#صباح كنجي#
يتأثر الأدب الشفاهي عند تناقله عبر الأجيال مع تسلسل الزمن اولاً.. وكذلك في حالة انتقاله من مكان لآخر عبر المحيط والجغرافيا ويتعرض للتبديل والتغير ثانياً، ومن الطبيعي أن تتأثر أعماق الإنسان وروحه بأفكار ومحتوى هذا الأدب وبشخصياته المحورية وقصص وحكايات البطولة والتحدي التي تتسلسل احداثها لتروي شيئاً من المفاهيم الميثولوجية وحكايا الأنسان مع الأرباب والآلهة والطبيعة.
وفي الكثير من الحالات ينقص سهواً او عمداً.. أو يضاف للنص شيئاً جديداً كي يتلاءم مع المرحلة الجديدة التي غالباً ما تكون نتيجة وفاة حاكم مؤله او مجيء غيره، بالرغم من أن سياقات الأدب الشفاهي تسعى لتأكيد وايضاح شيئاً من الاستقلالية من الوهلة الاولى وتجاهد عبر تعرجات الطرق الوعرة التي ينتقل فيها هذا الأدب لكي يبقي محتفظاً بأهدافه الكبيرة المقدسة وصياغاته العامة المقبولة الى حدٍ كبير.
وملحمة (مير مح) في الأدب الشفاهي الايزيدي معروفة ومشهورة بسبب تحدثها عن الغربة والأيام الحزينة، تجري روايتها عند موت الأنسان. كما نعرف.. إن بدل فقير حجي قد دون هذه الملحمة لأول مرة ونشرها في العدد الخامس من مجلة لالش سنة 1997 بالحروف اللاتينية.
وكذلك هوشنك بروكا كتب مقال بحثي عنها في العدد الثالث من مجلة روز سنة 1998
لا نريد أن نتوقف طويلا عند هذه الملحمة وأبياتها، لأننا ذكرنا إنها قد نشرت، لكن سنتوقف عند أهم عقدها وأبرز مفاصلها والتساؤلات الكبيرة والهامة التي تطرحها وهي مأخوذة مباشرة من الشيخ حسين الشيخ ابراهيم الذي هو مصدر روايتها وبمساعدة وتدوين من قبل بدل فقير حجي. وسأسعى لترجمة محتواها ومضمونها بالشكل الذي يخدم ويساعد على استكمال مشروع الكتابة بالبحث عن جذور العلاقة بين الديانة الايزيدية وسكان وادي الرافدين عبر هذا الفصل..
تقول الاسطورة:
كان لرجل كبير وغني، رجل مؤمن وحكيم، ابن يدعى (مير مح)، وكان أبيه لا يريد أن يرى ابنه أية معاناة.. أو يعرف الفاقة والعوز.. أو يتعرض للشر والموت، لذلك لم يسمح لأبنه (مير مح) بمخالطة الناس كي لا تشاهد عينيه أو يبصر مصاعب الحياة، وكل شيء كان يطلبه ابنه كان يوفره له، ووضع في خدمته عدد من الرجال والخدم، ليؤنسوه ويفرحوه في كل الأوقات، لحين بلوغه سن الزواج، حيث خطب له أبيه فتاتاً جميلة ومناسبة وزوجه منها، أصبح (مير مح) منتشياً وسعيداً للغاية، وعاش في وئام وسعادة بالغتين معها، فأشرقت روحه وأقبل يتمتع ويفرح بالحياة، والسرور يلازمه، ولم يكن يعرف الهموم والأحزان.!
كما تقول القصة، بعد عدة أشهر من زواج (مير مح) جاءه أصحابه ذات ليلة للسهر معه وانقضت بفرح ومرح ونكات وضحك لساعة متأخرة من الليل، حيث رافق اصحابه لغاية الباب، قبل أن يُغادروا إلى بيوتهم.
ومن ثم عاد من توديعهم فوجد زوجته نائمة، ناداها لتستيقظ..
انهضي.. فيقي..
