د. آزاد احمد علي
«جبل إيلم المركز الروحي لمنطقة آليان وأصل تسميته»
1- الجزيرة الفراتية موطن الزراعة الأول
تعد هذه الدراسة قطاعية ونموذجية لجزءٍ مهم من سهول شمال آقور، أو شمال الجزيرة الفراتية، والتي هي ضمن منطقة كوردئين (Korduin) بحسب المصادر اليونانية[1] . لكنها كانت تتمتعُ بخصائصَ عامة مشابهة لأغلب مناطق إقليم الجزيرة الفراتية، التي تشير المعطيات التاريخية وتفاصيل الخارطة الأركيولوجية لعصور ما قبل التاريخ أنها كانت موطن الزراعة الأول. فقد تأسست بالقرب من سفوح جبال طوروس وزاغروس وسنجار أولى التجمعات البشرية المنظمة، بدلالة الآثار العديدة التي ظهرت فيها وكذلك الأدواتُ التي تم استخدامُها. وقد أشار عالم عصور ما قبل التاريخ جاك كوفان إلى هذا الجذر الحضري المبكر والاستقرار القروي الزراعي في الجزيرة عموماً وسهول محيط سنجار خصوصاً: «إن اختلافَ الشروط المناخية من منطقةٍ لأخرى يترافقُ بسلوك تأقلمي مختلفٍ وهكذا فسنجد في هذه المنطقة حضريين ورعاةً رُحَّلاً… فقد كشف مؤخراً السهلُ العالي المحيط بجبل سنجار، بشكل أكثر وضوحاً في قرميزداره وفي نمريك عن موروث باليوليتي انتقالي يعود للفترة 7600 – 9500 سنة قبل الميلاد… وكما في المشرق، فان صيادين قاطفين حضريين منذ الألف الحادي عشر ق. م كانوا يعيشون في قرى. وفي منطقة سنجار نفسها، وقريباً جداً من مغزلية ويليها مباشرة، يأتي موقعان، سوتو وكول تبه، وهما أصل الثقافة العراقية المسماة حسونة ويليان مباشرة عام 7000 قبل الميلاد. ويمكن أن نقرن بهما قرية أم الدباغية الواقعة إلى الجنوب أكثر، وهي موجودة أصلاً في منطقة جافة. ويشكل مجموعُ هذه المواقع الثقافة المسماة أم الدباغية – سوتو حيث كان الفخار موجودا منذ ذلك الحين كما في الشرق الأدنى كله أو يكاد.» (1999، ص267 -68 -73)
إنَّ جذورَ الحياة القروية المنظمة موغلة في القدم، وقد تكون بحسب كوفان منطقة السهول المحيطة بجبل سنجار والهضاب الشمالية لها ومن ضمنها رقعة دراستنا، أي منطقة آليان أحدَ أول الينابيع العمرانية الريفية الاجتماعية المستقرة والمستدامة على وجه الكرة الأرضية.
ترجحُ مجملُ الدراسات أنّ نشاطَ المجتمعات الزراعية المستقرة قد تركزت شرقَ نهر الفرات باتجاه سهول الجزيرة الفراتية حتى السهول المحيطة بجبل سنجار، حيث تكيفتْ هذه المجتمعاتُ مع البيئة الجغرافية وانتظمتْ حركةُ المجتمعات البشرية الأولى شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً لتأمين شروطٍ أفضلَ للتكيفِ مع مؤثرات البيئة الحاضنة للمجموعات البشرية الأولى، وذلك قبل حوالي (15000) خمسة عشر ألفَ عامٍ. حتى بلغتْ هذه المجتمعات المنظمة أوج ازدهارها في أواسط الألف السادس ق، م. مع تبلور المجتمعات المنسوبة الى موقع تل (حلف)، الذي يُعَدُّ أولَ وأهمَّ مجتمعٍ زراعي واسعٍ ومنظمٍ، وكذلك منتجٍ لأوانٍ فخارية مميزة حوالي عام (5600) ق م.
