محمد الحمامصي
تبدأ أحداث رواية “99 خرزة مبعثرة” للروائي #حليم يوسف# بجريمة قتل لمهاجر كردي في ألمانيا ثم تعود إلى #كردستان# الممزقة.. لتنتقل بعد ذلك بينهما، محاولة تتبع أحلام “ازادو” العريضة المتمثلة فى مجرد الحصول على وطن يحتويه. وممزقا بين ثلاث لغات؛ لغته الأصلية الكردية، والعربية بطبيعة الحال، والألمانية التي تعلمها.. وعمله كمترجم للاجئين، متنقلا بين اللغات كأن قدره ألا يستقر على لغة واحدة تعبر عما بداخله. شتات وهجرة وهروب وترحيل.. حياة وموت وأحلام ساطعة وأحلام موءودة.. حب وهجران وخيبة ونصر وهزيمة.. أمل وألم وتمزق.. أكراد وعرب وألمان.
يتناول حليم يوسف في روايته التي ترجمها جوان تتر وصدرت عن دار صفصافة كل هذا في مزيج وتناغم مذهل، متنقلاً بمهارة بين الداخل/ النفسي، والخارج/ الواقعي راسماً رحلة طويلة تدور عن تمزق الأوطان، وضياع الإنسان- بمعناه المجرد- في محاولاته الدؤوبة لمجرد العيش، والحفاظ على ما تبقى من ذكريات بعيدة لشوارع وبيوت وساحات بلده البعيد.
حليم يوسف
بطل الرواية اليتيم آزادو العامودي نسبة إلى عاموا من مدن محافظة الحسكة على الحدود السورية التركية الذي ذهب إلى ألمانيا بعد انهيار الدولة وأصبح لاجئًا في مخيم هناك. يختار الترجمة كمهنة من خلال الحصول على حق الإقامة، يعتقد أن الترجمة تبني جسراً بين شخصين.لكن آزادو ليس مترجمًا لأناس سعداء. مثله، هاجر مئات الأشخاص وعانوا من أمراض عقلية في جزء من ألمانيا. أصبح نقل الآلام والمعاناة الشديدة لهؤلاء الأشخاص إلى علماء النفس ومديري الدولة عبئًا متزايدًا عليه. لذا فإن الموضوع الأهم للرواية يدور أكثر ما يدور حول علم نفس اللاجئين واللاجئين، وإن كانت نشأة آزاد يتيما، فإن هذا اليتم يخلق له عقلية مختلفة.
إننا بفضل “99 خرزة مبعثرة” نشهد معاناة الهجرة، وتجارب الأبطال المثيرين للاهتمام، وصدمات بلد منقسم، ونتعرف أيضًا على القصة السرية لحب قديم. مع المشاهد والمواقف الواقعية. وبالنهاية نحن أمام رواية بانورامية وقصة ذات طابع إنساني مع تفاصيل دقيقة، مليئة بالألم والدهشة.. والأحلام عن الأوطان التي نظل نحملها داخلنا مهما سافرنا وابتعدنا.
يذكر أن الروائي افتتح الرواية بما أطلق عليه “ملاحظة المؤلف” وهي تقريبا ملاحظة كاشفة لتقنية الرواية والركيزة التي انطلقت منها فكرتها يقول حليم يوسف “مساء السادس عشر من آزاسر/ مارس، في منطقة “نيدرسكارسين” الألمانية، ثمة كردي غزا شعره الشيب يمشي في الشارع، قتل غدرا على يد شاب في الرابعة والعشرين، يبلغ طوله مئة وخمسة وتسعين سنتيمترا. كادت معفتي بالمقتول أن تكون معرفة سطحية، وكان قد مضى على مجيئنا إلى ألمانيا عامان فقط، منذ ذلك اختمرت في رأسي فكرة بناء رواية”.
