وخاصة في ظروف الحرب. لكن حفاظ المرأة الكردية على الإرث النيوليتي العريق المتجذر لديها منذ آلاف السنين، وارتباطها بالأرض والوطن، قد كوّن لديها شخصية قتالية تتسم بروح المقاومة والبسالة، كي تتمكن من الدفاع عن وطنها ضد الاستعمار من جهة، ومن مواجهة التقاليد البالية التي تُقصيها من الحياة من جهة أخرى. بمعنى آخر، فالواقع السياسي والمجتمعي الكردي قد حتّم على المرأة الكردية أن تتحلى بالهوية السياسية والقتالية كخصال متجذرة ومتداخلة دون بد، وبنسبة عُليا تفوق ما هي عليه المرأة لدى باقي شعوب العالم بكثير. أما مَن لم يتحلَّ بهذه الخصال من النساء الكرديات، فكنّ يقبعن تحت وطأة مصطلحات عنفية وقمعية من قبيل “العيب، الحرام، الشرف، والناموس”، وكنّ يعانين الجهل والتخلف اجتماعياً.
الشخصيات النسائية الكردية في أواخر القرن التاسع عشر
وإذا ما تناولنا الشخصيات النسائية الكردية في أواخر القرن التاسع عشر حتى أواسط القرن العشرين، فبإمكاننا تسليط الضوء على العديد من الشخصيات التي تشكل إرثاً تاريخياً عظيماً على صعيد هوية المرأة. ولعل أبرز الأمثلة تتجلى أمامنا في كردستان تركيا (شمال كردستان/ باكور). حيث اندلعت الكثير من التمردات الكردية المتسمة بالطابع الإقطاعي وبالصبغة الدينية بالإضافة إلى طابعها القومي التقليدي. كانت تلك التمردات تطالب باسترداد الحقوق الكردية المسلوبة، وترفض سياسة الإنكار المفروضة عليها بعد اتفاقية لوزان.
وعلى الصعيد النسائي، فرغم التقاليد الإقطاعية المحافظة، ورغم تطويق المجتمع لها، إلا إن المرأة كسرت الطوق وحطّمت القيود، فاحتلت آلاف النساء أماكنهن في التمردات الكردية جنباً إلى جنب مع الرجل، حيث كنّ يتقنّ استخدام السلاح. ومَن لم تَكن تُجيد استخدام السلاح، كانت تقاتل بالعُصيّ والهراوات والحجارة. ولعل بسة وظريفة خانم من أهم الأسماء النسوية الطليعية في تلك الفترة.
بسة خانم .. براعة استخدام السلاح وقتال العدو
بسة خانم هي زوجة قائد عصيان “ديرسم”، الشيخ سيد رضا. عُرفت بمشاركتها الطليعية في قيادة التمرد اعتماداً على قوتها الذاتية وثقتها اللامحدودة بذاتها وبروحها الوطنية العظمى وبعزمها الكبير، لتتحول إلى ملحمة. كانت بارعة في استخدام السلاح ومعروفة بروح التضحية الفدائية. وقد قاومت وقاتلت العدو التركي الغاشم حتى آخر نفَس، لدرجة أن الصحفي بارباروس بايكارا قال عنها في كتابه عن انتفاضة ديرسم: “لقد تسلقت الجبال الوعرة مع حفنة من النساء، وقاتلت العدو ببسالة، لدرجة أن العدو ظنّ أن مقابله جيش جرار”. لم تأبه للقصف الجوي أثناء قتالها الأخير، وعندما انتهت طلقات الرصاص لديها، بدأت ترمي الجنود الأتراك بالحجارة. وعندما رأت أنها ستقع أسيرة بيدهم، بدأت تصرخ بصوت جهور: “لن تستطيعوا الإمساك بي وأسري”، فرَمَت بنفسها من المنحدر الشاهق، ليبقى الجنود مذهولين أمام جرأتها. لقد كانت تَعتَبر التمرد حرباً لأجل حريتها كأنثى، فربطَت مصيرَها بمصير شعبها، وأدركَت أنْ لا حرية لها من دون تحرر شعبها.
ظريفة خانم.. أبرز رموز التمرد النسائي الكردي
أما ظريفة خانم، فهي ثاني اسم شهير في تمرد ديرسم. وهي زوجة الشيخ علي شير. هي أيضاً كانت مقاتلة باسلة، فكان السلاح لا يفارقها البتة. كانت علاقتها مع زوجها أقرب إلى الصداقة. فبقيا يقاتلان معاً حتى آخر رمق. وعندما أصابت رصاصة العدو زوجها، قامت ظريفة خانم بتوجيه سلاحها إلى الجنود، وتبدأ برشهم بوابل من الرصاص، إلى أن نالت الشهادة، وتحولت هي أيضاً إلى ملحمة ديرسمية. هذا ولا بد من التطرق إلى كولناز خانم، أخت عزت بيك، أحد قادة عصيان آغري، والتي عرفت بجرأتها القتالية وحكمتها أيضاً.
