وسيم الشريف
كان الموسم الزراعي في شمال العراق في اواخر عام 1917 رديئاَ جداً. يقول محمد امين العمري الذي كان يومذاك ضابط اعاشة في الجيش السادس التركي: انه كتب تقريرا الى القائد خليل باشا اشار فيه الى الخطر الذي سينشأ في ولاية الموصل من جراء قلة الحبوب وضرورة الاستعداد لجلب المؤن اللازمة من اسطنبول قبل فوات الاوان , فلم يكترث خليل باشا لهذا التحذير وقال ان #ولاية الموصل# هي مستودع تموين العراق وليست هي في حاجة الى تموين يجلب اليها من الخارج.
بدأت المجاعة تستفحل اوائل عام 1918 وشملت الموصل والمنطقة الواسعة التي تقع الى الشمال منها حتى بحيرة ((وان)) واخذت جموع الجياع تهجر ديارها في الاناضول وتتجه نحو الموصل , فكان بعضهم يموت في الطريق , والبعض الاخر يموت في مدينة الموصل نفسها، يحدثنا عبد العزيز القصاب في مذكراته عما شاهده في الطريق بين حلب والموصل عند قرية (دمير قبو) فيقول انه رأى جثث البشر ملقاة على جانبي الطريق بكثرة لا يمكن وصفها , وعند دخوله القرية وجد الجياع منتشرين فيها وهم لا يتمكنون من الحركة لشدة الجوع بصورة تفتت الاكباد. وشاهد جثة حيوان وقد اجتمع حولها زهاء خمسين جائعاً وكل واحد منهم يقص شيئاً من لحم الجثة بواسطة القحوف ثم ينسحب ليحل محلة جائع اخر.
ولما وصل القصاب الى الموصل وجد المجاعة فيها لا تقل عما هي في (دمير قبو) فقد كان المهاجرون اليها من وان بالإضافة الى جياع الموصل نفسها منتشرين في الشوارع والاسواق بكثرة , وكان البعض منهم يختفون تحت دكاكين الخبازين والبقالين فإذا جاء احد لشراء شيء من الطعام خرجوا اليه فجأة واختطفوا الطعام من يده واكلوه حالاً , وقد يختطف احدهم اللقمة من يد صاحبه ليضعها في فمه بأسرع من لمح البصر.
وقد شاهد القصاب مأموري البلدية يتجولون في كل صباح ومساء ومعهم الحمالون ليجمعوا جثث الاموات كأنهم يجمعون الحطب والنفايات , فلقد كانت الجثث يابسة خفيفة الوزن بحيث كان الحمال يضع اربع جثث في سلته ويحملها على ظهرة كمثل ما يلتقط الخشبة الصغيرة.
ويعطينا ابراهيم الواعظ صورة اخرى عن المجاعة في الموصل , اذ كان شاهد عيان فيها فيقول
انها بلغت حداً جعل الكثير من الناس يأكلون لحم الكلاب والقطط كما أكلوا دم الذبائح بعد تجميده وقد شاهد الواعظ بأم عينيه هراً يهب راكضا من دار الى دار والناس يركضون وراءه حتى أمسكوا به.
وذكر ابراهيم الواعظ عن نفسه انه كان في ايام المجاعة يأكل اكثر من اكله في الايام الاعتيادية , وهو يعزو ذلك الى ما احدثت المجاعة به من تأثير نفسي.فقد كان دخل في صباح احد الايام مع صديقين له الى دكان بقال في باب الجسر وتناولوا فطورهم من القيمر والعسل والخبز حتى بلغ ثمن ما أكلوه ثلاث ليرات ذهب ولكنهم لم يشبعوا. وقد وصل الحال بهم انهم صاروا يحملون في جيوبهم الى محل عملهم الزبيب واللوز ليأكلوا منه اثناء عملهم. وكانوا يفعلون مثل ذلك بعد تناولهم طعام الغداء اذ هم كانوا آنذاك يذهبون الى دكاكين البقالين ليأكلوا عندهم الحلوى.
وقد حدثت اثناء المجاعة حادثة عجيبة شاع خبرها في كل مكان وظل الناس يتحدثون عنها زمنا طويلا , وهي ان رجلاً من اهل الموصل اسمه عبود كان يصطاد الاطفال بالتعاون مع زوجته , او يشتريهم , فيذبحهم ويصنع من لحومهم طعاماً يسمى ((قلية))ويبيعه للناس في دكان له. واستمر على ذلك بضعة اشهر الى ان انكشف امره اخيراً عن طريق الصدفة. ولما ذهب رجال الشرطة الى بيته وجدوا في حفرة فيها مائة جمجمة وعظاماً كثيرة.وقد سيق عبود وزوجته الى المحكمة , وهناك انهارت الزوجة واعترفت امام الحاكم بما اقترفت هي وزوجها من الفظائع.وفيما يلي ننقل المحاورة التي جرت بينها وبين الحاكم حسبما ذكرته مجلة (علمدار) التركية في حينه:
الحاكم: كيف اقدمتما على هذا العمل؟
المرأة: جعنا واحتملنا الجوع الى حد لا يطاق , فاتفقنا اخيراً على اكل الهررة , وهكذا كان ,وبقينا نصطادها ونأكلها الى ان نفدت من محلتنا , فبدأنا نأكل الكلاب ونفدت ايضاً وكان لحمها اطيب واشهى من لحم الهررة , فجربنا اكل لحوم البشر.
الحاكم: بمن بدأتما اولا؟
المرأة: بامرأة عجوز خنقناها وطبخناها في حلة كبيرة الا اننا قضينا كل تلك الليلة نتقيأ لان لحمها كان دسماً , ثم ذبحنا ولداً صغيراً فوجدنا لحمه في غاية اللذة والجودة.