لكن دون جدوى.. لم تستيقظ.. تصور (مير مح) زوجته نائمة، وقال سوف ادعها واتركها كي تنام إلى الصباح، وتمدد هو الآخر إلى جنبها.
في الصباح صاح (مير مح) على زوجته ليوقظها، لكنها لم تستجيب أو تتحرك، وبقي هكذا لحين جاءه أصدقاؤه وكانوا يستفسرون منه..
أين أم البيت؟، أين زوجتك؟
أجابهم:
أوْ..وْ.. وْ.. ه ..ه من البارحة دخلت في الفراش وبقيت نائمة!
ذهب أصدقاؤه لرؤيتها، لم تكن نائمة!
قالوا..
إنها ليست نائمة.. قد تكون ميتة!، (مير مح) إنّ زوجتك ميتة!!
سأل (مير مح):
ما هو الموت؟
أجابوا:
جبرائيل (عزرائيل) رسول الله يأتي ويأخذ الروح من البشر إلى عالم آخر، الروح لا تعود إلى جسدها!
استفسر ثانية (مير مح) من اصحابه..
ما هو الموت؟، ماذا تقصدون بخروج الروح؟، من هم جبرائيل وعزرائيل؟!.. قولوا لي!!
قالوا:
الآن الشيخ والبير، وأخت وأخ الآخرة سيأتون، زوجتك ميتة سيأخذونها للغسيل.. سيغسلونها.. سيغسلون رأسها، سيكفنونها، ويؤدون ذكر دعاء الموتى عليها، بعدها سيضعونها على (الدار بست.. السدية) وينقلوها إلى المقبرة، هناك قبرها محفور، سوف يُودعوها تحت التراب، والمشيعين سوف يعودوا إلى دورهم، هي ستبقى.
- سأل مير مح:
وإلى متى ستبقى هناك؟!
أجابه اصحابه:
هي ستبقى إلى الأبد.. هناك في دار الحق!
مير مح:
أنا أيضاً هكذا سأموت؟!
- نعم هذه الدنيا ليست ملك أحد، هي فقط ملك الله!، من يولد في ارض الله سوف يشرب من كأس الموت! نحن جميعاً سنموت.
ويقال عندما أدرك (مير مح) إن زوجته لن تعود، نهض وفاض بقصيدة من الشعر خلدت زوجته واشتهرت ليتناقلها الناس جيلا بعد جيل تحت عنوان غريبو.. وهذه مقاطع منها
القصيدة..
1 تعالوا
من الضروري أن تأتوا
القرى والجوارين الثمانية
لنتفق على الرأي
اليوم ينتابني حزن شديد
2 اليوم هو يوم البكاء
السوسن من الميركا المرج غار وانحسد
سنذوق من هذا الأكسير
3- بالشفاف الطرية طعم السكر
4- المؤسف أن ننفصل ونفترق
يا ربي انت الذي وهبتنا الحزن والدموع.
نحن راضين بحكمة الخالق
5- المؤسف أن نفترق
يا ربي انت الذي منحتنا الحزن والبكاء
نحن راضون بحكم الله
وما يأتي من بابك.
8-
اية ارض بلا هواء
كم جميل ومحبوب قد هربوا
كلهم وضعوا في التراب
9- لكثرة من هم في باطنها
بسبب استكبارها سنتركها
لكيلا يصاب بها أحد
11-
مكان مقبرتهم أظلم وبارد
يا ربي انت حرمت علي الربيع
هذه العصافير متى ستفرخ؟
12- لهذه العصافير لهذه الورود
الرياحين والعطور الزكية في كل الاماكن
الى ان نموت بالألم والحسرة
14- عبرت باب الكواكب
والاماكن البعيدة والقصية
بلا شك هم دلالاتك ونياشينك
15- شرع (مير مح) شرع واضح
بقدر شخص ينفصل من الأم
الخالق سيفي الجميع
لا أحد يبقى إلا ّملك القدرة
مير مح لم يكن يعرف أو لم يكن يرغب أن يصدق أن زوجته قد ماتت، كان يقول إنها دخلت في نوم عميق!، لكن عندما أدرك من أصحابه وخلانه إنها قد ماتت ولن تعود نهض وقال:
سأذهب إلى مكان لا يتواجد فيه الموت! وسوف ابحث عن دواء يقي الموت!
