عن الأنفال وما مرّ به ابو عمشه ومجموعة انصار الفوجين الأول مراني والثالث كلي هسه والعوائل الذين حوصروا في مراني وشعاب كاره قبل أنْ يتفرقوا يقول: محاولاً استذكار تلك الأيام القاسية..
سأبدأ من توقف الحرب واعلان الخميني تجرعه للسم.. كما نقل عنه من تصريح بهذا الشأن في ذلك الحين .. حينها كنتُ اقود لجنة محلية دهوك في مقر الفوج الثالث بين شعاب كلي هه سبه خلف قمم بامرني.. أذكر من الكوادر المتواجدين في المقر يومئذٍ .. كاروان عقراوي.. ابو مازن.. والنقاش الذي حدث عن مرحلة ما بعد توقف الحرب .. الخوف والقلق كان طاغياً من احتمال شبه أكيد عن قرب هجوم متوقع على مناطق الانصار في كردستان خلال أيام معدودة قادمة ليس إلاّ ..
هذا ما حدث فعلا ..
إذ توقفت الحرب في 08-08-1988 .. وبدأ الهجوم الفعلي علينا يوم 25 -08-1988 وشمل كافة مناطق بهدينان .. للأسف كنا في هذا الوقت الحرج مشغولين بقرار توحيد التنظيم بالأنصار ودمج قوى التنظيم المدنية بتشكيلات الانصار العسكرية في اطار وحدة عمل وقيادة جديدة ربطت الانصار بإقليم كردستان ..
كان القرار في جوهره بداية لتصفية الكفاح المسلح ..
لم تكن هذه الاجراءات صدفة وعكست وجود صراع داخل الحزب شملت بدرجة كبيرة قيادته.. اسفرت عن هذه القرارات المستعجلة.. في هذا الظرف العصيب.. وهي صيغة تقترب من اسلوب عمل الديمقراطي الكردستاني .. لم يكن قرار الدمج مدروساً بشكل جيد.. ولم يجري التعمق في مدى خطورته وتم الاستعجال في تطبيقه..
توجهنا انا وأبو عادل السياسي مع ملازم هشام .. الذي اصبح المسؤول العسكري.. نحو السرية الثالثة.. في بري كاره ومناطق العمادية.. من أجل البدء بتوحيد العمل ودمج انصار السرية الثالثة بالتنظيم المدني ..
في هذه الأجواء المعقدة.. وصلتنا عدة رسائل من دهوك والداخل تؤكد.. أن الجيش طلب حجز كافة الفنادق والمطاعم في الاقضية والنواحي التابعة لدهوك ابتداء من15-08 -1988 وبتاريخ 18-08-11988 بدأت طلائع تشكيلات الجيش العراقي بالتوجه والتواجد في مناطق مختلفة من بهدينان. بدأنا بالتنسيق مع مفارز الحزب الديمقراطي الكردستاني لضرب القطعات الاولى للجيش .. كنا نتساءل ونتناقش ..
هل هو تقدم عادي كما يحدث في كل مرة؟..
ام هو بداية تمركز وتواجد طويل بغية شن هجوم واسع النطاق للقضاء على الانصار وابادة الاهالي والمتواجدين في كردستان؟! ..
تشكلت قيادة القاطع من ملازم هشام / ابو عمشه / ابو سالار / ابو سربست/ توفيق / ابو عادل وللأسف من وضعوا في مسؤولية قيادة القاطع.. كانوا بعيدين عن اوضاع المنطقة.. وتجربة الانصار ولهذا لم نستكمل اجراءات التوحيد.. حيث تفجرت الاوضاع مع بدء الحصار والهجوم الواسع النطاق في كافة المحاور. لهذا عاد ابو عادل الى كلي هه سبه.. وتوجهت بدوري الى الفوج الاول.. لأجل ترتيب الاوضاع والاستعداد للمواجهة وانقاذ العوائل..
لم يكن الأنصار في الفوج الأول.. مهيئين لمواجهة التطورات.. وسرعة تحرك الجيش.. من عدة محاور شملت.. الشيخان .. اتروش ..عقرة .. دهوك .. زاويته .. زاخو.. وبدأت القذائف تتساقط على المقر في مراني مستهدفة الأنصار ومن حولهم من اطفال ونساء وعجزة.. تحت ضغط القذائف بدأنا بالتفكير بمصير العوائل .. كانت هناك مجموعة من الانصار المرضى ممن تهيؤا للسفر للعلاج في الخارج .. توجهوا للفوج الثالث وانقطعت اخبارهم.. كان سلام قوال أحدهم..