روشن بدرخان ..تثقيف الذات الطريق الأولي
أما روشن بدرخان، فقد بذلت جهوداً حثيثة في تثقيف ذاتها، فكانت تجيد خمسة لغات عدا لغتها الكردية الأم. كان لها دور بارز في النضال القومي، حيث عُرِفت بأنشطتها الدبلوماسية واللغوية والسياسية. كما دعمت نشاطات زوجها الأمير جلادت بدرخان، مؤسس قواعد اللغة الكردية بحروفها اللاتينية العصرية. وكانت من مؤسسي جمعية “العلم والدعم الكردي” التي تشكلت في حلب عام 1956. وكانت من الكتّاب الرئيسيين في مجلة “هاوار” الصادرة باللغة الكردية، وأحد المحررين فيها. وأكثر ما عُرفت به هو مشاركتها في “مؤتمر مناهضة الكولونيالية” الذي انعقد في اليونان عام 1957.
كرديات بارزات في كردستان العراق
أما على صعيد كردستان العراق (جنوب كردستان/ باشور)؛ فمن أهم النساء التي عرفتها منطقة شهرزور هي:
عديلة خانم.. زوجة رئيس عشيرة جاف
عديلة خانم، زوجة رئيس عشيرة جاف الشهيرة، والتي فاقت شهرتها على شهرة زوجها، لتحليها بالحكمة والذكاء. حيث حكمت العشيرة أكثر من خمس عشرة سنة في أحلك الظروف، عشية وأثناء وبعد الحرب العالمية الأولى. وفي نفس الفترة عُرِفَت أيضاً حافظة خان، أخت شيخ محمود البرزنجي، بسيادتها السياسية الحكيمة.
النقيبة حسبة خان.. ابنة ملك كردستان
أما النقيب حبسة خان، ابنة النقيب معروف البرزنجي، وابنة عم محمود البرزنجي، مَلك كردستان العراق حينها، وزوجة الشيخ قادر الحفيد؛ فقد عُرفت بعطائها الزاخر وثقافتها العالية ومساندة القوية لنساء كردستان. و”النقيب” لقب لازَمَها بسبب أبيها، لأنه كان ممثلاً برتبة “نقيب” لسادات منطقة شيخان. وقد عملت على حل الكثير من مشاكل النساء الاجتماعية والاقتصادية، وحاولت تخليصهن من الظلم والقسوة الرجولية التي كنّ يتعرضن لها. فتحوّل منزلها إلى مركز اجتماعي ومدرسة خاصة تتعلم فيها النساء شتى أنواع المعارف وأسس الخُلُق الرفيع في المجتمع من جهة، وتتشرب بالروح الوطنية والوعي الخاص بحقوق المرأة من جهة ثانية. أشرفت حبسة النقيب على تأسيس أول جمعية نسوية في أواخر حزيران من عام 1930 تحت اسم “جمعية نساء الكرد”. فكانت تلك أول جمعية نسائية تدافع عن حقوق المرأة على صعيد الشرق الأوسط. كما كان موقفها مشرفاً أثناء انتفاضة الشيخ محمود الحفيد، فتعرضت للكثير من المصاعب بعد انتكاسة الانتفاضة. فوجهت رسائل ونداءات إلى أحرار العالم للوقوف مع حقوق وتطلعات شعبها الكردي المظلوم. ولعل أهم رسالة دونتها هي تلك التي أرسلتها إلى عصبة الأمم عام 1930 بشأن تلبية المطالب القومية للشعب الكردي والاعتراف بحقهم في تقرير المصير، والتي تنكرت لها الحكومة العراقية وحليفتها بريطانيا آنذاك. وظلت تدأب على نصرة المظلومين وتعليم وتثقيف النساء إلى أن وافتها المنية نتيجة إصابتها بمرض السرطان.
ليلى قاسم.. أول شهيدة بشمركة
أما بالنسبة إلى ليلى قاسم، التي كانت تدرس علم الاجتماع بكلية الآداب في جامعة بغداد، فتُعتَبَر أول بشمركة شهيدة في تاريخ كردستان القريب. وكانت من رواد عملية اختطاف الطائرة مع رفاقها الأربعة، في محاولة منها لإيصال صوت شعبها إلى الرأي العام العالمي. لكن فشل هذه العملية أدى إلى اعتقالها من قِبَل النظام البعثي العراقي الشوفيني، لينتهي الأمر بإعدامها مع رفاقها الأربعة في أيار 1974، وهي ما تزال في ربيعها الثاني والعشرين. كانت آخر كلماتها وهي تتجه نحو الإعدام: “إنني فخورة بانتمائي إلى شعبي الكردي وإلى حزبي النضالي. أرجو أن تسامحوني لأنني لم أنجح في عمليتي العسكرية. إنني جاهزة للموت، ولن أقبل بطلب الغفران والعفو من الجلاد الظالم”. وبعد أن لُفّ حبل الإعدام حول رقبتها، بدأت بغناء “النشيد الكردي الوطني” (أي رقيب) إلى أن استشهدت.
