محمود عطية_
انتفاضة #الشعب الإيراني# في الآونة الأخيرة التي يطلق عليها رمزياً وصف ثورة “مهسا أميني” لن تكون الأخيرة من نوعها حيث شهدت مظاهر جديدة نسبياً؛ كفرار قوات الأمن خوفاً من المتظاهرين وانتشار الاحتجاجات على نطاق عابر للمناطقية برغم بداية اشتعالها في #كردستان# إيران تلبيةً لدعوة أحزاب محظورة رسمياً وصولاً لسيطرة شعبية لبعض الوقت على مدينة كردية إيرانية قرب الحدود مع تركيا مع مواصلة مظاهر الغضب الشعبي لأكثر من أسبوعين ازدادت حدتها قليلاً بقمع دموي عنيف أسقط عشرات القتلى والجرحى بعد أيام من التردد والارتباك الحكومي.
الشرارة الأولى باتت مشهورة بشابة كردية إيرانية كانت في زيارة سياحية للعاصمة طهران برفقة شقيقها وتضع على رأسها حجاباً متساهلةً بارتدائه كأغلب الإيرانيات ثم اعتقلتها شرطة الأخلاق وخالفتها وفق قانون فرض الحجاب الذي صدر عام 1983 الذي يُلزم النساء بارتداء الحجاب الإسلامي، ويعرف في إيران باسمه أو الخيمة وهي عبارة عن عباءة تغطي كل الجسد على الوجه واليدين وهو ما لا تلتزم به نحو 15 بالمئة من النساء بحسب استطلاع رأي إيراني عام 2018.
وللهروب من هذا التضييق تتحايل غالبية النساء ويرتدينه مع انحساره عن غطاء الرأس للخلف والأسفل تماماً حتى أنه يظهر شعر المرأة بالكامل وهو ما اتهمت به “مهسا أميني” واقتيدت بسببه مذعورة إلى مخفر تابع للشرطة الأخلاقية ثم ماتت سريعاً بعد اعتداء بالضرب على قول معارضين لتشعل بذلك غضب النساء الإيرانيات اللاتي أعلنّ نقمتهن على قانون فرض الحجاب الذي تتراوح العقوبات على مخالفته بين الغرامة والسجن لنحو شهر والجلد لسبعين مرة.
ومن الجلي القول إن الاحتجاجات قد بدأت بقضية الحجاب لكنها مع الوقت فتحت ثقباً هائلاً في جدار الغضب الاجتماعي والسياسي لينتقل المشهد من حرق الحجاب لحرق صور المرشد علي خامنئي وقاسم سليماني رمز الحرس الثوري، ومن شعارات إسقاط الحجاب لإسقاط النظام كله تماماً كما جرى في العقدين الأخيرين من ثورة الطلاب عام 1999 للثورة الخضراء عام 2009 بعد تزور الانتخابات ضد الإصلاحي؛ مير حسين موسوي الذي كان مرشحاً آنذاك للرئاسة وإلى انتفاضة 2019 الواسعة النطاق على خلفية تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي نتيجة تراكم وغلظة العقوبات الأمريكية القصوى المعاد فرضها وتجديدها بعد خروج دولاند ترامب؛ رئيس أمريكا السابق من الاتفاق النووي في مايو 2018 ثم جاءت الحوادث الأخيرة بعد تراجع فرص العودة القريبة من اتفاق النووي.
ولم تُخفِ الإدارة الأمريكية تأييدها للانتفاضة الإيرانية بل قدمت التسهيلات التكنولوجية لتيسير دخول المتظاهرين على خدمة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي تماماً كما لم تكتم أطراف إقليمية كارهة لنظام الملالي الإيراني فرحتها الغامرة وبشرت كالعادة بقرب ذهاب النظام الإيراني إلى مزابل التاريخ.
ومن الواضح أن الأزمة الإيرانية الحالية أو غيرها تستند إلى قضية جدلية تتعلق ببنية النظام الإيراني نفسه القائمة على حقيقة استبدادية ودكتاتورية عنصرية شأنه كشأن أغلب نظم الحكم في المنطقة واعتماده، كما يسميه “ديمقراطية دينية” ومن حيث المضمون فأنها تعطي السلطة المطلقة لقادة غير منتخبين مباشرةً من الشعب بل يتم اختيارهم للمجالس وفق وصاية معينة؛ كمجلس الخبراء وغيره.
فسلطة المرشد دينية مطلقة أما الرئيس والبرلمان، فهي سلطات أدنى بكثير يجري اختيارهما في انتخابات محكومة وشكلية إذ يستبعد الأغلبية الساحقة من المرشحين حيث لا يعينون إلا بحسب هوى المرشد ومجالسه واعتباراته الدينية فيما لا يبقى معروضاً على الناس المستفتيين سوى عينات قليلة تتوزع في العادة على جناحي المحافظين والإصلاحين على أطراف سلطة المرشد على الرغم من أن المحافظين يحظون بمكانة وحظوة لدى المرشد وحصولهم على الامتيازات كالقرب من الحرس الثوري وهيئاته وشركاته وحماية الباسيج؛ وهو جهاز نصف عسكري يتبع للحرس الثوري وغيره.