علمنا ان الطريق التي سلكوها قطعت بفعل تمركز الجيش والكمائن في اليوم الثاني لعبورهم .. لهذا فكرنا بالتوجه نحو مناطق اربيل عبر دشت نهلة وكلي كافيه وبارزان .. لكن الجيش سبقنا عبر محور العمادية / بري كاره.. ووصل مقر الاقليم في كافيه قبلنا . في 25-08- 1988 بدأ الهجوم الواسع من عقره نحو نهلة و الزيبار ليلتقي عند قمم الجبال المواجهة للعمادية مشكلا كماشة.. مع القوة المتقدمة في نسق آخر من محور دير آلوك .. شيلادزه .. الزيبار .
نبهنا الأهالي المنسحبين عكس اتجاهنا ..اننا لا نستطيع المواصلة والعبور.. بسبب سيطرة الجيش على كافيه ومناطق بري كاره.. توقفنا وسط الطريق .. حوصرت مئات العوائل في شعاب الجبال .. وتوجه الانصار والفلاحين مع العوائل لشعاب كاره الوعرة .
كنا قبل أن نتحرك قد ارسلنا ابو فارس ( دخيل سلو ) الى مقر حدك في سيدرا لم يكن هناك الا پيشمركة وحيد أكد.. ان غالبية الپيشمركة من محلية الشيخان انسحبوا مع مسؤولهم ( علي خنسی ) وتوجهوا لقمم كاره .
في كاره أصبح الوضع مزري للغاية .. اضطرينا لترك ورمي ما كنا نحمله من طعام لأجل نقل المعوقين والمرضى على الحيوانات.. كان ابو فيلمير يعترض على لجوئنا لذبح الخرفان المتروكة تسرح في الجبال دون اصحابها .. وهناك واجهنا اعقد مشكلة تتعلق بالعطش وصعوبة الحصول على الماء بعد أن استحكم الجيش والجحوش بمنابع المياه ..
اصبح جلكان الماء يباع بخمسين ديناراً من قبل اشخاص استغلوا المحنة.. بعد أن اختلط الانصار والفلاحين من مناطق مختلفة في رقعة جغرافية محدودة ..محاطة بالجيش و الجحوش.. الذين يسبقون العسكر في الحركة والتقدم والانتشار لفرض طوق محكم حولنا.
في هذه الأجواء المتلبدة.. التي تنشر اليأس في النفوس.. بدأ البعض بالتفكير بالتسليم لقوات السلطة و الجحوش .. كان الجحوش ينسقون لأجل انقاذ اقرباء لهم بين المحاصرين.. وبذلوا جهداً لترتيب امر تسليمهم .. حينها فكر البعض من الانصار بإرسال عائلاتهم مع الأهالي ..
لكن الضابط المشرف على التقدم والهجوم قال :.. إذا كان القرار قراري وعلى بختي ليأتوا لن يصيبهم مكروه .. لكن انا واثق ان السلطة بأمر من صدام سوف تعدمهم .. لذلك ارتبك من كان يرغب في التسليم وتردد .. في ذات الوقت جاء رجل دين مسيحي من عقره لأجل ترتيب وضع العائلات المسيحية في قرى دشت نهلة .. وحذرنا من أن السلطة عازمة على قتل من يقع في قبضتها دون رحمة.
تفاقمت مشكلة الجوع بسبب افتقادنا للطعام .. كان كفاح قد جلب كمية لا بأس بها من الارزاق معه لكننا وضعناها في الطريق ..
حاولنا ارسال مجموعة عبر طريق طاژيگه لمعرفة مدى امكانية العبور من هناك لكنهم عادوا خائبين إذ لم يتمكنوا من العبور .. تأكدنا اننا محاصرون من جميع الجهات.. وتفادياً لحدوث كارثة محتملة اتخذت قيادة الفوج قراراً بالانسحاب دون قتال، وكانت مفرزة اخرى قد وصلت من دشت الموصل فقررنا العودة لمناطق الفوج الأول من اجل الحصول على الغذاء ..