أمه وأباه، أصحابه وخلانه، توسلوا إليه ورجوه أن يبقى قالوا:
- أين تمضي ستلاقي الموت، لكن من دون فائدة، أحاديثهم لم تدخل في رأس (مير مح)، ودع الجميع، وركب مهرته، شدّ الرحال وغادر بلدته ومملكته، متوجها واخذ يدور ويدور إلى أن وصل إلى رجل يجلس على ضفةِ البحر سلم عليه وجالسه.
- خير أيها الشاب الجميل؟! من أين تأتي الى أين تمضي؟
- مير مح: سوف اذهب إلى تلك الأرض التي لا يتواجد فيها الموت!
- حسن أبقى معي، الموت عندي غير موجود!
- مير مح: كيف لا يوجد عندك الموت؟
- هل تشاهد هذا البحر!
- مير مح: قال له.. نعم
- كل يوم أغرف حفنة من ماء البحر وألقيها في الساحل، عندما ينضب ماء البحر أو ينشف، عندها سأموت، أنت ايضا ً أبقى معي.
- مير مح: ما دام في نهايتها موت، لن أبقى عندك، مع السلامة.
واصل مير مح سيره إلى أن وصل فتحة وادٍ عميق في جبل، شاهد افعى طويلة، تمتد بين صفحتي الجبل، حياها، وبقدرة الله تحدثت الأفعى وردت تحيته، سألته.
- خير أيها الشاب الطيب، من أين أتيت؟ وعن ماذا تبحث؟
- مير مح: هربت من بلدي، سوف اذهب إلى الأرض الخالية من الموت!
- قالت الأفعى: هل ترى مدخل الجبل؟
- نعم
- كل سنة ارمي جلدي فيه، إلى أن تملأ الفتحة من جلودي حينها سأموت!
- مير مح: لا.. المكان الذي فيه شبح الموت لن أبقى فيه.
وغادر مير مح، اخذ يسير يوم.. يومان.. ثلاثة.. عشرة.. إلى حين وصل مدخل جبل آخر أكبر، شاهد عصفور يغرد، حياهُ وبقدرة الله تكلم العصفور ورد على تحيته ومن ثم سأله:
- خير أيها المير الطيب، ماذا تفعل في هذه الجبال؟!، ما هو طلبك؟، من أين تأتي؟ وإلى أين تذهب؟!
- مير مح: حالي وقصتي مع الموت هي، أنا هربت من الموت وسوف اذهب إلى المكان الخالي من الموت، أنا ابحث عن دواء يقي من الموت!
العصفور: حسناً، هل ترى هذا الفتحة الكبيرة كل سنة ألقى فيها ريشةً واحدة ً من ريشي، إذا امتلأت الفتحة، حينها سأموت، أبقى معي سوف نعيش سوية بسرور!
ردّ مير مح.. بيتك معمور للمرة الألف، مادام الموت في أرضك موجود أيضا ً، هذه الأرض لا تصلح لي!،
(ومن سنٌ عال ومرتفع آخر في الوادي سمع صوتاً يقول: ولد طير في فتحة كبيرة لجبل وبالقرب من فتحة الجبل تل كبير للغاية من حبات الذرة. ذاك الطير قال لمير مح:
انا في كل يوم اكل ثلاث حبات من الذرة، عندما ينتهي تل الذرة ومن عرانيسه الفارغة تملأ الفتحة، بعدها سأموت!
غادر (مير مح) وواصل سيره إلى أن وصل قبة الفلك. تقدم الفلك ليستقبله، قال مرددا ً لعله يعرف بمصيبتي..