الحاكم: وكيف كنتم تصطادون الاولاد؟
المرأة: بواسطة (ولدنا , كان يأتي كل يوم بواحد بحيلة اللعب معه , فنخنقه ونأكله وندفن عظامه
في هوة عميقة حفرناها داخل بيتنا.
الحاكم: كم ولداً اكلتما؟
المرأة: لا اذكر تماماً ولكن يمكن احصاءهم من عدد جماجمهم.
حكمت المحكمة على عبود وزوجته بالإعدام شنقاً. وفي صباح يوم الاعدام اركبا على حمارين وسيقاً الى ميدان باب الطوب حيث نصبت مشنقتان لهما , وكان الناس في الطريق يبصقون عليهما ويشتمونهما ويضربونهما , وكان عبود يرد الشتيمة على الناس بمثلها ويضيف عليها شتم الحكومة اذ كان يعتبرها المسؤولة عما حدث , وتجمهر الناس في الميدان ليشهدوا شنقهما. ويحكى ان امرأة كانت تنهش اقدامهما وتصرخ قائلة: (لقد اكلا ثلاثة من اولادي).
ملحق
رواية عبد العزيز القصاب في ذكرياته:
بقيتُ في مركز دمير قبو سبعة أيام ثم تحركت قافلة السيارات فوصلنا إلى الموصل مساء ذلك اليوم وقد رأيتُ جثث الأموات منتشرة على طول الطريق بصورة تفتت الاكباد. بت تلك الليلة في الأوتيل وفي صباح اليوم الثاني ذهبت لمشاهدة الوالي ممدوح بك الذي كان قبلا كاتب سر لناظم باشا الوزير حينما كان واليا في بغداد. فسألني عن سبب تأخري فبيّنتُ الأسباب ثم أعلمني بالبرقية الواردة من الإستانة المتضمنة ترفيعي إلى الدرجة الأولى المؤرخة في 2 كانون الأول سنة 1434 وطلب مني الإلتحاق بوظيفتي فقررتُ السفر بعد إستراحة أربعة أيام.
المناظر المؤلمة:
كنتُ أثناء مكوثي في الموصل أطوف بشوارع المدينة وازقتها لأكوّن فكرة عن وضعها وحالاتها فكنتُ أشاهد فقراءها والمهاجرين إليها من ولاية (وان). وهم بصورة مزرية رجالاً ونساء منتشرين في الطرق والأسواق والبعض منهم يختفون تحت دكاكين البقالين والخبازين يتصيدون المشترين فما أن يشتري المشتري لوازمه من الدكان خبزاً أو سمنا أو غير ذلك ويدفع ثمنها حتى يخرجوا من تحت الدكاكين ويهاجموه ويسلبوه كل ما إشتراه وكان بعض هؤلاء الجياع بعد أن ينهبوا الخبز مثلا يتعاركون فيما بينهم ويغتصب كل واحد منهم اللقمة من فم رفيقه ويدخلها إلى فمه بطريقة لم أرَ مثلها طول حياتي.
ولكثرة هؤلاء المساكين كنتُ أشاهد مأموري البلدية ومعهم الحمالين يتجولون في الطرق وفي الأسواق يجمعون جثث الميتين جوعاً في كل صباح ومساء كانما يجمعون الحطب والنفايات.
يضع الحمّال في سلته أربع جثث او خمس، حيث ان جثة الإنسان أو الإمرأة كانت يابسة ضعيفة وقد إستحالت إلى عظم وجلد يلتقطها الحمال بيده من الأرض ويلقيها في السلة على ظهره كما يلتقط الخشبة الصغيرة.
لقد أصر عليّ يوماً المرحوم عبد الحكيم أفندي الهيتي إمام العسكرية بتناول طعام العشاء معه في الجامع الكبير في الموصل وكان الجامع حينذاك مستشفى عسكريا كان هو مديره وبعد إصراره الشديد قبلتُ الدعوة وذهبتُ مع خادمي مبروك إلى الجامع بعد غروب الشمس وكانت السماء ممطرة حينذاك. وكنتُ أتقي المطر بمظلة كانت معي ومبروك يحمل الفانوس ويسير أمامي في الطريق.
شاهدتُ على باب كل دار من دور الموصل التي مررنا بها شخصين أو ثلاثة كباراً وصغاراً نساء ورجالاً جالسين تحت ذروة الابواب يئنّون من البرد فلا يلقون مَن يرحمهم أو يحن عليهم أو يدخلهم إلى داره. وكان هذا المنظر من أو جع المناظر التي رأيتها في الموصل.
زرت القائد العام هناك – خليل باشا – وكانت لي معرفة به من بغداد. فأخذ يحدثني عن الشدة التي يلاقيها الجيش وعن ندرة الذخيرة والغذاء ومن جملة ما قاله: (إن الجيش عندما كان في بغداد كان بإمكانه عند الحاجة أن يأكل التمر ولكنهم هنا لا يجدون شيئاً يتقوّتون به فالمؤونة قليلة والطالبون لها كثيرون).
ويستدل من ذلك ومن غيره أن الاتراك بعد أن خسروا بغداد خارت قواهم وضعفت مقاومتهم ولم يبقَ لهم أمل في المحافظة على البلاد.
لقد وصلت درجة الجوع والفاقة في الموصل لدرجة أن كثيراً من المهاجرين صاروا يأكلون لحوم الحيوانات حتى الكلاب والقطط. وإن رجلا كان يخطف الأطفال فيذبحهم ويطبخ لحومهم ويعطيها للناس. وقد أُعدم مع زوجته التي كانت شريكته في الجريمة بعد أن أُفتضح أمرهما.[1]