=KTML_Bold=تقرير سري أميركي عن مستقبل القومية الكردية عام 1965=KTML_End=
«تركيا الموحّدة» ليست مضمونة.. و«التتريك» متعثر في كردستان
#حسين جمو#
في أكتوبر 1965 كتب الدبلوماسي الأمريكي روبرت إس. ديلون تقريراً سرياً بعد رحلة ميدانية قام بها إلى شمال كردستان خلال فترة الحملة الانتخابية البرلمانية في تركيا. ورغم أنّ المهمة الرسمية كانت مراقبة أجواء الانتخابات العامة في 10 أكتوبر، فإن التقرير سرعان ما أصبح قراءة سياسية – إثنوغرافية لمنطقة كانت، في ذلك الوقت، بعيدة عن المركز التركي، وكان ينقل إلى الدبلوماسيين الدوليين في أنقرة وإسطنبول أن القومية الكردية قد ماتت.
ينقل ديلون منذ البداية انطباعاً واضحاً عن «الطابع غير التركي للمنطقة»، وعن وعورة جغرافيتها، وعن «الطابع الاستعماري للإدارة التركية»، حيث بدا الجهاز البيروقراطي القادم من غرب البلاد معزولًا عن السكان المحليين، ومنفصلًا عن لغتهم وحياتهم اليومية.
وتكتسب الوثيقة أهمية إضافية حين نقرأ تعليق مستشار السفارة الأمريكية، كريستوفر فان هولن، الذي أحال التقرير رسمياً إلى وزارة الخارجية الأميركية وإلى بعثات الولايات المتحدة في إسطنبول وإزمير وأضنة وطهران وتبريز وبغداد. فقد شدّد فان هولن على أنّ ما سجّله ديلون يعكس واقعاً إثنياً وسياسياً «لا يمكن تجاهله»، وأنّ القومية الكردية ما تزال عنصراً فاعلاً في جنوب شرق تركيا، بل وتشكّل تهديداً محتملاً لوحدة الدولة التركية.
بهذا المعنى، يُعد تقرير ديلون وثيقة مبكرة تمنح القارئ اليوم صورة دقيقة عن نظرة الدبلوماسية الأمريكية إلى المشهد الكردي – التركي قبل عقود طويلة من تحوّل القضية إلى ملف دولي واسع التعقيد.
=KTML_Bold=نظرة على انتخابات 1965=KTML_End=
لاحظ ديلون أنّ القومية الكردية «حية وفاعلة»، لكنّها لم تترجم انتخابياً لحزب ذي هوية كردية (وهذا طبيعي لغياب أي حزب يُسمح له بذلك). لذلك تحولت الكتلة الكردية إلى أداة توازن بين الأحزاب التركية الثلاثة: العدالة والشعب الجمهوري وتركيا الجديدة.
في انتخابات #10-10-1965# ، منح الناخب التركي أغلبية واسعة لحزب العدالة بقيادة سليمان ديميريل، الذي حصد حوالي 52.9 % من الأصوات و 240 مقعداً من أصل 450 مقعداً، في مقابل 28.8% لحزب الشعب الجمهوري و 134 مقعدًا. أما حزب تركيا الجديدة فقد حصل على نسبة متواضعة على مستوى البلاد، لكنه حقق حضوراً ملحوظاً في المناطق الكردية تحديداً، حيث وجد قبولاً أكبر لدى العائلات المحلية مقارنة بالأحزاب المركزية. واعتمد قسم من الكرد على هذا الحزب تكتيكياً كالعادة، لتعذر التصويت لحزب كردي أساساً. لكن لم يحتشد كل الكرد وراءه، فقد توزعت أصوات انتخابات 1965 على الأحزاب بالتساوي تقريباً في شمال كردستان.
رغم أن حزب العمال التركي دخل البرلمان لأول مرة ب14 مقعداً، فإن حضوره الكردي كان محدوداً جداً لسببين، فقد بنى خطابه على الطبقة العاملة، وفشل في فهم العلاقة المعقدة والمختلفة بين الفلاح والملّاك في كردستان.