ويتابع “منذ عام ألفين وأحد عشر بدأت العمل في الترجمة، بغية الحصول على قوت يومي، وعلى إثر مصاعب الحياة باتت الحادثة تلك بالنسبة إليّ حلما بعيدا، أو ربما جرحا قديما، ولولا تلك المصادفة لنسيت الجرح. جعلتني المصادفة مترجما لإمرأة كردية في مصح نفسي، وبعد معرفة طويلة بها مدت إليّ دفترا ذا غلاف أزرق مهترئ، سوى أن الكلمات بداخله مدونة بخط جميل، مع القراءة تقشر الجرح القديم ليتسلل إلى داخلي ألم مستجد، كان دفترا يحوي يوميات الرجل الأشيب، قمت بترجمتها، يوميات تفضح ألمي وألم من هم مثلي، حين قرأتها اختلط الأمر علّ، ولم أفهم إن كان يتحدث عني أم عن نفسه! لكن ولأجل بعض الأسباب المعروفة، قد غيرت الأسماء الحقيقية الواردة وأضفت على السبحة خرزات نعتها بنفسي، وأيضا رتبت الفوضى في الدفتر، الفوضى الشبيعة بفوضى خرزات سبحته السوداء التي في يده. والمؤلفة من تسعة وتسعين خرزة وقد أعدت ترتيبها خرزة إثر أخرى”.
من الرواية
الخرزة 29: خرزة الأرجوحة
من جانب كان موت أبي يربطني بالأمس وبذهن قديم متعب عبر حبل غليظ، ومن جانب آخر كانت ساندرا تربطني بالراهن، عبر سلاسل حديدية وتشدني نحو اختلاف الروح والبدن، كان أبي يزجني في بئر الحزن العميقة، حيث أسبح في مياه الطفولة واليتم وأغرق دون أن أود الخروج، كنت أتلذذ بتعذيب نفسي وبالبكاء، ولاسيما حين أكون بمفردي بعيدا عن أبصار الناس، بت بخيرة للأيام والسنوات الماضية، كنت أعيش في الأمس، مثل وحش عجوز متساقط الأسنان يعيش في كهف ذكرياته المشلولة والفارغة، حين كان يغلبني الأمس، لم أكن أريد أن أتركه، سوى أنني حين أخرج من وحل الذكريات الثقيلة أتمنى ألا أعود إلى ذلك الصمت الثقيل والحزين مرة أخرى، دخول ساندرا إلى حياتي كان أشبه بمرور عابر سبيل أمام بئر سقط فيها طفل، مع وقع صوت قدميها، بخطواتها البطيئة، كنت أرتعد خارجا من الأمس داخلا إلى اليوم، حياتي باتت جوع وحشي للولوج إلى ما بين أفخاذ النساء، في حياة الأمس وكلما مشيت في شارع كنت محاطا بالرجال ذوي الوجوه العابسة، على العكس من حياتي اليوم التي ينتفي فيها الرجال، في حين أن ثمة عددا هائلا من النساء في الشوارع، في كل مكان، في الأماكن المغلقة، عيناي كانتا معلقتين بأسفل بطني على الدوام، وكلما رأيت فتاة جميلة أو أنثى وسيمة وإن كانت على عجلة تتوجه أبصاري نحو المؤخرة، كنت أنزع ثيابها في خيالي، أديرها وأضع ثدييها بين شفتي ولساني، وأصغي إلى آهاتها، أو أمسك بفلقتي مؤخرتها بنعومة وبكل ما أوتيت من قوة وألج إلى نار جنتها، لا أعلم لم كانت هذه الوحشية تستيقظ في داخلي كلما أبصرت فتاة أو امرأة لا أعرفها.