لقد كانتْ سهولُ الجزيرة الفراتية من البقاع الأولى على الكرة الأرضية التي انحسر عنها الجليدُ في الحقب الجيولوجية القديمة، وكانت من أولى المناطق التي توفرَ فيها المناخُ المناسب لحياةٍ بريةٍ وزراعيةٍ، حتى وفرت البيئةَ الطبيعيةَ لحياةِ واستقرارِ الإنسان الأول. يؤكد على حقيقة الجذر الحضاري لمنطقة شرق المتوسط العالِمُ الأثري جميس ميلرت: «لقد أظهرت الأبحاثُ الحديثة بشكلٍ حاسمٍ أن الحضاراتِ لم تتطور في منطقة محددة في الشرق الأدنى ومن ثم انتشرت منها. إنما على النقيض من ذلك فقد عرفت ثلاثُ مناطقَ على الأقل للحضارة في الشرق الأدنى وهي المنحدرات والوديان الغربية لجبال زاغروس ومناطق التلال التركية في بلاد ما بين النهرين وهضبة الأناضول. في نهاية العصر الجليدي تقريباً أي قبل حوالي (12) ألف سنة ظهرت مجموعات من البشر في الشرق الأدنى وأواسط آسيا تميزت باقتصادٍ يعتمدُ على جمع الغذاء وكان من بين الملامح الجديدة ظهورُ أدواتٍ صوانيةٍ جديدةٍ تسمى ميكروليتسو هي غالباً ذاتُ أشكالٍ هندسيةٍ ولها مقابضٌ من العظام والخشب تستخدم في تشكيل أدواتٍ مركبة وأسلحة متنوعة.» (1990، ص 22-23)
يمكنُ الافتراضُ أن الحياة الاجتماعية المرتكزة على إنتاج القوت قد نشأتْ في منطقة آليان منذ حقب قديمة، بدلالة العديد من التلال الأثرية فيها، وكذلك الأدوات الحجرية العائدة لعصور ما قبل التاريخ، التي تم استخراجُها من الطبقات الأثرية العائدة لتلك العصور. في الصورة رقم (1) المرفقة نماذج لأدوات الصيد العائد لإنسان العصور الحجرية. وكذلك مطحنة لدرس الحبوب تم كشفها في الطبقات الدنيا من السويات الأثرية لتل قرية ديرونا آغا.
2- الصراع على خيرات الجزيرة الفراتية
يبدو أنّ الطبيعة الطبوغرافية غير الحصينة لأغلب مساحة الجزيرة الفراتية وكذلك جغرافيتَها الوسيطة الرابطة بين المشرق والمغربِ جعلتها هدفاً لأطماع الإمبراطوريات المجاورة، أما العامل الحاسم الذي حوّلَ الجزيرة الفراتية الى رقعةٍ للصراع بين الإمبراطوريات فهو وفرةُ خيراتها والفائضُ في إنتاجها الزراعي عبر مختلف العصور. لذلك تحولت الجزيرة الى ساحةٍ للصراع بين الإمبراطوريتين الإيرانية واليونانية قبل الميلاد، ومن ثم أصبحت منطقة نزاعٍ ومطمعاً للقوتين العظميين الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطة حيث دار الصراعُ طويلا بينهما وكانت بلدان الجزيرة هي بمثابة الغنيمة، وموضوعا للصراع. وبصرف النظر عن شكل وعناوين هذه الصراعات، فجوهرُ الصراع كان على الخيرات الاقتصادية الهائلة للجزيرة الفراتية، خاصة ثروتها الحيوانية، مراعيها وأراضيها الزراعية على ضفاف أنهار الفرات ودجلة والخابور.
هذا وقد بينت كتب الحسبة والخراج، كما أكدت معظمُ الرواياتِ التاريخية على أن منطقة الجزيرة الفراتية كانت من أغنى المناطق الزراعية، لذلك استقطبتْ أيضا وجهة الفتوحاتِ الإسلامية في مرحلةٍ مبكرةٍ. ودعمتْ دولة الخلافة الإسلامية بثروتها التي لم تكن تنضب: «كذلك عدت الجزيرة الفراتية في العصر الأموي واحدة من الأمصار الإسلامية الغنية بمواردها المالية التي وفرتها لبيت المال، فثمة أدلة كثيرة تشير إلى ما كانت تتمتع به الجزيرة من غنىً، وما يتصفُ به سكانُها من ترفٍ ورفاهيةٍ، فيروي ابن أعثم الكوفي أن حصة كلِّ مسلمٍ مقاتلٍ أسهم في تحرير الجزيرة في جيش عياض بن غنم بلغت عشرة آلاف درهم، عدا الماشية والأمتعة… ويذكر الواقدي: