=KTML_Bold=عملية السلام الكردية – التركية تنمو في ظل “اللحظة الترامبية”=KTML_End=
شورش درويش
مطلع القرن العشرين سادت مفردة “اللحظة الويلسونية”، التي برزت بقوة في الصحافة الغربية في باريس ولندن وروما وواشنطن؛ فعقب انتهاء الحرب العالمية الأولى أرسى الرئيس الأميركي وودرو ويلسون المبادئ الأربعة عشر في صورةٍ تعكس تصوّرات الولايات المتحدة لعالم ما بعد الحرب. تكثّفت رؤية ويلسون في مبدئه الشهير القائل ب “حق الشعوب في تقرير المصير”. آنذاك ذهبت الحركات السياسية للشعوب الخارجة من رحم الإمبراطوريات المهزومة في الحرب العالمية الأولى، الدولة العثمانية والإمبراطورية النمساوية – المجريّة، وفي روسيا القيصرية المنهكة، إلى المناداة بحقها في تقرير مصيرها، وتحت تأثير هذا الشعار تنامت الحركات الاستقلالية ونزعات الهوية القومية واستمرت حتى خبا تأثيرها وتراجعت بعد قليل من ضغوط الإمبرياليين في أوروبا، وفي الولايات المتحدة نفسها على يد الجمهوريّ ثيودور روزفلت، حين رأت هذه القوى أن مبادئ ولسون الحالمة ستعني أفول الإمبريالية.
في هذه الأثناء تشهد الكثير من مناطق النزاع في العالم “اللحظة الترامبيّة” والتي ظهرت في الطور الثاني لحكم ترامب عبر شعاره الأثير “فرض السلام عبر القوّة”. الكثير من الدول، والجماعات ما دون الدولة، رضخت لمبدأ ترامب هذا أو توسّلته لإنهاء مشكلاتها مع جوارها. ومع تحقيق ترامب نجاحاتٍ في حقل التسويات والصفقات ازدادت شهيّة البيت الأبيض لفرض المزيد من صفقات السلام، وبمعزل عن الهدف الاستراتيجي المتمثّل بخلق عالم أقل انقساماً يقطع الطريق على الدورين الروسي والصيني في دعم خصوم الولايات المتحدة، وانهاكها بعالم مقسوم ومضطرب يؤجّل التفرّغ الأميركي لمعالجة الصراع الاستراتيجي الأهم بينها وبين الصين.
في أغسطس/آب الماضي صرّح ترامب بأنه “نجح في إنهاء سبعة نزاعات” كانت تضمر حروباً باهظة وربما مستدامة، وهي: إنهاء النزاع بين إسرائيل وإيران، أذربيجان وأرمينيا، مصر وأثيوبيا، صربيا وكوسوفو، الهند وباكستان، تايلاند وكمبوديا، كونغو الديمقراطية وراوندا. فيما تمتد القائمة على الوعد بالتدخّل في إنهاء الحرب الأهلية في السودان، وبالمثل معالجة ملف الصحراء الغربية وإقرار الحكم الذاتي للصحراويين، في المقابل نجد نجاحاً في وقف الحرب الإسرائيلية في غزّة، ودأباً لوقف الحرب الروسية في أوكرانيا عبر خطّة النقاط ال 28.
يمثّل الشرق الأوسط بؤرة التوتّر التي لم تستطع واشنطن إخمادها عبر سياسة التهدئة أو التدخّل العسكري المباشر، أو حتى عبر صيغة إرجاء الصدامات وتأخيرها؛ فبعد السابع من أكتوبر 2023 بدا أن على واشنطن المضيّ في طريق السلام المستدام داخل الشرق الأوسط، وبمقدار أقل، السلام بين الدول المركزية والجماعات والشعوب ما دون الدولة، وهنا يظهر “الصراع” الإسرائيلي الفلسطيني إلى الواجهة، فيما يجري التكتّم عن صراع مزمنٍ آخر بين الكرد والدولة التركية، وهو ما يطرح سؤالاً حول الدور الأميركي في عملية السلام الكردية – التركية، وأين تقف واشنطن، ومصالحها في هذا المسار.