وتكشف خريطة التصويت في الولايات الكردية – كما يلمّح ديلون نفسه – أن المنطقة كانت تتفاعل مع الانتخابات بطريقة مختلفة تماماً عن غرب البلاد. فالكتلة الكردية لم تكن تنحاز لأيديولوجيا معينة، بل كانت تتحرك وفق توازنات اجتماعية – عشائرية، ونفوذ الآغوات، وعلاقات الطرق الدينية، وضعف الحضور الفعلي للدولة في الريف. ومن هذا المنظور، استفاد حزب العدالة من تحالفاته التقليدية ومن شبكة علاقات ممتدة في الريف، بينما وجد حزب تركيا الجديدة مكاناً له بسبب خطابه الأكثر براغماتية. أما حزب الشعب الجمهوري، بهويته الكمالية المركزية، فقد بقي ضعيفاً في معظم الولايات الكردية واعتمد أكثر على تصويت الموظفين الأتراك العاملين في المنطقة الكردية.
وتظهر «سرت» كنموذج لافت في تقرير ديلون؛ فهي مدينة بحضور عربي قوي، محاطة بريف كردي كامل. هذا التنوع انعكس في صناديق الاقتراع التي توزعت بين النفوذ العشائري لصالح حزب العدالة، وبين رموز محلية ترتبط بحزب تركيا الجديدة، بينما بقي حضور الشعب الجمهوري محصوراً في المراكز الإدارية. فقد قدم أحد المرشحين نفسه عربياً في سرت وكردياً في أنقرة لمحاولة كسب أصوات كل من الكرد والعرب في مراكز التصويت القوية.
إن قراءة نتائج انتخابات 1965 عبر تقرير ديلون وتعليق فان هولن عليها تقدّم صورة مبكرة ومعمقة لما ستشهده تركيا لاحقاً من توترات وصراعات حول الهوية، والتمثيل السياسي، والعلاقة بين الدولة والمجتمع في شمال كردستان، وصولاً إلى اللحظة الراهنة المتمثلة في عملية السلام بين الجمهورية وحزب العمال الكردستاني.
وإلى جانب قيمته التاريخية، يظل تقرير ديلون واحداً من أهم الوثائق الدبلوماسية التي سجلت مبكراً هشاشة مشروع «التتريك» في الجنوب الشرقي، وواقع منطقة تشعر أنها مختلفة، وتنظر إلى الدولة بنوع من المسافة، وتحمل في داخلها قدرة كامنة على إعادة تشكيل المعادلات السياسية في تركيا كلّها.
فما يلي النص الكامل للتقرير المترجم كما ورد في أرشيف وزارة الخارجية الأمريكية. ونشر في كتاب:
Turkey in the 1960’s and 1970’s: Through the Reports of American Diplomats
edited by Rifat N. Bali
تقرير روبرت إس. ديلون، «رحلة ميدانية إلى جنوب شرق تركيا»، بتاريخ 19 أكتوبر 1965
سري
إلى: وزارة الخارجية
معلومات إلى: إسطنبول، إزمير، أضنة، طهران، تبريز، بغداد
من: سفارة الولايات المتحدة – أنقرة
الموضوع: رحلة ميدانية إلى جنوب شرق تركيا
التاريخ: #19-10-1965#
المرجع: A-1016
مُرفق تقرير عن رحلة قام بها الموظف الدبلوماسي روبرت إس. ديلون إلى المناطق ذات الغالبية الكردية في جنوب شرق تركيا. كان الهدف الرئيسي من الرحلة هو مراقبة التطورات السياسية المتعلقة بالحملة الخاصة بالانتخابات العامة التركية التي جرت في 10 أكتوبر. يتضمن المرفق ملاحظات لا علاقة لها بالانتخابات.
