د. بشار عليوي
تجذرت الآشكال الرئيوية التي تحملها (اللوحة) بأنساقها الدلالية المعبرة عن ماهية الذات الآنسانية , في المنجز الفني عبر التأريخ الطويل للبشرية , بوصفها أشكال تدل على دواخل النفس البشرية المحركة للذات التي اِبتدعتها. اِذ تعرفت جميع الحضارات على الرسم وصولآ الى اللوحة الآن بوصفهما نتاجاً مؤسساً للفن التشكيلي.
وحين نستعرض المشهد التشكيلي العراقي بصورة عامة ومنهُ المشهد التشكيلي الكردي بصورة خاصة , تُطالعنا التجربة الثرة للفنان التشكيلي الكوردي العراقي (#اِسماعيل خياط#) الذي غيبهُ الموت عن 78 عاماً فهو فنان معروف في الآوساط الفنية داخل العراق وخارجه ويُعد من علامات الفن التشكيلي العراقي المعاصر، وله جمهوره هنا وهناك. وتجربته تحلق خارج حدود النفعية الزائلة. ففي مجموعة لوحاته المتمحورة حول (الاقنعة) ودالّتها الشارحة والمعرفية، نجدهُ يتخذ من الآيقونة المتشظية مكانآ فسيحآ لاِطلاق أفق أشتغالاته المعبأة بكل مكنونات الخيال المستل من الواقع المرئي الان. لذا تراه يستل (الوجوه /الآقنعة) موضوعآ أثيرآ لديه. فجميع أعماله تماهت مع ذاتنا العابسة المترقبة للتحولات الجدلية , قاطعة بذلك أوصالها (أي ذاتنا) أمام الثنائيات المتناقضة والذي لم يحد من وطأة عبوسها , غير أرتمائها في حضن أغترابات الفنان وحيرتها الوجودية المستمرة. فشكل (الوجوه / الآقنعة) عند / أسماعيل خياط / ليس أقنعة للاِخفاء وألاِحتضار الوجداني , بل هي أقنعة للخير والشر والحرب والسلام والآحبة والآعداء , تتشظى كأنها تقويم دال بكينونته على وجوهنا. [فالقناع بحد ذاته ليس شكلآ مجردآ ]كما يقول الفنان عن أعماله/ أقنعته , بل هو موضوع قائم بذاته نراه في وجوه الناس , وهي في الغالب ليست وجوهم بل أقنعة يستبدلونها بحسب ترابية المتحولات الزمكانية التي يعيشونها. فهناك أقنعة لكل واحد منا.. لك ولي ولها ولهن ولهم , لكن وجوه /أقنعة أسماعيل خياط تتخذ ضجيجاً دلالياً يشظي ذاتيته وصولاً الى عالمه الآخر _ الفردوس المفقود. حيث أستطاع ترحيل هذه الوجوه / الآقنعة , من أيقونيتها المألوفة الى متحولات جدلية بعد أسلبتها أغترابياً ومن ثم أضحت هذه الآقنعة عبارة عن شفرات مرمزة , تبحث وفق أعراف التلقي اللاشعوري , عن وجود مقنع يخفي الآضطهاد وأمتهان أنسانية الانسان والتعب والحيرة والقلق والتساؤل عن معنى الوجود العقلي والنفسي المضطرب دومآ.
فبرغم وجود تركيبات الوجه المألوفة لدينا _ أنف / فم / عيون , ألا أنها كانت عند (أسماعيل خياط) حاضنة للتشفيرات العلامية التي حُملت بها عبر تراتبية التشكيل الحاضن لسطح اللوحة , وتلك التراتبية قد تشكلت عند حدودها وأبعادها التي أوجدها (خياط) ناطقة بأسم الآني المتواصل مع الماضي القريب المثخن بجراحات شعب كردستان.
أن هذا الاِنشداد /الاِنجذاب المنحدر من اللاشعور عند المتلقي (نحن) أتجاه ذاتنا _ الاقنعة , هو تأكيد على تجذر تلك الذات في هذه الآشكال التي أبتدعها الفنان الذي قدر له أن يكون مبتعدآ عن (الآنا _اِسٍماعيل خياط) ليكون (الآنا _ نحن) مستعيرآ لها الآقنعة المتماهية مع وجوهنا التي تخفي خلفها اللاشعوري. وهو ذات الهدف الذي تسعى أليه التيارات الهائجة من اللامنطق في الموجهات الفكرية للمجتمع التي كسرت أنسانيتنا وأطاحت بها. لقد كانت أقنعة _ فضاءات (أسماعيل خياط) معبأة بسطوة الاِغتراب عن هذا العالم الممسك بأدنى درجات العقلانية , تواقة الى عيش مؤجل الى أشعار آخر في فراديس مفقودة , بحثآ عن عقول _ وجوه ,متطهرة _ مترفعة , عبر الاِمساك بالباقي المطلق المرحل من شفافيتنا المرهفة. فأقنعته تعبر عن مشاعر داخلية أكثر مما تعبرعن الوجوه ذاتها , كأنه يريد أن يقول أننا نحتاج الى ما يجسد أحاسيسنا ويعيننا على اِظهار هذه المشاعر بقوة صادمة , فالوجه البشري / القناع , تمظهر من تمظهرات الجزء المرئي الصائت من رأسنا.
أسماعيل خياط يضع أدواته اللونية بفوضوية لا تحدها حدود قواعدية اِلا حدود جغرافية الآقنعة /جغرافية اللوحات , التي ينتجها. فهي وجوه تنفتح على أتجاهات عدة دونما أنساق ضابطة لها سوى أحساس الفنان المستل من اِكتناز ذاكرته بما مر عليه , أنه تشظي الذكريات المريرة فأعمال الفنان هي مدونات لذاكرة شعب حبلى بمآسي وفظائع كبيرة .
اِختار (أسماعيل خياط) ومن خلال رسالته المشفرة اِلينا / الآقنعة المغتربة , وجوهآ للآغتراب المحيط به والآرتماء خارج هذا الضجيج الذي يحيطنا والمغلف بالنفعية , راسماً لنفسهِ وجهاً آخر.
جديد بالذكر ان أسماعيل خياط، من مواليد مدينة خانقين عام 1944 وهو خريج دار المعلمين في مدينة بعقوبة عام 1966، هو عضو جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، وعضو نقابة الفنانين العراقيين، والرابطة الدولية للفنون التشكيلية (I.A.A)، شغلَ للفترة من 1992 _1998 منصب مدير دائرة الفنون التشكيلية التابعة لوزارة الثقافة في حكومة أقليم كوردستان العراق، عمل مشرفآ فنيآ في مديرية تربية السليمانية، أقام عشرات المعارض الفنية منذ عام 1966 في بغداد وأربيل والسليمانية وسويسرا ولندن والشارقة … وغيرها , كما شارك في معارض جماعية مشتركة مع عدد من الفنانين في روسيا والسويد واليابان وكوريا وأيران وفرنسا، له 25 عملآ في المتحف الوطني العراقي للفن المعاصر ببغداد، أما أعماله الفنية فهي منتشرة في السويد والنمسا وهولندا وأنكلترا والنرويج …. وغيرها من الدول، حصل عام 2004 على جائزة ريادة الفن التشكيلي من قبل حكومة أقليم كوردستان العراق، له كتاب ببلوغرافي باللغة الكردية بعنوان (تشكيليو كوردستان الجنوبية 2005)، رحلَ عن عالمنا يوم 20-10-2022 عن 78 عاماً.[1]