وما من شك أن كل موارد إيران تحتكر بفساد القادة وتضعهم فوق كل مسألة من أجل تنفيذ المشروع الإيراني المتوحش وتنفق عليه بسخاء على جماعاتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن ودول الخليج. فحجاب النساء وسيلة للادعاء الديني الفج فهي لا تهتم كثيراً بعفاف النساء بل حولت تقليد زواج المتعة المؤقت إلى نوع من الدعارة العلنية المقننة، ومع كل هذا الانفلات الجنسي تريد فرض “الشادور” على الجميع وكأن هذا اللباس يغفر لهن ما تقدم من ذنب وما تأخر بينما الحجاب في أصل الشرع الإسلامي كغيره من الفرائض لا يصح فيه أن يكون إجبارياً من سلطة ما بل اختياراً مدفوعاً بالقناعات الدينية الفردية والاجتماعية وكل إجبار من هذا النوع يؤدي إلى نتائج عكسية، وهذا ما فجر ثورة “مهسا أميني”.
فقبل نحو 90 سنة كان شاه إيران “رضا خان” قد أمر بخلع الحجاب عام 1936 وثار الشعب الإيراني وقتها ضد قرار الخلع تماماً كما يثور اليوم على قرار الفرض ولا تزال تتحايل عليه أغلب النساء الإيرانيات إلى حد التمزيق والتحريق وهو ما لا يخفى من آثار بتوليد مشاعر حانقة على مبدأ التدين ذاته ودفع الناس للكفر بالدين والمروق منه سراً وبالذات مع سطوة وسلطة رجال الدين التي لا يعرفها صحيح الإسلام إلا في أوساط الشيعة والسلفيين.
يتعين القول إنه قد لا يكون النظام الإيراني على وشك سقوط قريب كما يتمنى البعض وإن كان يعاني من متاعب ظاهرة سواء خارجياً؛ كتحديات العقوبات ومضاعفاتها أم داخلياً كبنية النظام المغلقة التي تنحصر بجمهور النظام في المؤيدين أو المستفيدين ببقائه وهم قوة لا يستهان بها تملك سطوة السلاح والمال وسطوة التحشيد الديني لكنها لا تخفي وجوه ضعف خطرة تنفذ منها عناصر مثيرة للقلق والغضب بل وأيضاً بمنظمات وجماعات المعارضة المقيمة أساساً خارج البلد والتي تعاني هي الأخرى من الارتهان بتمويل وإدارة من أجهزة مخابرات صغرى وكبرى.
وإذا كان النظام الإيراني يبحث عن طوق نجاة ينقذه من طوفان القتل واحتواء أزمته، فما له سوى بفتح النوافذ وإتاحة حريات أوسع وكسر ثنائية التداول الحصري بين محافظي النظام وإصلاحيه رغم ما تحقق له من منجزات كالبرامج النووية والصاروخية المتطورة وتكنولوجيا الطائرات المسيّرة والأقمار الصناعية وقواعد إطلاقها وإقامة شبكة عالمية ذكية معقدة للتحايل على العقوبات المفروضة ودفع العلاقات درجات مع روسيا والصين وتكثيف التعاون مع تجمعات الاقتصاد والمناهضة للغرب ودكتاتورية الدولار وتطوير التعليم التقني المتقدم في مجالات الرياضيات والفيزياء والذكاء الاصطناعي وغيره والنجاح الملحوظ والنجاح الملحوظ في الصناعات المدنية للسيارات والحاسبات وغيرها.
وتحاول إيران استغلال تخلف الواقع العربي المحيط وإنشاء جمهور الشيعة العرب للوقوف بصفها إضافة لجذب ودعم حركات المقاومة على جبهة الصدام مع كيان الاحتلال الاسرائيلي لكن هذه الإنجازات على تفوقها وأهميتها تبدو معرضة للتراجع والانهيار فثمة تمرد شعبي مرئي متصاعد ضد النفوذ والتغول الإيراني في جهات المشرق العربي المنكوب وثمة غضب متفاقم في الداخل الإيراني نفسه فالنزعات الاستقلالية تتمدد في البلد المتعدد الأعراق وكثير منها مسلح ومدعوم من الغرب أو من جوار ملغوم وجمهور الطبقة الوسطى في الجمهورية الإيرانية النامية يضيق بالتشدد الظاهري المفرط لنظام الملالي حيث تتوالى انتفاضاته الاجتماعية والسياسية شوقاً للتغيير.
بتكثيف، إن الاحتجاجات الإيرانية لا تستبين علاماتها ومدى نتائجها لكن من الواضح أنه بدأ يهيئ لتطور الاحتجاجات في مجالات أرحب وهو الأمر الذي يستنفذ طاقة النظام خصوصاً مع تربص الخارج الأمريكي والإسرائيلي وبعض الخليج وهو ما قد يؤدي لوضع حرج قد تخلع إيران حجاب نظامها وليس حجاب النساء وحده.[1]