د. عروبة جميل محمود
كان وراء تفشي المجاعة في الموصل اسبابٌ عدة منها، رداءة الموسم الزراعي لعام 1917 مع تضافر موجات الثلوج ترافقت مع البرد الشديد والتي بدورها أدت الى موت اعداد كبيرة من الماشية واتلاف معظم المنتجات الزراعية، صاحبها التزايد الكبير في احتياجات القوات العثمانية من المواد الغذائية ولا سيما بعد انسحابها جنوب العراق وبغداد وفقدانها للكثير من المؤن مما دعاها الى مصادرتها من الاهالي،
ومما زاد الامر سوءا توافد المهاجرين باعداد كبيرة من شرق تركيا بصورة خاصة وكان معظمهم من الاكراد اثر تزايد المذابح الاهلية خلال سنوات الحرب العالمية الاولى 1914-1915 اذ دخلت اعداد كبيرة منهم شمال العراق ولا سيما الموصل. وكان من النتائج الخطيرة للمجاعة وفاة عشرات الالوف من السكان والقوات العثمانية، وتفشى امراض الكوليرا والطاعون والتيفوئيد.
وقد أثرت المجاعة تأثيرا خطيرا في اهالي الموصل، اذ عمد بعضهم الى سرقة اطفال الآخرين والقيام بذبحهم واقترنت تلك الجريمة باسم المجرم المدعو عبود بن علي جاويش بن توفيق بالتعاون من زوجته المدعوة عمشة بواسطة ولدهما بقصد اللعب معهم ومن ثم استدراجهم وقلي لحومهم وتم الكشف عن جريمتهما عندما كانا يقومان ببيع طعام مكون من اللحم ما يعرف لدى اهل الموصل ب (القلية)، مما اثار دهشة الناس لوجود اللحم في سنة المجاعة، فاخبروا السلطات المختصة وبعد التحري اتضح ان المجرم يقوم بذبح الاطفال وقلي لحومهم وبيعها للناس، وكانت هذه من افظع الجرائم التي حصلت في مدينة الموصل جراء تلك المجاعة.
وقد الحقت هذه المجاعة اذى اقتصاديا كبيرا باهالي الموصل حتى انهم اسموها بسنة (الليرة)، وذلك لفقدان الثقة بالليرة الذهبية التي لا تستطيع ان توفر لقمة العيش، لا بل وصل الامر الى حد الاستغاثة والصراخ في الطرقات والازقة بقولهم (خاطر الله جوعان)، فهذه العبارة تُسمع يوميا في مدينة الموصل في سنة المجاعة وارتفعت اسعار الحبوب ارتفاعاً فاحشاً حتى بلغ سعر وزنة الحنطة ان التي تساوي (13.5) كيلو ثلاث ليرات ذهبية وهذا يعني ان اغلب اهالي الموصل كانوا في مواجهة المرض والموت.
هاجر الى ولاية الموصل اعداد كبيرة من الارمن والاكراد من بلاد الاناضول ابان سنوات الحرب العالمية الاولى، وتزامنت هجرتهم مع انتشار المجاعة في المناطق الواقعة في شمالي مدينة الموصل، اذ قدر عدد المهاجرين الارمن ممن دخلوا قصبة الموصل ما يقارب ثمانية آلاف نسمة، وكانوا يعانون من الجوع وشظف العيش، وقدموا مدينة الموصل بحثا عن لقمة العيش، اذ كان الجوع يطاردهم اينما حلوا ناهيك عن هجرة اعداد كبيرة من الاكراد وتوافدهم الى الموصل حيث بلغ عددهم تقريبا (70.000) شخصا ابان سنوات الحرب العالمية الاولى.
وقد وصف احد شهود عيان الصورة المأساوية للمجاعة آنذاك، بقوله: «كنت اثناء مكوثي في الموصل أطوف في شوارع المدينة وازقتها، اشاهد فقراءها المهاجرين منتشرين في الطرق والاسواق، والبعض منهم يتخفون تحت دكاكين البقالين والخبازين يتصيدون المشترين فما ان يشتري شخص لوازمه من الدكان سواءً خبزا او سمنا او غير ذلك ويدفع ثمنها الى البائع حتى يخرجوا من تحت الدكاكين ويهاجمونه ويسلبوه كل ما اشتراه، وكان بعض هؤلاء الجياع... يتعاركون فيما بينهم ويغتصب كل واحد منهم اللقمة من فم رفيقه ويدخلها الى فمه بطريقة لم أر مثلها طوال حياتي... وكنت اشاهد مأموري البلدية ومعهم الحمالين... يجمعون جثث الميتين جوعا في كل صباح ومساء كأنما يجمعون الحطب والنفايات».