- حسناً (مير مح)! تستطيع أن تبقى عندي. الموت لا يتواجد هنا، لكن طلبي منك هو:
أنْ لا تذهب إلى رأس تل الغرباء الذي أمامنا، وعندما تذهب اليه ستندم.. لا تقول الفلك لم ينبهني، لأنك ستتحمل وزر أعمالك بنفسك.
يقولون:
مرت السنين تطوي الزمان، كان (مير مح) لوحده حائراً ضجراً، سأل نفسه عن سبب منع الفلك له من الذهاب لقمة تل، هاي.. هاي، يجب أن اعرف ما هو السبب؟
في احدى المرات التي لا يتواجد فيها الفلك في البيت سوف يذهب (المير مح) الى التلة المواجهة لقصر الفلك، هبت نسمات هواء غربية وتذكر اقرباؤه وجاءت الذكريات بخلانه قربتهم من عينية تذكر حارته ورائحة وطنه، تأثر.. دمعت عيناه، نزلت الدموع على خديه، فكر بقصر الفلك وزمان الفلك. عندما شاهده الفلك بهذه الحال عرف سبب ذلك قال:
- كأنك قد ذهبت إلى قمة تل هاي.. هاي؟!
- مير مح: الله حلاها وحببها لي، فذهبت إلى قمة التل، رائحة البشر والوطن دبت فيّ، أتمنى أن أعود الآن إليهم!
طلب الفك من (مير مح) أن يبقى معه، لكن من دون فائدة. قال الفلك:
- الم اقل لك لا تذهب إلى رأس تل، هاي.. هاي، ذاك تل الغرباء، كل من يذهب اليه سيندم!
لم يجدي نفعاً الحديث مع مير مح لإبقائه هناك.
- طالما سترجع إلى مكانك، خذ هذه التفاحات الثلاث معك، كل مرة تشمها ستبقى شاباً! لكن استحلفك مائة مرة، أن تنتبه لنفسك، ولا تعطي هذه التفاحات لأحد، وستخسر وتندم إن فعلتها، ولن تصل لأمانيك!!
فرح مير مح وانشرح، وضع التفاحات الثلاث في خرجه.. امْتطى مهرته، تبعته السلوقية وكلابه، وخطى ليعود إلى حيث وطن ابائه وأجداده.
مرّ يوم، يومان، شهر، على سيره في طريق العودة، وصل الجبل الذي شاهد فيه العصفور، وجد مدخله ممتلئاً بالريش، والعصفور فوقها ميت، والمدخل الآخر العميق، خلف القمة الثانية مملوء بعرانيس الذرة، والعصفور مازال حيا ً، حياه، سأله كيف حالك؟
- قال العصفور:
انت ترى بقيت ثلاث حبات من الذرة فقط.. اليوم سوف التهمها.. بعدها سأموت!
- مير مح عرفت إن الموت يتواجد عندك لذا لم أبقى معك
وواصل مسيره في طريق العودة مشواراً بعد آخر لحين وصوله الجبل الذي كانت فيه الأفعى، وجد المكان مملوءً بالجلود والأفعى ميتة فوقها! (وقمة الجبل تقول الحية التهمت كل التل الترابي الكبير بعدها ماتت).
غادر مير مح الأفعى ومدخل الجبل، وسار، سار إلى أن وصل مكان البحر، الذي مرّبه وعبر من جسوره منذ دهور، لم يجد أثراً للبحر هناك، رأى فقط فلاحاً يحرث الأرض، حياه وسأله:
- يا عم! سوف سأقول لك شيئاً لكن أرجو أن تقل لي الحقيقة وألا تعتبرني معتوه ومجنون!!
- الفلاح: لا أيها الشاب الطيب، الشيء الذي اعرفه سوف أقوله لك، والشيء الذي لا اعرفه لا تلمني عليه، ولن انزعج من أسئلتك، تفضل اسأل عنما تريد ان تستعلم عنه؟!
