خالد خضير الصالحي
1
منهجية نابعة من الخيال
تفرض التجارب المهمة في الرسم, على الدارسين، المنهجية التي تتلاءم وتلك التجارب وتقرر شكل تناولها, وهذا ما ينطبق تماما على تجربة الرسام الكوردي #إسماعيل خياط# أكثر من أية تجربة أخرى في حاجتها إلى منهجية كهذه, وبذلك نكون , شخصيا على الأقل ,أوفياء لما استن باشلار باعتماد منهجية تنبع من الخيال لدراسة الخيال ذاته، فقد أضحى هذا الابستمولوجي, وحيثما كان بعيدا عن العقلانية الديكارتية، فيلسوفا للخيال وحالما بالكلمات
, فقد كان يسخر دائما من خرافة الحصافة العلمية فيما يتعلق بدراسة الخيال, فقد كان يأمل في تحقيق قراءة للخيال، تشكل عودة إلى الينابيع الأكثر عمقا, ممهدا للاتجاه نحو التقويمات البدائية, لكي لا تنبع الصورة من هم تزو يقي خالص, فقد كانت استعارته مفهوم الأنماط العليا (أو الصور الأصلية ARCHY TYPE) محاولة لتلمس طزاجة الصورة من خلال تأملها في تكوينها المادي, بينما انصب جهده, في الجانب الآخر, في استعارة فكرة العناصر الأربعة الطبيعية (النار – التراب – الماء – الهواء) حيث استطاع أن يجد محددات نفسية طبقا إلى العلاقة المتخيلة بين تلك العناصر, ليكون بإمكان حلم اليقظة أن يعثر على مادته أو على عنصر مادي ليمنحه جوهره الخاص به، وقاعدته الخاصة به، وشاعريته الخاصة به. يقول دوغلس ن.مورغان: أننا في عبادتنا العلم, أصبحنا نخشاه, فبسبب من خوفنا, كنا نسلم عوالم أخرى ثمينة من أساليب التعبير البشري, كالدين والفنون الجميلة, إلى حمى العلم، باشتراط مطلب غير مقبول هو أن تقدم أوراق اعتماد معرفية. أن إخضاع الفنون الجميلة لهيمنة العلوم يهبط بالفن إلى منزلة أداة لنقل (الحقيقة), وليس هنالك من يتساءل إن كان ضروريا أن ينقل الفن الحقيقة، إلا إذا سبق له أن أيقن أن شأن الحياة المهم يكمن فقط في كشف ونقل الحقائق, واعتقد أن الحياة تشتمل على ما هو أهم من هذا.
2
فرادة أسلوبية ومادة استثنائية
حين قدم الرسام إسماعيل خياط منجزه المتميز في الثمانينات, انشغل به نقاد الفن وكتابه حينها, ولمدة ليست بالقصيرة, كان يمتاز بفرادة أسلوبية خاصة, كان جزء أعظم من الانبهار الكبير وقتها قد وقع من خلال استثنائية المادة, حيث يستخدم إسماعيل خياط فقط قلماً منفردا من ألوان الخشب, غالبا ما يكون لونه قهوائيا, فكان الرسام يمضي أياما وهو يشتغل به بهدف أن يملأ سطح لوحته خطوطا, حتى اختفاء آخر اثر من آثار الفراغ فيها, وهي مهمة مضنية بسبب الحجوم الكبيرة التي كان يختارها.
3
أخوان الصفا.. وعناصر التكوين
لقد (أوحت) لي تجربة إسماعيل خياط ذات مرة بدراستها اعتمادا على عناصر التكوين الأربعة (الماء والنار والتراب والهواء), وانبهارا بمنجز باشلار الضخم المؤسس على دراسة الخيال اعتمادا على تلك العناصر, افترضت وقتها هيمنة عنصر التراب على هذه التجربة, فكتبت أن إسماعيل خياط يستل من عناصر التكوين أهمها, وهو عنصر التراب المقدس, منبع الإنسان ومأواه الأخير, ليشكل من ذلك العنصر عالمه الفني, فالتراب الذي هو أكثر العناصر وفرة في الطبيعة, واقلها مباشرة, وأكثرها رمزية وتجريدا، فكان يستل من وحي المتحجرات, وصخور الجبال وتضاريسها وسحنتها (texture)، حلما احمر بلون صدأ الصخور, وصدأ ذاكرته التي اختزنت كل المعانات التي كان العراق يعيشها, و ما زال حتى وقتنا الحاضر.