في الطريق سمعنا قرار العفو الذي صدر بتاريخ 06-09-1988 .. وقبل الوصول بحثنا انا وعلي حاول عن الشلب المحصود .. جلبنا كمية منه لأجل طبخ وجبة منه دون تقشير، وبالرغم من الوضع المأساوي حدث احتكاك مع اهالي بري كاره.. بسبب مشكلة قديمة.. حدثت لهم مع أنصار العمادية قبل سنوات.. ناجمة من نشاط عميل للسلطة .. كانوا قد هربوا هم أيضا إلى قرية ميروگي الاشورية واحتموا بدير قديم فيها.. ورفضوا تواجدنا معهم.. فتوجهنا لگاره مع الأعداد الغفيرة من الفارين من قراهم .. كانت خطة السلطة أسرهم واعتقالهم.. لكنهم تركوا ممتلكاتهم ونفذوا إلى الجبال .. شاهدنا أثناء مرورنا في قراهم بيوتهم مفتوحة.. وصحون الطعام والملابس كما هي.. لا بل مررنا ببيوت كانت قدور الطعام ما زالت على النار خاصة في بري گاره.
بعد يومين من دون ماء وطعام قررنا النزول ليلا لجلب الماء .. النوم في العراء تسبب للكثيرين بالأمراض وتناول اللحم وحده دون ملح.. تسبب في حالات إسهال شديدة للبعض ..
بعد يومين أو ثلاثة قررنا العودة الى مراني .. وصلنا سيدرا من كلي بوطيا ..التي كان فيها عين ماء صغيرة تنفث عبر سنسول ضعيف ماءً يتجمع في أحواض خشبية رتبها الرعاة لسقي الغنم والماشية .
أثناء سماع قرار العفو زغردت بعض النسوة.. كانت أم شفان إحداهن .. قلت لها.. لا تفرحي .. هذه اكذوبة لا تصدق .
بدأنا سلسلة اجتماعات قادها أبو سالار بمشاركة أبو سربست / أبو عمشه / هشام/ توفيق / أبو امجد .. بعد نقاش حاد حول الوضع والموقف من العوائل .. ( كنا ننتظر وصولك يقصد كاتب السطور صباح كنجي من أجل أن تسحب البعض للداخل ) .. تم اتخاذ قرار تسليم العوائل والپيشمركة المرضى والشباب وقد شملني قرار المرضى حسب تشخيص أبو سالار بالتسليم .
قلت مستفسراً .. ماذا تقصد بقرار تسليم المرضى وبقية الإجراءات التي طرحتها؟!! .. مؤكداً لا أريد أن ادخل في نقاش عقيم معك في هذه الظروف ورغم أن النقاش معك غير مجدي أكدت:.. هذا ليس حلا للمشكلة التي تواجهنا .. هذا ليس الاّ تسليم الخروف للذئب كما يقول المثل .
حينها سألني أبو ناتاشا .. وقال فيما كتبه عن الأنفال في حلقات.. ( أبو عمشه كان عصبياً بسبب الموقف الهزيل وللأسف لم يعارض أحدا هذا الطرح إلا أبو عمشه )..
أحسستُ أن أبو سالار يحاول الهروب .. حاولت أن اعرف منه توجه الحزب لكنه لم يشر الى الوجهة .. كان قد وصلنا مبلغ 1500 دينار أرسلتها لرفاق محلية نينوى.. للأسف احرقوها قبل أن يفتحوا الرسالة التي فيها المبلغ ..
بعد ذلك بتاريخ 8/9/1988 جاء أبو سربست .. وأوضح سنقوم بمهمة مرافقة العوائل.. أثناء وجودنا في ضل أشجار الجوز لتوديع العوائل وصلت طائرتان هليوكوبتر فيها دوشكات كانت تحلق فوق الأشجار مباشرة، وتطلب من الناس الحركة والتوجه عبر مسالك الجبل نحو القطعات العسكرية.. شاهدت شقيق درويش داكا ينزع ملابسه ليرفع فانلته البيضاء علامة الاستسلام.. وبدأت مسيرة الفراق المؤلمة .