مير مح: رأيت بعيني هذه الأرض التي تحرثها للزرع كانت بحراً
نظر الفلاح لمير مح، التمس له العذر كونه شاباً يافعاً.. كيف يمكنه ان يتذكر ان هذه الأرض كانت بحراً! قال في نفسه:
- انا رجل هرم وكبير في السن وأبي من قبلي كان يقول هذه الأرض كانت أرضنا، فكر ملياً فيما يقوله الشاب وقال لمير مح:
- يا بني! انت شاب محترم وعزيز.. يؤسفني أن تقول هذا لي وارجو ان لا تتفوه بمثل هذا القول امام احدٍ!
أدرك مير مح ان الفلاح لم يصدقه، قال:
- يا عم! ما ذا يسمون هذه الأرض التي تعمل فيها وتحرثها الآن؟
- الفلاح: يسمونها مزرعة البحيرة!
- رد مير مح على الفلاح.. نعم يا عم أنا مجنون، وداعاً!
وامتطى مهرته عائدا ً نحو مدينته.. يسابق الزمن، يطوي الساعات والأيام والشهور والأعوام.. هكذا هي القصة تقرب البعيد وتبعد القريب.. الى حين وصول مير مح مدينته التي فارقها، وجدها قد تحولت إلى مدينة كبيرة مترامية الأطراف، شوارعها وأزقتها متغيرة لم تعد كما كانت، وكل شخص يستعلم منه عن بيت أبي مير مح، لا يستدل منه على جواب، كان الناس ينظرون اليه باندهاش وتعجب يقولون:
- لم نسمع بأي اسم لعائلة مما تقوله في هذه المدينة! يمرون ولا يكترثون به.
لم يبقى أمام مير مح من خيار، إلا أن يطلق العنان لمهرته قال:
سأتكل عليك، وأنت على الله، أي بيت تدخلين فيه رأسك سيكون هو بيتنا وسوف نحل فيه ضيوفاً..
ويقال بقدرة الله، المهرة، مرقت بالشوارع وتوجهت عبر الأزقة والدرابين، فوصلت الى باب بيت مير مح.. كان في فناء الدار رجل كبير مسن، شاهد الفارس الشاب الذي يلفت الأنظار، فصاح على اولاده:
- هيا انهضوا وادعوا هذا الفارس ليدخل البيت.
أسرع أحد ابنائه في استقباله، استلم مقود المهرة منه، ودخلا سوية للدار، فرشوا له المكان وهموا بإعداد وجبة العشاء، بعد الطعام سأل كبير العائلة ضيفه:
- أيها الشاب الطيب! نرحب بك وصلت بخير وسلامة، هنيئا ً مريئا ً، والآن قل لنا عن حاجتك ومقصدك، ما هي همومك ومطالبك؟
- مير مح: يا عمي! ماذا اقول؟ سوف لن تصدقوني، وسوف تقولون أحاديث هذا الشاب غير معقولة وفيها مس من الجنون والهبل!
كبير العائلة، الرجل المسن، قال له تفضل يا بني قل ما عندك.
- مير مح: أنا ابن هذه البلدة، وهذا البيت الذي أنتم فيه هو بيتي!
القى عليه الرجل المسن نظرة فاحصة ودقق فيه ملامحه وقال:
- انت شاب عزيز وفاهم، لكن للأسف يبدو إن عقلك قليل! واسترسل الرجل في حديثه وقال:
- ابني الكبير بعمرك مرتين. وأبي وأجدادي ولدوا وتربوا وكبروا وماتوا في هذا البيت، كيف تقول هذا بيتك؟!
- مير مح: حسنا ً، الرجال يؤمنون بالأدلة، لدي نيشان في هذا البيت، إذا ثبت ما قلته هل ستصدقون أم لا؟
الجميع قالوا: لكن قل ما هو دليلك، إذا استوعبه مُخنا وقبلهُ سوف نصدقك، إذا كان منطقيا ً كيف لا نصدق؟
مير مح: هذاك المعلف الذي تلتهم المهرة منه العلف، احفروا تحته ستجدون ساج، وفيه ستجدون مقود ولجام مهرتي هذه، وبعد أن ترفعوا الساج ستجدون جرة مملوءة بالذهب!
