ل أندريه برونيل[1]
الترجمة عن الفرنسية: أحمد حسن.
إذا كانت غالبية القبائل الكردية تعيش على الزراعة و تربية المواشي، فإنّ بعضها ما يزال يحلم بالنهب و الغزوات.
إنهم رعاة متنقلون, يرافقون قطعانهم إلى مراعي كردستان الواسعة و يضربون خيامهم الرائعة
على قمة تلة أو في واد آمن أو قرب مجرى مائي أو غيضة حور. و هم لا يزالون كما شاهدهم كزينفون: شجعان و قساة مثل الكاردوخيين القدماء.
مع ذلك، نجد بينهم من هم أقل شجاعة و أقل مغامرة، لا يحبون الغزو ولا العمل، و لا يحلو لهم سوى الغناء و الرقص متنقلين من حفلة إلى حفلة و من قرية إلى أخرى: إنهم ” الﮔوندة.
ليس بعيدا عن عرب-بُنار [عين العرب ،كوباني] , حيث تمر السكة الحديدية القادمة من حلب و المتجهة إلى الموصل على طول الحدود التركية، تقع قرية كانيه مشديه على رابية يمكن للناظر فوقها أن يرى الخط الأزرق للجبال الكردية شمالا, و المدى الكئيب للبادية السورية جنوبا.
بعض أسر “الﮔوندة ” تقطن هذه القرية. بعضهم يقيمون في بيوت طينية مكعبة الشكل, مغطاة بسقوف مخروطية. لكن أغلبهم يعيشون في المدافن[الكهوف] المحفورة في التلة.
ينفتح باب هذه البيوت التحت-أرضية على سطح الأرض كثقب أسود كبير, وهو المنفذ الوحيد الذي يصل عبره قليل من الضوء إلى هذه المساكن الغريبة.
للدخول إليها, علينا أن ننزل سبع أو ثماني أو حتى عشر درجات محفورة في التربة الكلسية, حينها نجد أنفسنا داخل مدفن يبلغ عرضه ثلاثة أمتار و يبلغ عمقه بالكاد مترين؛ إنّه تجويف معتم يسوده الظلام و الرطوبة منذ أن وُجد.
في قاع هذا المدفن الحقيقي و على جوانبه ثمة ثلاث كوات و أحيانا خمس كوات محفورة على شكل ناووس
[تابوت من حجر].
و بمجرّد الدخول إليه نشعر بدفء الهواء ورائحته غير الصحية و المنفرة أحيانا. و كأن نفس الحجر الفاسد ينبعث مع الدخان و رائحة العفن. ها هنا يعيش ” الﮔوندة “. إنه يُولد هنا. و هنا يطبخ على نار فظة تغذّيها بعض الأغصان و الجلة. هنا يأكل و يغسل و يجلس مع أصدقائه؛ و هنا ينام في آخر النهار مع ظهور الغسق’ محاطا بأسرته المتعددة الأفراد. و هنا كذلك ينهض ويصلي في الليل الذي يكاد يكون شيئا دائما بالنسبة إليه. و هنا أخيرا يربط حماره الذي اتّخذ له من كوة ناووس معلفا.
وعلى الجدار الذي نخر فيه العفن ثمة طبل ” داهول” و مزمار شرقي ” زُرنا” معلقان, يبدو أنهما أغلى ما يملك. هاتان الآلتان ترافقانه دائما و تتيحان له كسب قوت يومه. مع اثنين أو ثلاث من رفقائه ينطلق بوجهه المسمّر, المصمت, الجامد الاحساس, ليقرع الطبل ويغني ساعات طويلة في الأعراس و الحفلات. إنه يسرد تاريخ القبائل الكردية وأساطيرها في ملاحم الحب تارة و الأغاني البطولية تارة أخرى, متغنّيا بشجاعة الرجال و جمال النساء. لكن’ مع هذا كله فإن الجميع يحتقره, و لا أحد يرغب في أن تكون له صلة معه خارج أيام الأفراح.
ذلك أنّه يرفض أن يعمل بصورة منتظمة, فلا يبني بيتا و لا يزرع زرعا و لا يغرس شجرا. إنّه يذكّرنا بذريّة رَكَاب المذكورين في سفر إرميا*, إذ أمرهم والدهم ألاّ يبنوا بيوتا لسكناهم، و ألاّ يكون لهم كرم ولا حقل و لا زرع.
لكن, واأسفاه, فهو لا يملك أخلاقهم العالية و لا نظافتهم. و هو غالبا ما يكون قذرا جدا و في غاية البخل. شعره متشعّث وينزل على كتفيه خُصلا مجعّدة تحيط بوجهه الذي لم يُغسل إلاّ بأمطار الشتاء.
أن تكون ثيابه أسمالا رثّة, و أن يكون طعامه كسرة خبز جاف و بضع حبات من الجوز, فهذا أمر غير ذي بال عنده. و قد يضطجع بكل سرور من الصباح إلى المساء, خلي البال, حالما كما لو أنه لا ينتمي إلى هذا العالم المضطرب. إنّه خَدِر و في هذا الخدر الشهواني, لا شك أنّه يبتدع قصة ملحمية أو بعضا من أغاني الحب الجديدة التي لا ينضب معينها لديه. إنّه يظل مثالا مذهلا للتزهّد في سهول كردستان الكبرى وجبالها حيث جعل حب المال من الذهب سيدا مستبدا, و هو على بساطته, بمزاياه و عيوبه, يعتبر امتدادا لتقليد عريق في الشعر الكردي.
_____________________________
العنوان الأصلي لهذا النص les Gavandas de Kanié Meched) Troubadours kurdes)
و هو مأخوذ من كتاب Gulusar) Contes Kurdes) ﮔلزار(حكايات كردية) للطبيب الفرنسي André Brunel من منشورات دار SFELT, باريس, 1946. المترجم
* انظر الكتاب المقدّس- العهد القديم: سفر إرميا ,الإصحاح 35؛9. المترجم