أنّ عبد الله بن غسان حين ارتحل عن قرقيسيا ونزل على ماكسين فتحها صلحًا على أربعة آلاف درهم من نقد بلادهم وألف حمل طعام حنطة وشعير… يمكن ملاحظة هذا الغنى من حجم الموارد التي كانت تدرها الضرائبُ السنوية على الأراضي الزراعية للدولة الأموية، فيذكر اليعقوبي مقدار خراج الجزيرة في خلافة معاوية بن أبي سفيان (679 م) بقوله: وخراج الجزيرة، وهي ديار مضر وديار ربيعة، على خمسة وخمسين ألف ألف درهم، وخراج الموصل وما يضاف إليها ويتصل بها خمسة وأربعين ألف ألف درهم. أما ابن حوقل، فيذكر أن نصيبين وحدها كانت تضمن في أول الإسلام 100 ألف دينار.» (الدويكات، 2013. ص 6)
3- عين تجار قريش على الجزيرة الفراتية
هذا ويستنج الباحث الدويكات بأنّ هذا الكم من أموال الجباية التي كانت تخرج من الجزيرة الفراتية كان حصيلةً لنشاطٍ زراعي واسعٍ ووافرٍ، فضلاً عن المهن المرتبطة بالفلاحة والرعي: ويعتمد على أحد المصادر السريانية لبيان مستوى خصوبة أرض الجزيرة وكثافة إنتاجها، حيث أشاد المؤرخ السرياني الراهب الزوقنيني (الذي كان حياً عام 157ﮪ/ 774م ) بخصوبتها، ووصفها بقوله: أما أرض الجزيرة فكانت كثيرة الخيرات، والحقولُ غنيةٌ بالكروم والمزروعات الأخرى، أما من جهة الغنى بالأموال والميرة؛ فلم يكن فيها فقيرٌ أو بائسٌ واحدٌ، فجميعُ أهل القرى مترفين، وكلُّ فردٍ منهم يملكُ فداناً من الأرض مع الماعز والحمير، ولم تكن قطعة واحدة من الأرض خالية، بل جميعها مزروعة بالحبوب والكروم، حتى أن سطح الجبل كان مزروعا بالكروم والأشجار الأخرى، خاصة الأماكن التي لم يكن بالإمكان حراثتها وزراعتها بالحبوب. أما المصادرُ الإسلامية، فتُجمع على خصوبة أرض الجزيرة، وما تميزتْ به من مواردَ اقتصاديةٍ متنوعةٍ ووفيرةٍ، فكانت قريشُ قبل الإسلام تتحدثُ عن خصوبة ارض الجزيرة الفراتية، فيذكر الأصمعي: «كانت قريشُ تسأل في الجاهلية عن خصب باعربايا، وهي الموصل لقدرها عندهم، فلم ينلهم من خصبها شيء، وعن ريف الجزيرة وما يليها، لأنها تعدل عندهم في الخصب باعربايا. وعندما سأل الخليفة عمر بن الخطاب عن الجزيرة وُصفتْ له بأنها خصبة جدًا، وكذلك ما أشار إليه ابن حوقل والمقدسي – وكلاهما من أهل القرن الرابع الهجري – إلى أنّ إقليم الجزيرة رفه بخصبه وأن هذا الإقليم منه ميرة أكثر العراق، أما ياقوت الحموي، فمع أنه من المصادر المتأخرة إلا أنه يورد معلومات مهمة عن إقليم الجزيرة، وذلك لتنوع مصادره وقدمها، وقد وصف الجزيرة الفراتية في معجمه بأنها، جيدة الريع والنماء واسعة الخيرات. وعليه فقد كانت الجزيرة الفراتية على جانب كبيرٍ من الأهمية الاقتصادية، خاصة في مجال الإنتاج الزراعي، مما جعل الخلفاء الأمويين يبدون اهتمامًا خاصًا بالمنطقة بوصفها مركز ثقل اقتصادي للدولة». (الدويكات، 2013، ص7)
يمكنُ الترجيح بأنّ خيراتِ الجزيرة الفراتية المادية، وكذلك وفرة المياه والمراعي الواسعة فيها جعلتْها مطمعاً للغزاة، فضلاً عن وقوعها على الطرق الرابطة بين المشرق والأناضول فأوربا. لذلك قد يكونُ من الضروري تكرار الإشارة إلى الحملات وعمليات الغزو المتعاقبة لها، مما جعل أغلب مناطقها غير مستقرة، خاصة مناطق السهول القريبة من ضفاف نهري الخابور والفرات فضلاً عن تعرض التجمعات السكنية والقرى على جوانب الطرق العامة لتخريبٍ متكررٍ عند اجتياح او مرور القوات الغازية أو حتى جيوش الامبراطوية التي تحكم البلاد نفسها.