قال الرجل المسن: هذه ادلة جيدة، إذا تأكدت، سوف نصدقك.
بسرعة نهض عدد من الشباب ليستبدوا مكان المهرة، اخذوها ليربطوها في مكان آخر، وحفروا المكان الذي حدده مير مح، شاهدوا الساج ومقود ولجام المهرة، وضعوها جانبا ً فشاهدوا جرة الذهب.
انتشر الخبر بسرعة في البلدة قالوا: هذه قصة الرجل.. والأدلة التي قالها تبينت صحيحة.
وصلت السالفة إلى كهل معمر ليستفسروا منه:
- جدو! ماذا تقول عن هذه القصة؟!
- قال الجد: سمعت من آبائي واجدادي، كانوا يقولون:
ابن امير مدينتنا عندما ماتت زوجته غادرها بسب المحنة والحزن الشديدين.. ومنذ ذلك الزمن ضاع الفتى ولم يعرف عنه شيئاً.. لا أحد يعرف الى اين ذهب!، لا توجد آثار تدل عليه، كانوا يقولون إن أسمه محو!، اذهبوا اسألوه عن اسمه إذا كانا محو سيكون هو!! عادوا سألوه ماذا اسمك؟ قال: اسمي محي!
الجميع صاحوا في آن واحد.. صاحوا، إنه هو!! أدلة مير مح عن الجرة والذهب تطابقت مع حديث الجد المعمر. تجمع الناس حول محي وسألوه:
- أين كنتم.. أنت ومهرتك طيلة هذا الوقت؟!
- مير مح: قص عليهم قصته من البداية حتى النهاية، ماذا جرى له واين ذهب ولماذا وكيف عاد؟
قال صاحب الدار لمير مح: يا بني! صحيح هذا بيتك، مبروك عليك، ومن الصباح سوف نخليه لك وسنذهب الى دار ثانية.
مير مح: لا ايها العم! بيتي حلال عليكم، حللوا ما تناولته في بيتكم من خبز، وسوف اعود الى المكان الذي جئت منه، لأني أصبحت غريباً هنا.. معارفي وأقربائي، اصدقائي وخلاني، جاري وأهل قريتي، لم يبقى منهم أحداً. ماذا سأفعل؟ بمن سأتصبر؟ لحوا عليه لكنهم لم يتمكنوا من إقناعه للبقاء معهم.. في اليوم التالي ودع اهل الدار ومرة ثانية توجه نحو الطريق الذي عاد منه، توجه الى قبة الفلك! كان مطمئنا يواصل سيره ولا يحتاج للاستفسار والسؤال انه يعرف وجهت. ويقال ان جبرائيل قال مكلما ً الله:
- يا إلهي.. إذا وصل ثانية المير مح لقبة الفلك سوف يتخلص من حكم الموت ويصبح من الخالدين، عندها سيصبح من الملائكة..
- قال الله لجبرائيل: هذا عملك، اذهب استوقفه، قل له شيئاً.. لا تدعه يصل الى قبة الفلك!
يقال، تنكر جبرائيل بهيئة بابا درويش وقاد طفل مريض من يده وتوقف في طريق مير مح، بعد أن حياهم مير مح استفهم من الدرويش: خيراً؟!
بابا درويش: لخاطر اسم الله، هل ترى هذا الطفل المريض المقترب من الموت، امنيته ومطلبه تفاحة.. رائحة التفاح تأتي منك فقصدت الله وقصدتك من بعده، رجائي من أجله تفاحة تمنحها لي..
- مير مح: بابا درويش.. الله يرضى عنك، كل هذه البساتين هي اشجار تفاح، هذه المدينة قريبة وفيها العديد من الدكاكين، اذهب واقتني تفاحاً لمريضك!