ومن آثار المجاعة التي حلت في مدينة الموصل، انتشار ظواهر النهب والسطو على اموال الاهالي وممتلكاتهم وخصوصا عند شيوع الاخبار بان بعض التجار احتكروا المواد الغذائية ولذلك تشكلت عصابات منظمة للسطو على مخازن المواد الغذائية او على بيوت التجار لغرض الحصول على الغذاء، ففقد الامن في المدينة ولذلك عمد اصحاب الاموال والمواد الغذائية على حراسة ممتلكاتهم سواء الموجودة منها في بيوتهم او في دكاكينهم للتصدي لتلك العصابات التي تريد السيطرة ونهب المواد الغذائية. وانعكس الوضع الامني المضطرب على تمرد اهالي القرى الخارجة عن النطاق الجغرافي لمدينة الموصل عن طريق عدم دفع الضرائب للعثمانيين جراء تلك المجاعة، فقد امتنع اليزيديون القاطنون في منطقة سنجار عن دفع الضرائب والعشور منذ عام 1917، فحصلت مواجهات مع العثمانيين للقضاء على تمردهم في عام 1918. وفضلا عن ذلك برزت ظاهرة نهب المسافرين وتسليبهم، وخصوصا بعد لجوء الارمن الى مناطق اليزيدية، وقد حددت هذه الحالة عن طريق برقية بعث بها الناظر طلعت باشا الى مركز ولاية الموصل في شهر كانون الثاني عام 1917، والتي تضمنت «اعلمتنا متصرفية دير الزور ان الارمن الموجودون داخل اللواء والذين فروا سواء اثناء عمليات السوق بطريقة اخرى، قد اجتازوا (ولاية الموصل) عن طريق البادية والتجأوا الى اليزيدية الذين قدموا الحماية لهم، وبدأوا بالتجاوز على المسافرين، ابلغونا عن عدد اليزيدية هناك وهل انهم اتحدوا مع الارمن لاتخاذ التدابير اللازمة لمنع تجاوزهم».
وفي استعراض لمدى ارتفاع الاسعار والغلاء الذي ساد مدينة الموصل في فترة المجاعة يمكن الاشارة الى ان اسعار المادة الاساسية للعيش المتمثلة بالخبز ارتفعت اثمانها الى ثلاثة اضعاف، اذ ان الحنطة بلغت من الندرة والشحة بحيث اصبح بيعها حسب الاوزان التي يعتمدها العطارون في بيع موادهم، وارتفع ثمن رغيف الخبز الواحد الى اكثر من قرش واحد. وفي هذا الصدد، وفي سنة 1918، ارتفعت اسعار المواد التموينية والغذائية بنسب عالية جدا بحيث اصبح سعر (وزنة الحنطة) مرتفعا بنسبة (260%)، كما ارتفع ثمن وزنة الرز بنسبة (250%)، والشعير بنسبة (160%)، وفي ذات الوقت ارتفعت اسعار السكر والشاي الى ثلاثة اضعاف.
وبلغ سعر وزنة الحنطة الموصلية الى (20 مجيدي)، وبلغ سعر الطن الواحد من الحنطة قبيل انسحاب القوات العثمانية من الموصل قرابة (400 ليرة ذهبية)، وتجدر الاشارة الى ان التجارة بالحنطة كانت تتسم بالسرية وذلك للخشية من معرفة الجهات العثمانية التي غالبا ما كانت تصادرها. وفضلا عن ذلك، فان نقل البضائع التجارية من داخل الموصل الى خارجها، او جلب البضائع من خارج الموصل الى داخلها، وقد تعرضت الى قطاع الطرق وهذا يوضح مدى الفوضى التي حصلت ابان الحكم العثماني في عدم القدرة على توفير اسباب الحماية للتجارة، ومنها تجارة الملح، التي يتعرض تجارها الى رسوم تستحصل بشكل غير رسمي من قبل عشيرة شمر، اذ كانوا يستوفون رسم مرور مقداره الف وخمسمائة قرش مقابل كل قافلة تحمل الملح تحت مسمى (الخوة)، التي تعني استخدام القوة في الحصول على رسوم تجارية غير قانونية من قبل بعض العشائر العراقية.
ومن شواهد المعاناة التي كابدها أهل الموصل في فترة المجاعة ما بين عامي 1917 - 1918 حين لجأ مؤولي الادارة العثمانية الى اسلوب التعسف في تحصيل الضرائب فغالبا ما كانوا يسيطرون على المؤن الغذائية في حالة عدم دفع ضرائبها، لا بل وصل الامر الى اقتحامهم البيوت واخذ الغلال والاموال ان وجدت. اضافة الى ان العثمانيين وفي شهر تشرين الاول عام 1914 فرضوا ضريبة المجهود الحربي، التي بلغت نسبتها (50%) على الاملاك العقارية و(25%) على الاراضي والعشور، الى جانب فرض على كل فرد ان يدفع جزءاً مما يملكه من المواشي والحبوب الى المسؤولين العثمانيين، كما فرضوا على اثرياء الموصل رسوم وضرائب نقدية، وفي حالة امتناع اهالي الموصل عن دفع تلك الضرائب فانهم كانوا يتعرضون للاهانة، واحيانا للضرب، ناهيك عما كان يفعله جباة الضرائب الذين يختلسون الاموال المستحصلة من الاهالي، وهذا ما اثار استياء معظم اهالي الموصل الذي عبر عنه الغلامي، الذي كان شاهد عيان، قائلا: «ما كنا نمر في طريق او نستقر في مكان الا ونسمع انواع الكلام المنبعث عن التذمر من تلك الحالة السيئة وشدة الرغبة في جلاء الترك عن البلد والتشوق الى دخول الانكليز فيه رجاء انقاذهم مما هم عليه وتخليصهم مما صاروا اليه...».
عن رسالة: الحياة الاجتماعية في الموصل1834-1918م.[1]