رحّبت واشنطن بدعوة مؤسس حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان لإلقاء السلاح، لكنها لم تستفض في الوقوف على ما يجري من خطوات إجرائية أو تصريحات إيجابية صادرة عن الثلاثي: أوجلان، أردوغان، بهجلي. تحاشي الظهور الأميركي المتعمّد في ملف السلام الكردي التركي يُشرع الباب أمام التساؤل حول سرّ عدم إظهار واشنطن أيّ حماسة لحل هذا الملف الشائك، الذي يمسّ حياة ومستقبل زهاء مئة مليون تركي وكردي، في تركيا ومحيطها الكردي، وبالتي يترك “البرود” الأميركي خلفه أسئلة يتعيّن التفكير في الإجابة عنها.
في عام 2006، أي بعد عام على انطلاق المباحثات بين حزب العمال الكردستاني والحكومة التركية في أوسلو برعاية بريطانيّة، قالت الولايات المتحدة مرحّبة بالمباحثات “إن القضية الكردية لا يمكن حلّها بالوسائل العسكرية”. كانت تركيا وقتذاك غير مرتاحة لفكرة وساطة النرويج وبالمثل لم تكن مرتاحة للخط الموازي الذي اضطلع به مركز هنري يونانت للحوار الإنساني (HD) في جنيف رغم أن المركز كان قد شارك في مبادرات حوار ووساطة في أكثر من 25 بلداً؛ فتركيا وفقاً لما عرضه الصحفي التركي جنكيز تشاندار في كتابه (مهمة تركيا المستحيلة: الحرب والسلام مع الكرد) فإن “الدعم الصامت” من الدوائر الدولية المؤثّرة كان “ذا مغزى كبير”، فيما يبدو تردد تركيا من مشاركة طرف ثالث في المباحثات مبنياً على فهمها القائم للقضية الكردية بأنها محض “مشكلة تركية” في مواجهة جماعات الضغط الأجنبية، ذلك أن تركيا، طبقاً لتشاندار، قلقة من “الأصابع الأجنبية التي تثير الاضطرابات منذ تأسيس الجمهورية في عشرينيات القرن الماضي”.
لا يمكن أن تكون تركيا استثناءً عن “اللحظة الترامبية”؛ فالقضية الكردية في الشرق الأوسط تمثّل بؤرة توتر مستدامة يحتّم حلّها الجلوس إلى طاولة مفاوضات وتقديم التنازلات المتبادلة (التنازلات الرشيدة)، وإصلاح الدستاتير الأحادية الطاردة، وإدماج الكرد وحقوقهم اللغوية والثقافية في منظومة الدولة الجديدة، وإعادة النظر تالياً في “الاستابلشمنت” المهترئة للدول القومية المبنية على حطام الهزيمة الأخيرة للدولة العثمانية وعلى القواعد التي سنّت في لوزان عام 1923.
يمكن العثور على الكثير من الشواهد حول تواصل جرى بين الولايات المتحدة وحزب العمال الكردستاني في مرحلتين، الأولى بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 ومحاولة واشنطن تجنّب الصدام مع مقاتلي الحزب في كردستان العراق و إبقاء التركيز على مهمّة الولايات المتحدة داخل العراق العربي، وبالتالي جعل كردستان منطقة استقرار أولى، أما المرحلة الثانية فقد جاءت مع بدء النشاط الجهادي بعد قليل من انتشار موجة الربيع العربي، لذلك ستقرّ أطراف كردستانية وسيطة بحصول أشكال من التواصل بنيت على افتراق وجهات النظر التركية الأميركية، فقد كانت أنقرة مرتاحة لتمدّد الجماعات الجهادية بعكس الولايات المتحدة التي رأت في تدعيم القوات الكردية في العراق وسوريا فرصة لتشكيل تحالف موضوعي لمواجهة الجهاديين، وكان لتعنّت أنقرة في مساعدة واشنطن خلال موجة التصدّي للقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق، ثم في العراق وسوريا دوره في زيادة الحاجة للشراكة مع القوى الكردية المسلّحة.
مع الحرب على داعش بدأت واشنطن بإعادة “اكتشاف” الفاعلين الكرد. ومع معركة كوباني تحديداً اتخذ باراك أوباما خطوات بدت مفاجئة للجميع من خلال تقديمه الدعم العسكري لوحدات حماية الشعب وحماية المرأة خلال المعركة، لتتنامى المساعدة إلى شراكة بدأت مع تأسيس مظلّة قوات سوريا الديمقراطية عام 2015. كانت واشنطن تعلم بأنها تتعاون مع حليف جديد يثير حفيظة تركيا على الدوام، فيما كان الأتراك ينتظرون لحظة إطاحة داعش بتجربة الإدارة الذاتيّة الفتيّة. وبدا التناقض الأميركي التركي أحد الأسباب التي دفعت بالحضور الكردي إلى الأمام.