- بابا درويش: انت ترى هذا الطفل ينازع الموت وأنا انسان فقير، لا اريد ان أذهب الى بساتين الناس، وبالحرام اقتطف تفاحاً من الشجر..
رق قلب مير مح فأعطاه تفاحة اخرجها من خرجه ووضعها في يد البابا درويش وافترقا. وفي اللحظة ذاتها نبتت شعرات بيضاء في رأس ووجه المير مح وأصبح سمعه ثقيلا ً وخفت نظره قليلا وبانت على ظهره انحناءة وظهرت التجاعيد في جلده وتحولت مهرته الى فرس وبان التعب على كلابه والسلوقية، لكن مير مح واصل سيره..
مضت أيام على سيره، مرة ثانية تنكر جبرائيل بهيئة بابا درويش آخر وظهر في طريق مير مح.. حياه وقال له:
- باسم عشق اسم الله: ابني الذي هو في عمر الزواج ينازع الموت ومطلبه تفاحة، وقد أصل اليه او لا أصل.. اخاف ان يموت ولا احقق امنيته ومطلبه في الحصول على تفاحة، وسوف يبقى ذلك أثراً مؤلماً وحزينا في قلبي إلى أن اموت لن أنساه أو يغيب عن بالي.!
- ثانية قال مير مح: الله يرضى عنكم ايها الدراويش ويعمر بيوتكم، دائما تبحثون عن الشيء الحاضر. هذه المدينة.. في خاصرتك.. هذه بساتين وأشجار تفاح، اذهب اقتطف ليس واحدة بل عشرة منها لولدك، لوجه الله، من دون نقود.
البابا درويش لم يكف من الحاحه على مير مح، استعطفه وتوسل ايه كثيراً واخذ يكرر توسلاته ويعيدها، إلى ان مل مير مح وضجر، فقام بإخراج التفاحة الثانية من خرجه ووضعها في يد بابا درويش.
في الوقت الذي خرجت التفاحة من يد محي، ابيض جميع شعر رأسه، وتقوس ظهره، وهدلت حواجبه، وقل نظره، أصبحت آذانه توشوش وسمعه ضعيفا ً، فرسه هزلت اصبحت جلد وعظم، كانت تخطو خطوة وتتوقف طويلا لا تستطيع مواصلة السير، وتخلفت عنه السلوقية والكلاب لمسافة بعيدة.
وعلى كل حال.. واصل مير مح سيره، إلى أن وصل الى أطراف قبة الفلك. حينها.. كان الفلك جالسا ً على تل الهاي هاي، كان يشاهد المير مح.
وظهر جبرائيل للمرة الثالثة بهيئة درويش جديد، وطلب من مير مح تفاحة أخرى. مير مح لم ينسى شرط الفلك، صاح به الفلك:
- مير مح.. لا تعطيه التفاحة، لا تعطيها!!
لكن آذانه كانت ثقيلة السمع، لم يسمع جيداً، استفسر من بابا درويش.. ماذا يقول؟
بابا درويش.. يقول: أسرع.. اعطه التفاحة الباقية.. أسرع! لقد وصلت الى بستان التفاح بالقرب مني، انت لست بحاجة للتفاح!!
صحيح مثلما يقول الفلك: الأمين جبرائيل، أبدل من هيئتي، ووقف امام مير مح بدهاء وحيلة..
اخرج مير مح التفاحة الثالثة من خرجه، ومنحها للبابا درويش، عندها، المير مح والفرس والسلوقية والكلاب ماتوا في الحال، وتحولوا الى كومة من العظام.
عندما مات مير مح، جاء الفلك ووقف على جثته وردد هذه الغربة عليه:
قال الفلك:
مير محو! حل المساء النوم لا يأتي لعينيّ
البير والميزان ارتفعا في السماء
جاءت نجمة الصباح ووضعت كتفها تحته
الأسف يعتريني كما اعترى دنون المصري
...