أم عمشه ووالدتي وشقيقتي بكية وكفاح الحّوا كثيراً من اجل أن لا يسلم الجميع.. في ذلك الوضع العصيب من تلك اللحظات المؤلمة التي لا يمكن وصفها تحت أشجار الجوز.. طلبت من والدتي أن تحلل حليبها علي .. أما زوجتي أم لمياء فقالت اقدر الوضع .. ولم يتمكن أبو سربست من توديع عائلته .. توجه البعض منهم إلى صوصيا والقسم الآخر نحو معبر آفوكي باتجاه سوار و اسپندار ..
في حينها كان میرزا كورو في أطراف قرية كاني باسكا يتوجه للدشت ..
كانت الطائرات تقصف ليلاً ونهاراً وحولنا العوائل من اطراف مراني إلى كاره وكان القصف مستمراً في النهار والليل .. آفوكي قصفت بالكيماوي قبل العفو.. أثناء التقدم العام في الأنفال.. وكان مقر القاطع قد تعرض هو الآخر للقصف الكيماوي للمرة الثانية.. وتحدث عنه بالتفصيل النصير سلام إبراهيم أبو الطيب في روايته في باطن الجحيم.. كذلك جرى قصف بري كارا بالكيماوي.
في آفوكي ماتت الحيوانات والطيور وأصيب الناس بالعمى و يبست رؤوس الأشجار واصفرت أغصانها.. لهذا اتخذنا احتياطات بسيطة.. تمثلت بوضع بطانيات مبللة.. في فتحات الكهوف.. التي لجأنا لها حينها.
بعد وصول العوائل إلى كاني ماسي بينهم بيبو خورزي أبو حازم.. وأبو خدر ملا جبرا مع دجاجتين وحصان له برفقة عائلته.. استلمها منه احد الضباط في الحال ، وكذلك درويش داكي وشقيقه سلموا مع العوائل..
أما خدر باكو شقيق علي حاول النصير ابو جمال مراني.. الذي كان شبه معوق بسبب إصابته القديمة بطلق ناري في قدمه.. مع مجموعة أخرى من العوائل.. فقد ذهبوا إلى آفوكي .. ومن هناك نقلوا إلى أتروش .
و انسحبنا نحن الباقين لكهف صباح كنجي.. وجدنا فيه عدد من كوادر حدك.. قالوا لنا انقطع اتصالنا مع قيادتنا.. بعد ساعات وصل خالد باني.. وبالرغم من وجود علامات استفهام حول وضعه وارتباطاته علمنا منه.. أن خليل أبو شوارب مع مجموعة من الأنصار في الدشت حيث التقى بهم في القيصرية.
سألنا خالد بدوره عن جماعته.. إن كنا قد شاهدناهم.. قلنا له: لقد غادروا.. بعدها عدنا إلى كاره ننتشر على شكل مجموعات يفوق عددها على المائة نصير.. بمن فيهم مجموعة من أربيل.. وبدأنا نخطط من جديد لمرحلة ما بعد العوائل .
علمتُ إن أبو سالار يخطط للخروج إلى سوريا.. كنت لا ارغب في مناقشته .. بعد أن قال: كل واحد يخلص نفسه مع أي مجموعة .. بدأ يفكر بنفسه فقط وكيفيه خلاصه منذ أيام ..
واثناء توجهنا نحو معبر كافيه.. في الوقت الذي بادر أنصار أربيل لحمل الأطفال وإنقاذهم من المتبقين .. وكانت نقاشاتنا تتركز حول سبل الخلاص .. قلت ل أبو سلام و ابو فارس يمكن إنزال العوائل وإنقاذهم عبر معبر سنجار .. لكنهم كانوا قد وهنوا .. اخذوا يفكرون بالتسليم بشكل جدي بعد نزول العوائل وطرحوا إمكانية مساعدتهم من قبل صالح نرمو بحكم وجود صلة مصاهرة به .. حذرتهم قائلا سوف أعود بعد ساعات .. حينما عدت كانوا قد غادروا للأسف ..
#صباح كنجي#
فصل عن الأنفال من مشروع توثيق بعنوان.. ( ابو عمشة يتذكر .. ) سيتم نشره على حلقات ..كان قد انجز من 5 سنوات وينشر لأول مرة..[1]