لقد استمرت الجزيرة الفراتية ساحة للصراع الإيراني – اليوناني فالروماني. أما بعد دخول الجزيرة الاسلام ظلت رصيداً اقتصادياً ودعماً لخزينة الدولة كما سبق ذكرُه، لكنها هُمِّشتْ وتعرضتْ للتفتيت الجغرافي بناءً على توزع مراكز الادارة فيها، وكنتيجةٍ للصراعات الداخلية بين مراكز الحكم المحلي وتناحر الحكام. فقد ذكر ابنُ حوقل وهو من أهل نصيبين رواياتٍ مفصلةً حول الخراب الذي لحق بالقرى والبلدات حول نصيبين نتيجة لسوء حكم بني حمدان والصراع بين بني حمدان وبني حبيب على السلطة والخراج والخيرات.» (ابن حوقل ،1992، ص191)
4- الخراب البيئي وتراجع الزراعة
أسوأ ما تعرضت الجزيرة لها إلى جانب التدهور البيئي، كانت غزوات القبائل القادمة من أواسط آسيا، بدءاً بمطلع الألف الثاني للميلاد، مما أثر بعمق على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والزراعة، وبشكلٍ خاصٍ تمَّ تخريبُ القرى المستقرة في السهول. فقد تعرضتْ هذه المناطقُ السهلية المكشوفة بشكلٍ مباشرٍ لأولى غزوات التركمان المدمرة: «منذ سنة 1185م ابتدأ الحرب الذي أثاره الشعبُ التركماني، واستمر ثماني سنواتٍ، وهم يعيثون في مناطق كثيرة تخريباً وتهديداً وذلك في أرمينيا وبلاد آشور ومابين النهرين وسوريا وقفدوقيا (كبدوكيا)… وسبب ذلك أن الأكراد كانوا ينهبون التركمان ويقتلون منهم خلقاً كثيراً وهم يشتون في برية سورية الجنوبية. فقتل التركمان نحو مئتي رجل من الأكراد، في المناطق المتاخمة لحدود ماردين. وتحاربَ الجانبان، واجتمعَ الأكراد في منطقة نصيبين وطور عبدين زهاء ثلاثين ألف مقاتل، وكذلك التركمان تجمعوا في منطقة الخابور، وعند التقاء القوتين بحربٍ طاحنةٍ انهزم الأكراد شر هزيمة، فأعملوا فيهم السيف حتى فني الجنس الكردي من كل سورية وما بين النهرين. والتركمانُ لم يكونوا يؤذون المسيحيين في السنوات الأولى لحكمهم، ولكنهم بعد ذلك راحوا يعيثون فيهم قتلاً وتخريباً. حتى اندحر التركمانُ أيضا نتيجة لحروب طاحنة مع حكام المنطقة السابقين، وحينئذ هدأت العاصفة.» (برصوم، 1963، ص287)
تتالت الهجماتُ والغزوات على السهول والبراري التي كان يقطنها الفلاحون ومربي الأغنام الكورد، حتى شكلت غزوات تيمورلنك بين أعوام (1398- 1405م) بداية الخراب الكبير لمجتمعات سهول الجزيرة الوسطى والدنيا، هذا وكان لحكم الجماعات الغازية ذات الأصول التركية لاحقاً، طوال قرن من الزمان بين أعوام (1411- 1515م) على أجزاءٍ من الجزيرة الفراتية أيضاً دورٌ سلبي في عدم الاستقرار الحضري، إذ تسببت في خراب الحياة الفلاحية واندثار العديد من القرى والبلدات. شكَّلَ الغزو المغولي وبالاً على الجزيرة الفراتية، بل مرحلةً فاصلة لعهدين. فكان غزوةُ المغول الأولى عام 1224م بداية الخراب العمراني في الجزيرة الفراتية، قُتِل إبانها مئاتُ الألوف من أبناء الجزيرة والعراق وبلاد الشام وتمَّ تخريبُ العديد من القرى والبلدات. وقبل أن ينتعش الوضع الاقتصادي سنة 1380م اجتاح تيمورلنك أواسط آسيا، ووصل سنة 1393م إلى إيران والجزيرة الفراتية ومنها إلى بغداد. وقد أصابَ الجزيرة الفراتية البلاءُ الأعظم على يد هذا الغازي، فقد شرد سكانَها، وأنزل الخراب بديارها. فصارتْ منذ ذلك الحين بريةً قفراء. (داؤود، 1959، ص51)
ولم تستقر الأوضاع في الجزيرة الفراتية نسبياً إلا بعد أن استولى عليها العثمانيون سنة 1516م ودخلتْ ضمن نطاق حكمهم. ويبدو أن منطقة آليان كانت الناجية من بين العديد من المناطق التي اندثرت. كما حافظت على حياتها الريفية طوال العهد العثماني، كونها كانت جزءا من إمارة بوتان في كوركيل وجزيرة ابن عمر (جزيرا بوتان)، تمتعت مجتمع آليان في ظلها بحكم ذاتي، كما سنتوسع في سرده لاحقا.
5- أصل تسمية منطقة آليان (Devera Alîyan) وجغرافيتها
5-1 تسمية منطقة آليان ودلالاتها
من إيل إلى إيلم وآليان: أساطير صاغت هوية المكان:
تاريخ منطقة آليان يتمحور حول وجود تل / جبل، يقع في زاويتها الشمالية الشرقية، لكن الجبل ظل شمال خط الحدود الدولية (خ ح د) التركية – السورية بعد إتمام ترسيم الحدود حوالي عام 1930م.