مينا قاضي .. زوجة رئيس مهاباد
وفي كردستان إيران (شرق كردستان/ روجهلات) هناك مينا قاضي، زوجة القاضي محمد، رئيس جمهورية مهاباد، والتي تُعتَبَر أشهر من نار على علم. حيث أسست مينا خانم “الاتحاد النسائي الديمقراطي” عام 1945 في شرق كردستان، وترأسته. كما تحملت الكثير من المهام الصعبة في عهد الجمهورية، وبذلت جهوداً حثيثة كي تأخذ النساء أماكنهن بفعالية ضمن الجمهورية. إضافة إلى ذلك، فقد اهتمت بالتشاطر والتكافل النسائي قائلة: “على النساء أن يتشاطرن مشاكلهن، كي يتمكنّ من إيجاد الحلول لها. وقد ألقت الكثير من المحاضرات عن حقوق المرأة، وترجمت أقوالها على أرض الواقع. كما عملت على إصدار مجلة “هلالة” بالتعاون مع كوليزار شكاكي (من أقارب سمكو شكاكي قائد إحدى الانتفاضات الكردية في روجهلات) بهدف تثقيف وتوعية المرأة، بالإضافة إلى أنشطتها التعليمية الخاصة بالنساء. هذا وظلت السلطات الإيرانية تعتقلها وتعرضها لأشد أنواع التعذيب حتى عندما كانت في السبعين من عمرها.
بنت نغده (نسبةً إلى مدينة نغده في شرق كردستان) أيضاً كانت من النساء النافذات في عهد جمهورية مهاباد. وهو لقبها الذي طغى على اسمها الحقيقي، فصار هويتها الرئيسية لدى الشعب الكردي. وقد عُرِفت ببسالتها وذكائها ونضالها الدؤوب منذ أن كانت شابة يافعة، مما أثار غضب السلطات الإيرانية التي اعتقلتها وعرَّضتها لأشد أنواع التعذيب الوحشي، إذ ربطتها بالسلاسل الحديدية لشهور عديدة وفقأت عينيها في محاولة يائسة لفرض الاستسلام عليها. وعندما فشلت السلطات في مآربها تلك، قامت بإعدامها عام 1947.
مستورة أردلاني.. شاعرة واجهت الرفض وسجلت تاريخ عشيرتها
ولعله من الضروري أيضاً ذكر اسم مستورة أردلاني، الشاعرة الكردية الصغيرة. لقد اهتمت بالفن والأدب في عصر كان من المعيب على المرأة جداً أن تلتفت إلى مثل هذه الساحات. لكنها تحدّت كل العراقيل والعوائق المجتمعية، وحاولت عكس آلام شعبها عن طريق الشعر والأدب الثوري. كما أرّخَت مسار عشيرة أردلان الشهيرة منذ صعودها وحتى سقوطها. وقد جمعت كل نتاجاتها الأدبية والتاريخية في كتاب باسم “تاريخ كردستان”. ولم تنسَ مستورة تثقيف أندادها، فحوّلت بيتها إلى مدرسة لتعليم وتثقيف أقرانها، وخاصة من الفتيات، قائلة لهم “عليكم بالعلم والمعرفة، كي تتمكنوا من تأريخ آلام ومحطات شعبكم، لتستعين بها الأجيال القادمة وتستنبط منها الدروس والعبر”.
لقد عملنا على أخذ عيّنات ثلاثية من أغلب أجزاء كردستان على سبيل الذكر وليس الحصر. وكل هذه الشخصيات النسائية اشتهرت وبرزت خلال قرابة القرن. لكنه قرن حافل بالمشقات والمصاعب والحروب. ولن يكون صحيحاً المرور على الأمر من دون القول أنه ثمة الكثير من رؤساء العشائر الكردية كانوا من النساء، إضافة إلى شهرة الكثير من العشائر الأخرى بأسماء نسائها رغم أن رؤسائها كانوا ذكوراً. إلا إن تاريخ كردستان الحديث جداً، أي بعد منتصف القرن العشرين وحتى الآن، بدأ يشهد مرحلة مختلفة كل الاختلاف عن مجموع ما شهده في تاريخه، سواء على الصعيد النهج الفكري والسياسي والقتالي أم على صعيد حرية المرأة.
وهذا ما سيكون مسار حديثنا في موضوعات اخرى وللحديث بقية…
“الديوان”[1]