لقد لفت انتباه الضابط المكلّف بإعداد التقرير الطابع غير التركي للمنطقة، ووعورتها الجغرافية، والطابع الاستعماري للإدارة التركية، وحيوية الأكراد. وهو يخلص إلى أن القومية الكردية لا تزال عاملاً مهماً في المنطقة ويمكن أن تشكل تهديداً محتملاً لوحدة تركيا.
نسخة إلى السفير..
كريستوفر فان هولن
مستشار السفارة
تقرير الدبلوماسي روبرت إس. ديلون:
رحلة إلى جنوب شرق تركيا (كردستان)
خلال الفترة من 27 سبتمبر إلى 4 أكتوبر، سافرت في الولايات ذات الغالبية الكردية في جنوب شرق تركيا، برفقة نائب القنصل جون كيلي وعبدالله قصبجي من قنصليتنا في أضنة. وكان الغرض الرئيسي من الرحلة ملاحظة النشاط السياسي المرتبط بانتخابات 10 أكتوبر. إضافة إلى ذلك، سنحت لي فرصة للاطلاع على الظروف العامة في المنطقة، وكنت مهتماً بشكل خاص بتكوينها العرقي، شأني شأن كثير من الزوار الذين سبقوني.
الصفحة الأولى من التقرير وفيه تعليق مستشار السفارة فان هولن
وعند السير شرقاً من أضنة عبر غازي عنتاب، وهي مدينة آسرة بطابع عربي واضح، يظل المرء يتذكّر أنه ليس في الأناضول الداخلية، بل على الحافة الشمالية للسهل السوري. وبالتقدم شرقاً، يبدو نهر الفرات كأنه الحد الفاصل لكردستان. ورغم أن مدينة أورفا مختلطة بوضوح بين الأتراك والكرد والعرب، فمن الراجح أن جزءاً كبيراً من الولاية كردي. ويزداد هذا النمط وضوحاً مع التقدم شرقاً؛ فدياربكر مثلاً ذات غالبية كردية، وينطبق الأمر ذاته على ألازيِغ، بينما الولايات خفيفة السكان مثل موش وبينغول وتونجلي (والتي لم أزرها) يُقال إنها كردية بالكامل.
دياربكر، وهي مدينة يبلغ عدد سكانها نحو 100,000 نسمة، تُعد مركز الجنوب الشرقي التركي، تماماً كما تُعد أرضروم مركز الشمال الشرقي. وتوجد في حيها الجديد مستوطنة كبيرة من الإثنية التركية معظمهم موظفو دولة وضباط جيش وقلة من رجال الأعمال جاؤوا من غرب تركيا. أما بقية المدينة فهي كردية.
ورغم أن دياربكر ما تزال تحمل الكثير من سمات المدن الوسيطة، فإن فيها حراكاً نشيطاً. ومن أبرز أسباب هذا الحراك وجود منشآت نفطية وقواعد عسكرية أمريكية جلبت معها موجة من الأجانب ومن الأتراك الغربيين. كما يوجد في المدينة فندقان جيدان (أكثر مما يُرى عادة في بقية جنوب شرق تركيا)، بالإضافة إلى عدد من المطاعم الجيدة.
من دياربكر توجهنا إلى ألازيغ، وهي مركز منطقة كردية أخرى، وإن بدت المدينة ذاتها ذات نسبة عالية نسبياً من السكان الأتراك. وقد يعود ذلك إلى قربها من خربوط (خاربيت)، المدينة الأقدم التي كانت مركزاً أرمنياً مهماً. واليوم هي مجرد أطلال، بعد أن دمّرت عام 1916، بعيدة جداً عن بدايات القرن الماضي حين كانت تضم قنصلية أمريكية ومدرسة أمريكية. أما العائلات الثرية في ألازيغ اليوم فهي من أحفاد المتعاونين مع أتاتورك، الذين مُنحوا أراضي الأرمن المرحّلين مكافأةً عن خدماتهم.