أصل تسمية الجبل باللغة الكوردية إيلم ÊLIM)) كما يرد ذكره في الخرائط العثمانية بصيغة جبل إيلم (ايلم داغ). على ما يبدو بقاء اسم التل بالصيغة الكوردية وليس جبل فقط كما في الخارطة العثمانية مؤشرٌ على وجود تل فوق هذا الجبل باسم إيلم أيضا، أما الجبل فهو امتداد لجبل باكوك (BAGOK)/ طور عابدين. وقد يكون اسم جبل طور عابدين العربي المتأخر نسبياً مرتبطاً بإسم زين العابدين، أحد أحفاد الرسول (ص). وليس كما ذكره مار اغناطيوس أفرام برصوم في كتابه تاريخ طور عابدين نقلاً عن قصة الكفاني، أن الاسم متأتٍ من العبيد، وكررته عددٌ من المصادر لاحقاً. فقد وردت ضمن أخبار الطور والسرديات الكنسية بعضُ الأحداث المهمة في تاريخ منطقة آليان التي كانت ملاصقة لمنطقة طور عابدين، إذ نقل أفرام برصوم رواية تمرد الكورد على العباسيين، وهي رواية منقولة عن ابن الأثير على الأرجح: «في سنة 1597 يونانية 1286 ميلادية تمرد بعضُ الأكراد على الخليفة العباسي، وادّعوا أنّ المهديَ ظهر، حتى خشي بأسَهم الخليفةُ المأمونُ. فجرد حملة عليهم بقيادة الحسن، أحد قواده، وزحفت على طور عبدين ونهب دير قرتمين، فاندحر الأكراد، والمهدي المدعي به، أفلت الى بلاد اسحق بن اشوط في الجبال وهناك قطع رأسه». (برصوم،1963، ص)، فالمنطقة مرت بأحداثٍ تاريخيةٍ ذات طابعٍ مذهبي وسياسي، ومن المرجح أن قائد التمرد ضد الحكم العباسي هو أحد أفراد آل البيت المدعومين والمحتضنين من قبل السكان الكورد المحليين، لذلك قد يكون لتسمية منطقة آليان بصيغتها المتأخرة له علاقة مع وجود أفراد من آل البيت فيها، نافسوا السلطة العباسية وشكلوا خطراً عليهم عهدئذٍ. فهنالك تراكبٌ وتشابك وكذلك تشابهٌ بين مفردتي (آل) الكوردية و(علي) العربية، حيث تبين بعض الدراسات اللغوية – التاريخية أن إسم العلي متأت من (آل) السومري كما سنرى لاحقاً. ومهما تكن التشابكات اللغوية، فالاساطير والمعتقدات القديمة قد ساهمت بشكل صريح في صياغة الاسم التاريخي للمنطقة.
خلال دراستنا لتاريخ المنطقة، فرض التل – الموقع حضورَه الدائمَ كمكانٍ مركزي مقدسٍ، ومزاراً دينياً ومقابرَ لشخصياتٍ مجهولةٍ، تدور حولَها القصصُ. فقد نسج تل (إيلم) جانباً من ذاكرة المكان وقدسيته. لكن تبيّنَ لنا بعد البحث الميداني الواسع والتوسع في تسميات العديد من المواقع المحلية أن إيلم ليس مكاناً مقدساً ومزاراً يُبجًّلُ ويُقْسَمُ به فحسب، وإنما تسمية تتكرر في مواقع فرعية أصغر، فكثرتُها تشجع على المزيد من الجهد والجرأة في البحث عن جذر الكلمة وكذلك عن دلالة ما اشتق منها في سياقات تاريخية متعاقبة.