المير ابراهيم آدم
ترك التخت وتنازل عن الميرية
وتوجه الى لالش النوراني
حاملا هموم وهواجس الدنيا
إنه المساء والنوم لا يأتي
البير والميزان ارتفعا في السماء
جاءت نجمة الصباح ووضعت كتفها تسنده
الفلك قال:
الأسى الذي يلازمني يشبه أسى دنون المصري
حسين وحسن
المير ابراهيم آدم
ترك التخت وتخلى عن الميرية
توجه ل لالش النوراني
وحمل هموم وهواجس هذه الأمة..
قال الفلك:
مير مح.. كم مرة قلت لا تذهب الى رأس هذا التل!
فلك المؤمنين والتوابين
بعد مير مح انا
لن اعطي عهدا لكل من يسافر
هذا ما ورد في العدد الخامس من مجلة لالش كما ثبتها الباحث بدل فقير شمو حيث احتوت على الأسطورة والقصيدة المكونة من 25 بيتاً وقطعاً شعرياً يجسد حكاية اسطورة مير مح.. وأياً كانت التفاصيل والاختلافات المروية عنها فإنها في الجوهر لا تبتعد من اجواء ملحمة كلكامش ومحتواها المشبع بالمفاهيم الفلسفية الفكرية والتصورات والأسئلة البكر عن الحياة والموت والمسعى للخلود في مسيرة الإنسانية وجدير بنا ان نوسع الاهتمام بهذا الإرث ونعيد استنتاجاتنا عنه خاصة من زوايا متعددة تتجاوز التاريخ واهمية الاكتشاف الميثولوجي وأسبقية الأديان ونسبها لهذه المجموعة البشرية ام تلك للتفاخر والتأصيل العنصري المرفوض في عصرنا بحكم انتسابنا لشجرة الإنسانية بتفرعاتها واغصانها الممتدة للأعلى والأطراف دون ان تنفصل عن الجذر.. وكان من أجمل ما كتب في هذا المجال ما ذهب اليه الشاعر سفيان عرب شنكالي في مقال بحثي له تحت عنوان (في فلسفة الديانة الأيزيدية في قصة مير مح وفلك !) عن الزمن في هذه الأسطورة وما له علاقة بالنظرية النسبية لأينشتاين ويمكن للقارئ ان يعود اليه للمزيد من التفاصيل في موقع بحزاني الالكتروني..
ناهيك عن بقية الجوانب المهمة التي لها علاقة:
1 الموت كحقيقة مطلقة لا مفر منه
2 والرحلة والترحال المضني بلا نتيجة والعودة للاستقبال الموت وتقبله بعد جهد وعناء بيقين بشري مدرك للبداية والنهاية وان حمل هذه النهاية مظاهر التحول في غالب الاحيان
3 وحدة الوجود وصراع الاضداد. هذه البذرة الجنينية للفلسفة المادية التي انضوت في مجرى الأسطورة ونمت معها من البداية حتى النهاية.. لتعكس تصوراً عميقاً ودقيقاً في الادراك من ذلك العهد والزمن وفقاً ما ورد فيها من ايحاءات ومؤشرات واضحة القصد والمعنى بمحتوى فلسفي يجسد حب المعرفة وفهم الجديد دون ان نغفل رمزية البحر والحية والطيور والصيد والزرع والفرس والكلاب السلوكية والفلاح وحبات السمسم او الذرة وحتى الريش وجلود الافاعي ناهيك عن الدرويش والكواكب التي لكل منها معنى وضف بشكل دقيق في الأسطورة ومنحها بعدا ميثولوجياً عميقاً وفقاً لمفاهيم ذلك العصر..
التي عكستها الملحمة في رؤية جميلة ومشوقة لتوضح تصور الناس عن الحياة والمستقبل من سؤال الموت.. وهو سؤال مهم واجه الانسان العاقل بداية مع تطور فكره.. وما زال يشكل محوراً من هواجسه حتى الان..
مقتطف من الفصل الرابع من كتاب ( الإيزيدية ..محاولة للبحث عن الجذور )
الطبعة الأولى .. دار طهران للطباعة والنشر 2021.[1]