تقع ألازيغ على رأس وادٍ خصب سيُغمر جزء منه بمياه سد كيبان قريباً. وبينما يتطلع كثيرون إلى المكاسب الاقتصادية المتوقعة، فإن الأكثر تشاؤماً — وربما الأكثر بصيرة — يؤكدون أن فوائد السد ستذهب إلى الغرباء القادمين من غرب تركيا، لا إلى السكان المحليين، وبخاصة بعض الفلاحين الكرد الذين سيفقدون منازلهم.
من ألازيغ عدنا إلى دياربكر ثم واصلنا الرحلة في اليوم التالي إلى سِرت، التي يمكن وصفها بحق بأنها خارج طرق السفر المعتادة. فالطريق الرئيسي شرقاً يتوجه نحو بدليس وتتوان و وان. وللوصول إلى سرت، يجب الانعطاف عن الطريق العام والسير عبر أرض صخرية متكسرة. وهذه هي ديار قوجرو، الرجل الأشهر في قصص اللصوصية التركية، والذي كانت الصحافة تنسج حوله عشرات الروايات، معظمها رومانسي مبالغ فيه. وكان قوجرو، بطبيعة الحال، كردياً — ومعنى اسمه «النسر» بالكردية — رغم أن هذه الحقيقة لم تُذكر في الصحف قط. ورغم غيابه، فإن ذكراه لم تُمحَ، ولا تزال المنطقة تعاني من اللصوص والقطاع. ويُقال إن ولاية سرت هي الأسوأ، لكن اللصوصية واسعة في ولايات سرت ودياربكر وماردين وبدليس وموش وتونجلي (ديرسم). وتُسَيَّر دوريات الدرك ليلاً على الطرق الرئيسية كضرورة لمرور أي سيارة، بحسب ما قيل لنا.
قبل وصولنا بيوم أو يومين وقع اشتباك مسلح بين قطاع طرق وبين الدرك أو القوات النظامية. ولم يرد هذا الخبر في الصحافة، لكنه كان معروفاً للجميع وفقاً لمتطوع فيلق السلام في المدينة. وقد جُرح رائد تركي بجروح خطرة ونُقل بمروحية إلى دياربكر.
وبعيداً عن وجود قطاع الطرق، فإن أكثر ما يلفت الانتباه في سرت هو أن المدينة نفسها ذات أغلبية عربية، بينما ريفها كردي. ففي الشوارع تُسمَع العربية في كل مكان، رغم أن الكثير من سكان سرت قادرون على التفاهم بالتركية والكردية. وأشار متطوع فيلق السلام الذي يدرّس الإنجليزية في الثانوية إلى أن مشكلة اللغة كبيرة، لأن جميع المدرسين من غرب تركيا، وكثيراً من الطلاب يعرفون التركية بشكل محدود. والمشكلة تزداد في المرحلة الإعدادية لأن من يكملون للمرحلة الثانوية يكونون عادة قد أتقنوا التركية.
العرب في سرت جميعهم تقريباً مسلمون سنّة، بخلاف ماردين إلى الجنوب الغربي حيث تسكن جماعات عربية مسيحية، أو القرى العربية في أضنة ولواء الإسكندرون حيث الغالبية العلوية. وعلى خلاف معظم ولايات الغرب، لا توجد في سرت سوى قريتين عربيتين حسب أحد المصادر، وهي تقف وحدها تقريباً كمنطقة عربية.
وكان أحد أسباب زيارتي لسرت أن أرى عديل ياشا، نائب حزب الشعب الجمهوري الذي كان يخوض انتخابات التجديد. كان ياشا في قرية يقوم بحملته الانتخابية حين وصلنا، وعاد في اليوم التالي. لم ننتظر قدومه لأننا غادرنا صباحاً إلى بدليس، لكن أتيحت لنا فرصة الحديث إلى بعض زملائه. وأبرز الحقائق التي ظهرت أن عديل ياشا، الذي يُعتبر كردياً في أنقرة، والذي يُعد شقيقه الأكبر البروفيسور ممدوح ياشا «مفكراً كردياً بارزاً» في إسطنبول، هو في الواقع من أصل عربي.