أهم ما يساهم في شرح بداية هذه التسمية هو جذرها الديني – القديم، فهي عائدة لآلهة قديمة، أو قد يكون معبداً منذ مرحلة البداية التي أسست لعبادة الإله الواحد. بهذا الصدد من المفيد أن نستعرض ما لخّصَه الدكتور جمال رشيد أحمد بعد قراءاته المستفيضة لتحولاتِ هذا المصطلح – الاسم عبر التاريخ: «كما الحال مع جبرائيل (رجل إيل) وميكايل (من يشبه إيل) عضوا المجمع الإلهي للربِّ أيل أعظم معبودٍ عند الكنعانيين الذي ناداه المسيحُ بصيغة أيلي أو أيلوي. ومنذ مطلع الألف الثاني ق، م. اعترفَ العبريون بهذا المعبود منذ زمن النبي إبراهيم، ثم تلقب يعقوب بهذا الاسم وأصبح يعرف بإسرائيل (مصارع إيل)، ثم اشتقت الشعوب السامية من هذا الاسم صيغته المؤنثة (ايلات) المتطورة من كلمة (الالهة). وفي الواقع، فإن أصل هذه التسمية ترجع بجذرها الأقدم إلى الاصطلاح السومري (آل أو أل أل = الله) الذي كان يعبر عن مفهوم علو السماء حيث لفظها الأكديون بصيغة (عال أو عالو) وكانو يعتقدون أن بيته يقع في أعلى قمم بلاد سوبارتو – اعتماداً على مارفين وهرتسفلد – وعلى هذا الأساس أصبح الإله (علياتم) عند الأكديين والبابليين هو المعبود المعتبر لشعوب المناطق الجبلية الكوردية واشتهر في النصوص الحورية بالإله (إيلاني أو عيلاني) وأصبح يرادف (إيليون أو عيل عليون) في كل من سورية ولبنان، وقد أفادتنا طروحاتُ مارفين بوب حول هذا المعبود استند فيها على النصوص الأوغاريتية وقارنها بالصيغ العبرية الواردة في الكتاب المقدس وفي النصوص الكنعانية المبعثرة التي اكتشفت في كل من سوريا وجنوب الأناضول…» (أحمد، 2005، ص159).
ومن المؤكد أن إيل كان إلهاً أو معبوداً هورياً في الألف الثانية ق، م. انتقل إليهم من الثقافة السومرية، وبذلك يكون جذر الإله إيل هو حوري ومن تراث المجتمعات الحورية القديمة: «وفي الحقيقة وجدت محاولات بذلها مدونو الأساطير لإثبات مكانة السيادة للإله بعل، ولكننا نجد فيما عدا ذلك أن الإله إيل يظهر في معظم الأساطير والشعائر الدينية سيدا للآلهة دون منازع.» (فوليهلم،2000، ص100)
وعلى ما يبدو انتقل عبادة الاله إيل أو آل من السومريين عبر المجتمعات الحورية في غرب سوريا الى الكنعانيين.
وبصيغة أكثر دقة بين الباحث الأثري جرنوت فوليهلم أن الإله آلاني Allani وبعدة مسميات قريبة منها كانت من الآلهة المعروفة في المملكة الحورية – الميتانية: «من الآلهة المعروفة في الغرب فقط الإله آلاني Allani إلهة العالم السفلي التي لا يمكن فصلها عن الإله ألاتم المعروفة من قبل في عصر سلالة أور الثالثة. ولا شك في أن إسم ألاني ذو صلة بالكلمة الحورية ألاي (سيدة)، اما إسم ألاتم فلم يقدم له تفسير أكدي مقنع حتى الآن. وبذلك فهذا الربط بين ألاتم وألاني يشكل القرينة الأولى والوحيدة – حتى الآن – الدالة على وجود الحوريين في شمالي سوريا منذ نحو 2200 ق.م،» (فوليهلم، 2000، ص107).
لذلك يبدو واضحاً أن إسم آليان أو إيليان يعود بجذوره الى أوائل تشكل حضارت الشرق الأدنى، وخاصة الحقبة الهورية – الميتانية. ومن المدهش أن أبناء منطقة آليان وجوارهم القريب يحلفون بصيغة قسم ديني معظم ب (إيلم) بدلا عن (الله) في صيغته الإسلامية الراهنة، متوجهين أثناء أداء القسم نحو الجبل الذي حافظ على تاريخاً على سلسلة المقدمسات القديمة ونقلها للمجتمعات المعاصرة.
كانت المجتمعات القديمة في منطقة آليان مرتبطة بشكل عضوي مع جبل إيلم – المكان العالي المقدس، حيث أن أيل وآل وآلاني وإيلم كلها مرادفات لمعنى واحد هو (الله) تناقلته الأجيال المتعاقبة، كما أسست في وقت لاحق لاجتماع ومعتقدات المكان – المنطقة وطبعت بالتالي جغرافيتها بهذا الاسم المقدس غير القابل للنسيان أو التبديل، بل أفترض أنها صبغت وصاغت أسماء العائلات والعشائر، فمن الملاحظ كثرة أسماء القبائل الكوردية في محيط هذا الجبل مثل: آلي، آلكا، عليكا، علوي، عليوي. بالتالي اسم آليان، الدال باللغة الكوردية حديثاً على الراية، هو موغلٌ في القدم، راسخٌ ذاتُ أبعادٍ اجتماعيةٍ وطقسية ومثيولوجية مقدسة بشكل أساسي، واحتوت بصرياً على العديد من الرايات كمؤشر على قدسية هذه المزارات والقبور.