أجد نفسي اليوم, وتحت تأثير أعمال إسماعيل خياط ثانية, منساقا بقوة تستحثني على إعادة توصيف ليس فقط, عناصر تكوين لوحته, بل وإعادة موضعة فهمي (لعناصر الرسم) من جديد بسبب بتأثير تجربة إسماعيل خياط ذاتها, فأستعير من رسائل إخوان الصفا (طريقتي) هنا, مفترضا أولا, أن عناصر اللوحة هي ذاتها (عناصر المحيط) باعتبارها جزء من ذلك المحيط, وحيث لا ينفصل تأويل الوجود عن تأويل النص والنفاذ إلى مستوياته المتعددة التي لا يفهمها الا الإنسان الكامل الذي تحقق بباطن الوجود وتجاوز ظاهره، كما يقول نصر حامد أبو زيد في (فلسفة التأويل), وتلك العناصر, كما يقررها إخوان الصفا، خمسة هي: الهيولى، والصورة، والحركة، والزمان، والمكان, وهي تظهر بقوة تختلف في كل فن بدرجة من الدرجات, فهي لا تظهر مجتمعة دائما, فقد يسبت عنصر, في فن ما, ليهيمن على حسابه آخر, ففي النحت يهيمن المكان (=الفضاء) والمادة, بينما تهيمن في السينما الصورة والحركة والزمن, ويهيمن في الرسم عنصرا الهيولى (=المادة, العنصر, الطينة) والصورة (=الهيئة والشكل). وهذان العنصران يرتبطان بوحدة لا انفصال لها, فالجوهر مجبول على الامتثال بالصورة, ولا تختلف
الموجودات الا بالصور (وهو اختلاف كيف), لا بالهيولى (وهو اختلاف كم), فهذان العنصران (=الصورة و الهيولى) يتوحدان لدرجة أن لا يوجدا إلا معا, فالأشياء تتناوب أدوارها (كما) و(كيفا) في الوقت ذاته, (كيف) لما قبلها و(كم) لما بعدها, فلا وجود لهيولى تخلو من الصورة إلا في الوهم, ولا وجود لصورة تخلو من الهيولى إلا في الوهم, أي أن الصورة لا تنعزل مختبريا عن مادتها. فتكون الصورة مركز الثقل في النقد الأدبي والفلسفي, فالحدس برأينا, يعتبر الصورة شكلا وجوهرا, إنها التقاطة مباشرة للمادة, وهي منفتحة على عالم أوسع من عناصرها المكونة, وهذا يعد أهم التطورات الفكرية التي هيمنت في عصرنا الحاضر على الفهم الحداثي للفن التشكيلي, وهو البعد (الماتيريالي), وهو ما يهيمن على تجربة إسماعيل خياط حيث تظهر الأشكال والموجودات بشكل يعطي إحساسا بأننا, وجها لوجه, أمام المادة الغفل (=الجوهر الأول) وهي في طور تمازجها الأولي بالشكل, في مزيج أسميته مرة (العماء الشكلي), مما يجعل لوحاته متشابهة بشكل مختلف, ومختلفة بشكل متشابه, مختلفة كونها تتخذ في كل مرة شكلا أميبيا خاصا, ومتشابهة كونها بمجموعها, تؤلف لوحة واحدة كبيرة تم تقطيع أوصالها إلى ما لا نهاية, لوحة تسكنها كائنات خدج, وهي تسيح على سطح اللوحة, لا تبين ملامحها غير المكتملة البتة, وهي تبحث عن شروط اكتمالها الذي لا تتحقق الا بفنائها, وقد لا تتحقق أبدا, وقد تكون تلك الأشكال مقاطع طولية لوجوه مجدورة, تتخذ دورا بديلا smile رمز تعبيري أثرا) عن الإنسان, وتنتظر مصيرا ليس غامضا فقط بل ومؤسفا, وجوه يرسمها دونما (مثال) محدد سابق في ذاكرته, بل هو يتخذ وجه الإنسان، غالبا, كصحيفة أعمال تحوي كل شيء, أو كتعاويذ رسم يستعيد بها جذور الكتابة والرسم معا حينما كانا متواشجين قبل الانفصال الذي اختطته الكتابة اللغوية لنفسها, فتركت (كتابة) الرسم تؤسس أنظمتها الحرة, وهي عند إسماعيل خياط تتشكل من نثار من بقع ملأت الجدران منذ أيام الكهوف الأولى, ثم استطالت, وتمددت, واسترخت, وتشنجت دون عمق منظوري, مختزلة ملامحها إلى الحد الذي تضيع فيه ما بين التشخيص والتجريد بشكل يذكرنا بكاندينسكي, مع اختزال شديد ومناقض في اللون.
4
مثنويات
يؤسس إسماعيل خياط عالمه التشكيلي, فكريا وتصميميا، على تضادات مثنوياتية لا نهائية تمتد على مرمى البصر, هي: بقعة وخط، ضوء وظلام, موت وحياة, تشخيص وتجريد، جنون وعقلنة, حركة صراع وسكون, جمال وقبح, رعب وسكينة, رقة وخشونة, بدائية ومعاصرة, واقع وحلم, كلها تؤلف مكونات ذاكرته بما ترسب فيها من أشكال نسيج صخور شمال العراق حيث يعيش, وبشكل يجعلها تجربة باطنة, يمثل العماء، فيها مرتبة التمثل الخيالي أو ما يسميه ابن عربي (الخيال المطلق), وهو أول ظرف قبل كينونة التشكل عند إسماعيل خياط, إن النصيحة الأهم التي استخلصتها من معاينة تجربة إسماعيل خياط أن يكف المتلقي عن البحث عن أية ترابطات شكلية مع الواقع، فالمادة الأولى التي يضعها إسماعيل خياط فجة لا يهدف أن تحيل إلى أي تشابه مع الواقع, وحري به أن يصدر لوحته بتحذير, كالذي يثبته الروائيون في مفتتح رواياتهم من أن أي تشابه بين أحداث و شخوص هذه التجربة والواقع فهو محض صدفة, هذا في أحسن الاحتمالات، وإلا فأن البحث في هذا الاتجاه سيكون هراءً محضا.![1]