مهّدت سياسة أوباما في الشرق الأوسط لتعاطٍ أميركي بلا تحفّظ مع التيارات الكردية، بما في ذلك حزب العمال الكردستاني ومؤيّدي أفكار أوجلان، غير أن ترامب في رئاسته الأولى بدا متردّداً وفضّل تبنّي “الانعزالية” بوصفها حالة قطع مع “التدخّلية” الأميركية والانخراط في مشكلات العالم، لا سيما في الشرق الأوسط، فدفع الكرد ثمناً باهظاً لأفكار ترامب القائمة على الانسحاب من سوريا وإحلال سلطة الأتراك في رأس العين/سرى كانيه وتل أبيض بدل السلطة المحلّية، ولولا تدخّل بعض مكوّنات الدولة العميقة الأميركية لسار ترامب باتجاه سحب كامل قوّاته لصالح الإحلال التركي والروسي في شرقي الفرات. لكن، ترامب في طوره الثاني الذي جاء مثقلاً بثلاثة ملّفات: الحرب الروسية الأوكرانية والحرب الإسرائيلية على “محور المقاومة” بعد السابع من أكتوبر وسقوط نظام بشّار الأسد، أراد التفاعل مع هذه الملفّات بصورة أمثل، وقد عنى تفاعله تراجع حظوط تركيا الدولية والإقليمية، وعلوّ كعب تل أبيب في المنطقة، وبذلك استشعرت تركيا الخطر الإسرائيلي لأوّل مرة. شكّل هذا “الخطر”، الذي عبّرت عنه الحكومة والدولة التركية في مناسبات عديدة، القوّة الدافعة واللحظة المناسبة لمعالجة القضية الكردية والعودة للتفاوض مع إيمرالي.
على هذا النحو، دفع اصطفاف واشنطن إلى جانب تل أبيب باتجاه إعادة أنقرة لحساباتها فيما خصّ ثلاثية: الدور، التأثير، والأهمّية. قدّمت إعادة الحسابات هذه فرصة لتقييم الدولة التركية (الدولة وليس الحكومة) لحظوظ نجاتها من الانحسار داخل تركيا، ولأجل ذلك جاءت عملية السلام الكردية – التركية منسجمة مع اللحظة الترامبية وإقامة السلام في عموم الشرق الأوسط، حتى وإن لم يصرّح ترامب علناً بوجوب التوصل إلى حل ينهي النزاع المسلّح في تركيا، إذ ثمّة منافع اقتصادية تتطلّب تغيير تركيا لسياساتها التقليدية تجاه الكرد وتموضعهم الديمغرافي في المنطقة، ذلك أن تحويل الأناضول إلى ممرّ ومنطقة نقل لخطوط الطاقة من العالم التركي (أذربيجان وتركستان)، ومن الخليج العربي والعراق وإقليم كردستان، إلى أوروبا، سيساهم في تقليل النفوذ الروسي في العالم، ولأجل أن تصبح تركيا جزءاً من الحرب الأميركية الناعمة على روسيا لا بدّ لتركيا من إغلاق الملفّات التي تثير المخاوف على مستقبل الخطوط البديلة للطاقة، وهنا تصبح الجغرافية الكردية ذات أهمية ملحوظة بالنسبة للولايات المتحدة.
والحال، ثمة لحظة ترامبية قد تستمر تأثيراتها حتى بعد خروج ترامب من البيت الأبيض، فيما الغالب على الظن أن السياسيين الكرد والأتراك أحسنوا التقاط هذه اللحظة بصورة مُرضية. ولئن كانت تركيا ترفض منطق ترامب القائل “فرض السلام عبر القوّة”، فإنّها تدرك أن الوصول إلى تفاهم واتفاق مع إيمرالي وحزب العمال الكردستاني، ثم مع قوات سوريا الديمقراطية، سيساهم في احتفاظ تركيا بدورها ونفوذها الإقليمي، وكل ذلك مع تقديرها الشديد لعدم تطرّق الولايات المتحدة لملف السلام الداخلي لتفضيلها تركه مهمّة تركية داخلية تحفظ للدولة “برسيتيجها” أمام التيارات التركية المغالية والشوفينية. [1]