5-2 الجغرافيا والحدود والسكان
تتمتع منطقة آليان بحدودٍ جغرافية شبهِ ثابتة، شكلت شخصيتها المكانية المحددة والمتميزة، بالتالي لها جغرافيتها الاعتبارية التي تتوسط مدينتي جزيرا بوتان ونصيبين التاريخيتين. كما يمر عبر أراضيها أهم طريقين بريين في الجزيرة الفراتية، وهما طريق نصيبين – جل آغا – الموصل وطريق نصيبين – ديرون – جزيرة ابن عمر، وهذا الأخير تحول الى الشمال بعد تقسيم كوردستان وبالتالي انقسمت جغرافية أراض آليان نفسها.
إنّ وضوحَ وثباتَ حدودِ منطقة آليان استندتْ على خلفيةٍ طبوغرافيةٍ وجغرافيةٍ، فجغرافيتها ذاتُ شكلٍ مستطيلٍ، يحدها شمالاً السفوح الشرقية لجبل Bagok (طور عابدين)، وجنوباً السهولُ الشمالية لجبل سنجار. في حين يحدها شرقاً نهرا هزافي (نهر جل آغا) وكري ديران، وغرباً نهر جرح (نهر تربسبي)، بطول متغيير شمالا – جنوبا كان يتراوح بين 60 – 80 كم وعرض شرق – غرب يتراوح بين 30 – 35 كم، وبمساحة وسطية إجمالية تقارب حوالي (2000) ألفي كيلومتر مربع، وهذه الجغرافية كان محددة وثابتة خاصة في العهد العثماني.
«الخارطة رقم (1) تبين حدود وموقع منطقة آليان بالنسبة للدول الثلاث تركيا، سوريا، العراق.»
وانخفضت المساحة إلى أقل من ذلك، أي حوالي 1500 كيلو متر مربع بعد ترسيم وتثبيت الحدود بين تركيا وسوريا بشكل نهائي عام 1930م.
حيث ظل حوالي 20% من منطقة آليان شمال الحدود الدولية، وربما تكون حدودها الفعلية حتى ما بعد جبل إيلم وصولاً الى (كيلا حمكا) أي بحوالي (12- 15) كم شمال (خ ح د). هذا وقد أخذت السلطات التركية معها الناحية إدارياً ورمزياً، إذ يوجد مقرٌ لناحية آليان على الطريق العام الواصل من جزيرا بوتان ونصيبين المار شمال (خ ح د) بحوالي ثماني (8) كيلومترات، لأن مركز الناحية التاريخي، أي بلدة ديرونا آغا ظلت جنوب الحدود داخل سوريا، واستمرَّ مركزاً للناحية لسنواتٍ عديدة حتى أواسط القرن العشرين، حيث تمَّ نقلُه الى تل كوجر على الحدود العراقية.
أراضي آليان بمعظمها غضارية وسيلتية صالحة للزراعة، تكثر الأحجار البازلتية في القسم الشمالي منها، كما تكون التربة سيلتية رملية أقل خصوبة في الجنوب. ترتفع المنطقة عن سطح البحر كلما اتجهنا شمالاً، أما معدل ارتفاعها عن سطح البحر فيتراوح بين (350) متر في سهولها الجنوبية وحتى حوالي (500) متر عن سطح البحر في الهضاب والسفوح الشمالية قرب (خ ح د)، لترتفع الى أكثر من ذلك كلما اتجهنا شمالا، خاصة عند جبل إيلم وكري أزدينا.
تتمتع المنطقة بمواردَ مائيةٍ وفيرةٍ من أنهرٍ وينابيع. حيث ينبع من هضابها الشمالية أربع أنهر رئيسية هي من الشرق إلى الغرب: نهر سفان الذي ينبع من شرق جبل إيلم ويصب في نهر دجلة شرقا، أما أنهر كري ديران، هزافي وجرح فيتجهون نحو الجنوب الغربي لتتحد مع نهر جق جق (هرماس)، الذي يصبُّ بدوره في نهر الخابور جنوباً، حتى تصل مياهُها جميعا الى نهر الفرات في جنوب غرب الجزيرة الفراتية. أما في السنوات المطيرة فإن قسم من المياه تفيض وتنشق عن هذه الأنهر وتجري بإتجاه سنجار لتصب في الوديان الجافة، منحدرة نحو بادية العراق حتى تتجمع في بحيرة الثرثار غرب العراق.
معدل هطول الأمطار في آليان بحدود (400) ملم في معظم السنوات، كما تسقط الثلوج فيها أغلب السنوات، لذلك تنجح في آليان الزراعة البعلية، خاصة الحبوب والبقوليات، كما كانت تساعد وفرة وفائض المياه السطحية من الينابيع، الآبار وقنوات المطاحن على الزراعة المروية، خاصة الأرز والقطن، وكذلك الذرة والسمسم، اضافة الى أصناف عديدة من الخضار وأشجار الفاكهة.