كان ممدوح قد لمح إلى هذا الأمر عندما تناولتُ الغداء معه في إسطنبول في أغسطس، وأخبرني مبتسماً أنّه سيجد الكثير من الناس في سرت الذين يتحدثون العربية.
وأخبرنا مصدر آخر من سرت، وهو عربي أيضاً، أن الشائعة تقول إن عديل ياشا دفع 25 ألف ليرة تركية ليكون على رأس قائمة حزب الشعب الجمهوري في الولاية. وذكر هذا المصدر عدة عائلات كردية مالكة للأراضي ك «آغوات» محتملين، لكنه لم يذكر آل ياشا. ويمكن الاستنتاج أن آل ياشا خارج سرت يفضلون تعريف أنفسهم كأكراد لا كعرب.
من سرت قدنا إلى مسقط رأس وليام سارويان في بدليس، وهي مدينة تركية – أرمينية قديمة تتموضع بصورة استراتيجية فوق وادٍ عميق لنهر دجلة، على الطريق الرئيسي شمالاً من دياربكر وسوريا إلى بحيرة وان. وبدليس ليست مدينة جميلة، لكنها شديدة الجاذبية لأنها، بخلاف كثير من مدن أرمينيا القديمة، لم تُدمّر بيوتها الأرمينية وما تزال مأهولة. هذه البيوت متينة البناء إلى درجة أن بدليس، كما قال أحد المسؤولين المحليين، «تبدو أكثر مدينة متينة البناء في تركيا».
ثم زرنا والي بدليس، وهو شاب يتحدث الإنجليزية، درس في جامعة كانساس ضمن برنامج تبادل. وبعد زيارتنا له، قدنا إلى تتوان، ميناء العبّارات في الطرف الشرقي لبحيرة وان. ومن هناك التففنا حول الساحل الجنوبي للبحيرة، وهي منطقة جبال شاهقة وعرة، ووصلنا إلى وان في وقت متأخر بعد الظهر.
وان أيضاً مدينة أرمنية قديمة، لكنها، بخلاف بدليس، دُمرت فيها المنشآت الأرمنية كلها تقريباً. وتقع المدينة الجديدة على بعد نحو ثلاثة كيلومترات من موقع المدينة القديمة على شاطئ البحيرة، وهي تتجه نحو التلال. وتبدو «جبليّة» الكرد أكثر وضوحاً هنا. والبحيرة خالية من القوارب، ونادراً ما تُستخدم، رغم أن الطريق المحيط بها يعج بحركة الحافلات والشاحنات والخيول والحمير والمشاة.
وفي وان فندقان جديدان يحاولان جذب السياح. لكن فندق «تورستيك» من الداخل لا يرقى إلى مظهره الخارجي. ورغم ضرورة الحذر في التعميم، يبدو أن الأتراك ليسوا أسوأ أصحاب فنادق في العالم كما يقول بعض الرحالة المخضرمين؛ إذ يبدو أن هذا الامتياز يعود للكرد.
بعد قضاء ليلة السبت في وان، حيث تحدثنا إلى بعض السياسيين المحليين حول التنافس الثلاثي بين حزب العدالة وحزب الشعب الجمهوري وحزب تركيا الجديدة، انطلقنا فجراً نحو هكاري. وكان هذا الجزء من الرحلة من أكثر فصولها إثارة، إذ شاهدنا كثيراً من الأطلال القديمة، معظمها أرمنية، وعدداً كبيراً من المشاهد الحديثة، غالبيتها أكراد يمتطون الخيل، بعضهم يحمل أسلحة حديثة. رأينا رجلاً قربنا يحمل بندقية «إنفيلد»، وهو مشهد غير مألوف مقارنة بغرب تركيا حيث لا يملك القرويون سوى بنادق قديمة.