كل النساء حين كنت أتعرف إليهن أو أعرفهن كانت رغبتي تبرد على الفور ولا تقوى على تحريك شيئ بداخلي، كنت أتخلى عن رغبتي في تعريتها ويتعب خيالي في مساعدتي على أن أقلبها على ظهرها تارة وعلى بطنها تارة وألعب معها لعبة الحياة والموت الساخنة، يوميا في خيالي كنت أرمي بناري في كل شارع داخل عشرات الأرحام دون أن أشبع، لا أعلم لم كان خيالي يمتنع عن تعرية كل النساء، وعرض خلع الملابس، ولاسيما إن كانت الفتاة ترتدي بنطالا، أثقب البنطال في مكان فم الجنة، وأنا بملابسي وهي بملابسها لتمتزج أعضاؤنا وتتداخل في بعضها الآخر، يبتعد الجسدان بشهوة ويقتربان من بعضهما، النتيجة أنني أشعر بلذة لم أشعر بها في حياتي كلها، لكنني كنت أعلل شهوتي اللانهائية هذه بابتعادي الطويل عن النساء، كانت شهوة من نار متقدة بداخلي دون أن تنطفئ، بعيدا عن أعين الناس كنت أجول ببصري بحثا عن تلك الثقوب والممرات الدافئة المختبئة تحت أثواب النساء الجميلات، عم كنت أبحث لا أعرف لم يحدث هذا، لا أعرف. فقط كان ثمة طعم للحياة في تلك اللحظات الهاربة، كل امرأة لا أعرفها عن كثب كانت تغدو لي فريسة لذيذة لهذه اللعبة الخيالية الساخنة، والغريب في الأمر أنني وبعد مرور دقائق قليلة على تلك الأحداث الخيالية كنت أنسى ملامح تلك المرأة وكل الدفء في تلك اللحظات.
ثمة نساء يعرفن ما الذي يريده منهن الرجل دون النظر إليه، أقول هذا عن تجربتي الشخصية، أحيانا دون أن تنظر إليّ كانت المرأة التي أنظر إليها بسهام نظراتي الشهوانية الحادة تشعر بي على الفور، كنت أعرف ذلك من نظرتها ولون وجهها، لاسيما حين كانت تبتعد عني مغادرة، وكأنهن يرغبن المشاركة في تلك اللعبة الدافئة، لم أر ذلك، ربما قد أكون مخطئا أيضا، إنهن يخفن من نظراتي التي تشبه نظرات النمر، لاسيما أن شرطا من شروط الدخول إلى هذه اللعبة أن ينتفي وجود الرجل مع المرأة، فوجود الرجل مع المرأة يقضي على خيال الاستحواذ أو الزواج بساندرا بهذه الأخيلة، لذا كانت قدمي دائما تمضي نحو الأمام، فيما الأخرى مقيدة بسلاسل هذه الجنة التي فتحها موت أبي، ورأسي يلتفت نحو السنوات الماضية، في وسط هذه الأرجوحة حط الطائر الأسود، طائر روح والدتي التي كنت بحاجة ماسة إليه تعرف ذلك فتأتي، صوتها بدا واضحا أكثر، فهمت من حديثها أنها حزينة لأجل موت والدي وتركه وحيدا في هذا العالم، سوى أن قرب والدي منها الآن أمر مفرح لها، لم أعرف إن كان بوسعهما اللقاء، كنت كالثمل ذلك اليوم، في الدخان، وما بين النوم والصحو، أتت روح وغادرت، وددت لو أسالها أسئلة كثيرة، سوى أنني لم أستطع ذلك، هي من جهة والدي من جهة أخرى، وكذلك ساندرا وحتى خيال بيريفان كانوا جميعا يقفزون إلى هذه المعضلة التي في رأسي، صورة بيريفان كانت قد تبعثرت، حاولت جاهدا أن ألملم تفاصيل الصورة القديمة لكنني كنت أفشل، أردت أن أرى ذاك الوجه النوراني القديم واضحا، سوى أن وجه ساندرا كان يمنع ذلك محاصرا إياي من الجهات الأربع، كيف أتى الطائر الأسود وكيف غادر لا أتذكر الأمر جيدا، فقط أتذكر أن أمي أعطتني مفتاحا جديدا للحياة مع ساندرا ومن ثم غادرت، لعلها مثل كل أم تريد تزويج ابنها بأي شكل من الأشكال وأن تفرح بجيء حفيدها، أو لعلها ودت إخراجي من بئر الوحدة العظيم والمعتم وترميني إلى حضن ساندرا الدافئ.[1]
المصدر: Middle East Online