5-3 عدد القرى والسكان
كان عدد القرى التاريخية في منطقة آليان حوالي 90 قرية إبان العهد العثماني، ظل حوالي عشرة منها شمال (خ ح د) في مرحلة الانتداب الفرنسي، وكانت تندثر بعض القرى وتعود للحياة بحسب الظروف السياسية والقلاقل الاجتماعية بمعدل 10% من مجموع القرى، أما عدد القرى القائمة حاليا في حدود منطقة آليان فهي أيضا تقارب الثمانين قرية، لأنه بعد عام 1952م تم استحداث وبناء قرى عربية على أنقاض قرى كوردية مهجورة، ذلك لتوطين البدو في السهول الجنوبية لآليان، وهي حوالي 25 قرية.
«جانب من قرية قاستبان التاريخية (تعود الصورة لعام 1998)»
أما عدد القرى التي كانت قائمة بحسب سجلات إحصاء عام 1960 فهي (54) قرية بمجموع سكان يقدر ب (12305) اثنتا عشر وثلاثمائة وخمسة أشخاص. حيث استمرت أغلب قراها التاريخية عامرة منذ مئات السنين وأبرزها هي: ديرونا آغي، جل آغا، جل برا، باترزان، كفري دنان، آبر، ماشوق، علي بدران، آلا قوس، كري ديران، خراب بازار، توكل، كركي خلو، كربكيل، كري بري، كري كولي. تل علو…
5-4 الطبيعة الطبوغرافية
طبوغرافية وجغرافية منطقة آليان مميزة تبدو كشكل مستطيل أو شبه منحرف ينحرف ويتسع في الجنوب، ولكن ما ميزه وجعل من المنطقة موطناً لأقدم المجتمعات المنتجة والمستقرة هو الطبوغرافية المساعدة على التكيف مع المناخ والبيئة الطبيعية. ففي الشمال تحده الجبال التي تتلاءم مع ظرف المعيشة صيفاً، وتناسب الارتفاع في درجات الحرارة، كما تشكل ملجأ ومأوىً ضد الأخطار والغزوات. في حين في الوسط أراضيها شبه صخرية، مؤلفة من هضاب ووديان تكثر فيها الأنهر والينابيع العذبة التي توفر شروطاً سهلة للمعيشة. أما في الجنوب فهي أرض مستوية وبرية ممتدة نحو محيط جبل سنجار الغربي، تناسب هذه السهول رعي المواشي في فصل الشتاء.
5-5 الموارد المائية
أن وفرة المياه السطحية الغزيرة المتغذية والمنبثقة من طبوغرافية المنطقة قد أسست لحياة المنطقة الاجتماعية والاقتصادية، بل أفترض أن للماء علاقة بمثيولوجيا وجذر معتقدات المنطقة، خاصة بوجود قرية تاريخية تسمى كفري دنان (الدنان الحجرية)، وهي آثار حجرية لدنان مقلوبة بجوار بحيرة جفت مياهها، كانت مركزا لنشاطات طقسية وترفيهية في عهود ما قبل التاريخ على الأرجح.
يتبع في العدد القادم
المراجع:
1) ابي القاسم بن حوقل النصيبي. كتاب صورة الأرض. مكتبة دار الحياة. نسخة معدلة عن طبعة ليدن الأصلية. بيروت لبنان. 1992م
2) إسكندر داؤود. الجزيرة السورية بين الماضي والحاضر، دمشق 1959
3) أفرام برصوم. تاريخ طور عبدين. ترجمة: بولس بهنام. بيروت – 1963
4) جاك كوفان. الألوهية والزراعة، ثورة الرموز في العصر النيوليتي. تقديم: د. سلطان محيسن. ترجمة: موسى ديب الخوري. دمشق -1999
5) جرنوت فوليهلم – الحوريون – تاريخهم وحضارتهم
6) ت: د. فاروق إسماعيل. حلب – 2000
7) جميس ميلات. أقدم الحضارات في الشرق الأدنى. ترجمة: د. سلطان محيسن. ومحمد طلب. دمشق – 1990م.
8) د. جمال رشيد أحمد. ظهور الكورد في التاريخ. أربيل 2005
9) فؤاد عبد الرحيم الدويكات. الأحوال الزراعية في إقليم الجزيرة الفراتية في العصر الأموي. المجلة الأردنية للتاريخ وللآثار. المجلد 7 العدد 1، 2013م.
10) جولات ومعاينة ودراسات ميدانية. حوارات واسعة مع السكان.
للتفاصيل ينبغي مقارنة ماورد عند الجغرافي اليوناني سترابون مع ما ورد في المصادر التي سبقته، لمعرفة حدود منطقة كورديين.[1]