يمر الطريق المؤدي إلى هكاري عبر طبيعة خلابة تشمل وادي الزاب الكبير. والبلدة نفسها ليست مدينة حقيقية، بل مركزاً حكومياً في قلب كردستان. وتضم مباني أساسية: منزل الوالي، وثكنة درك كبيرة، ومحطة إنشاء طرق. ويبدو أنه لا وجود لقوات نظامية داخل البلدة، لأنها كانت متمركزة — كما قيل لنا — على الحدود العراقية. كما قيل لنا إن عدد سكان البلدة يرتفع شتاءً إلى نحو أربعة آلاف مع وصول أعداد كبيرة من الرحل وأنصاف الرحل. وقد بدأ هؤلاء بالفعل بالنزول من المراعي الجبلية (الييلَة) حيث قضوا الصيف، وشاهدنا كثيراً من خيام شعر الماعز السوداء والبنية على الطرق.
عدنا إلى وان بعد ساعات قضيناها في إصلاح إطار السيارة وزيارة زوجة الوالي وقائد وحدة الدرك. وفي اليوم التالي أقلعت من وان إلى أنقرة عبر دياربكر وملاطيا. وكانت الطبيعة الوعرة قليلة السكان واضحة تماماً من الجو.
وكما في رحلة مشابهة إلى ولايات شمال بحيرة وان، أثار دهشتي الطابع الاستعماري البحت للإدارة التركية. فمجموعة صغيرة من الأتراك الغربيين في المدن الكبيرة والبلدات يحكمون منطقة واسعة يسكنها أناس لا يتحدثون التركية ولا يشعرون بأنهم أتراك. ففي سرت، مثلاً، استُوعبت قلة من الأتراك في وظائف رسمية وكتّاب مدارس وضباط جيش. وهؤلاء يعيشون معاً، يتناولون طعامهم في نادي الضباط، ويشعرون بالعزلة بين السكان المحليين. ولا يحضر معظمهم عائلاتهم، ويعيشون على أمل العودة إلى غرب تركيا.
ورغم حسن نيات العديد منهم، فإن معظم هؤلاء المسؤولين غير مؤهلين لحكم «ولايات تركيا الأجنبية». فهم مدربون على تجاهل — بل احتقار — الفوارق العرقية التي تعد مفتاح فهم الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمنطقة. وفي دياربكر شاهدنا قائمقام بسْمِل، وهي منطقة كردية بالكامل، يتبختر في فندقنا واضعاً مسدسه في جيبه، صارخاً بالأوامر على العمال الكرد. وقيل لنا إن هذا الشاب، الذي يبدو في نحو الخامسة والعشرين، وهو على الأرجح خريج حديث لكلية العلوم السياسية في أنقرة، كان مكروهاً جداً في بسْمِل. ولعل من حسن حظ أهلها أنه كان يقضي معظم وقته في فندق دمير في دياربكر.
إن انطباعاتي عن القومية الكردية، بالطبع، سطحية للغاية. ومع ذلك، يلفت النظر الطابع الكردي الصارخ للمنطقة، وحيوية الأكراد، وحقيقة أنه — رغم أن استخدام اللغة التركية في المدارس كان له بعض التأثير — إلا أن الوجود التركي في المنطقة ضعيف جداً بحيث لا يصلح كأداة فعّالة ل «تتريك» المنطقة.
وإضافة إلى ذلك، تعمل العمليات الديمقراطية في اتجاهين. فتمثيل الأكراد الجيد على المستوى السياسي الوطني — عبر قادتهم الفاعلين في «تركيا الجديدة» وحزبي الشعب الجمهوري والعدالة — يقابله جزئياً لجوء بعض السياسيين إلى حملات تستند إلى مخاطبة الكرد بصفتهم كرداً. (وفي أماكن أخرى، أفادت السفارة والقنصلية في أضنة باعتقال مرشحين انتخابيين بتهم تتعلق بإطلاق نداءات ذات مضمون قومي كردي).
وعليه، لا يبدو خروجاً على المنطق القول إن القومية الكردية ما تزال تشكّل تهديداً لوحدة تركيا بصيغتها الحالية، وإن نجاح بارزاني في إقامة منطقة كردية ذات حكم ذاتي في العراق قد يؤدي إلى تجدّد الضغوط الانفصالية شمال الحدود. [1]